ثالثًا: الإحسانُ إليهما وحُسنُ صُحبَتِهما
مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالدَينِ: الإحسانُ إليهما، وحُسنُ صُحبَتِهما ولَو كانا كافِرَينِ
[1084] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّ اللَّهَ تعالى قد أوجَبَ علينا الإحسانَ للأبَوينِ، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ ألَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] ، فقدَ سَوَّى بَينَ عِبادَتِه وبَينَ الإحسانِ للأبَوينِ في الوُجوبِ). ((المفهم)) (4/ 344). وقال الرَّزايُّ: (اعلَمْ أنَّ الإحسانَ إلى الوالِدَينِ هو أن يَقومَ بخِدمَتِهما، وألَّا يَرفعَ صَوتَه عليهما، ولا يَخشُنَ في الكَلامِ مَعَهما، ويَسعى في تَحصيلِ مَطالِبِهما والإنفاقِ عليهما بقَدرِ القُدرةِ مِنَ البِرِّ، وألَّا يُشهِرَ عليهما سِلاحًا...). ((مفاتيح الغيب)) (10/ 76). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسنَّةِ: أ- مِنَ الكِتابِ 1- قال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] .
2- قال تعالى:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36] .
3- قال تعالى:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] .
4- قال تعالى:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24] .
(لقد بالَغَ سُبحانَه في التَّوصيةِ بالوالدَينِ مُبالَغةً تَقشَعِرُّ لَها جُلودُ أهلِ العُقوقِ، وتَقِفُّ عِندَها شُعورُهم؛ حَيثُ افتَتَحَها بالأمرِ بتَوحيدِه وعِبادَتِه، ثُمَّ شَفَعَه بالإحسانِ إليهما، ثُمَّ ضَيَّقَ الأمرَ في مُراعاتِهما حَتَّى لَم يُرَخِّصْ في أدنى كَلِمةٍ تَنفَلِتُ مِنَ التَّضَجُّرِ مَعَ موجِباتِ الضَّجَرِ ومَعَ أحوالٍ لا يَكادُ يَصبرُ الإنسانُ مَعَها، وأن يَذِلَّ ويَخضَعَ لَهما، ثُمَّ خَتَمَها بالأمرِ بالدُّعاءِ لَهما والتَّرَحُّمِ عليهما، وهذه خَمسةُ أشياءَ كُلِّف الإنسانُ بها في حَقِّ الوالِدَينِ)
[1085] ((فتح البيان)) (7/ 378). ويُنظر: ((لباب التأويل)) للخازن (3/ 127). .
5- قال تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14-15] .
عَن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، عَن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه نَزَلَت فيه آياتٌ مِنَ القُرآنِ، قال:
((حَلَفَت أمُّ سَعدٍ ألَّا تُكَلِّمَه أبَدًا حَتَّى يَكفُرَ بدِينِه، ولا تَأكُلَ ولا تَشرَبَ، قالت: زَعَمْتَ أنَّ اللهَ وصَّاكَ بوالِدَيك، وأنا أمُّكَ، وأنا آمُرُكَ بهَذا، قال: مَكَثَت ثَلاثًا حَتَّى غُشِيَ عليها مِنَ الجَهدِ، فقامَ ابنٌ لها يُقالُ له: عُمارةُ، فسقاها، فجَعَلَت تَدعو عَلى سَعدٍ، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في القُرآنِ هَذِه الآيةَ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي [العنكبوت: 8] ، وفيها وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] )) الحديثَ
[1086] أخرجه مسلم (1748). .
وفي هذا دَلالةٌ (على عِظَم حَقِّ الوالدَينِ على الولَدِ؛ فإنَّ اللَّهَ يَأمُرُه بها أن يُصاحِبَ والدَيه المُشرِكَينِ في الدُّنيا بالمَعروفِ مِنَ البرِّ والإحسانِ إلَّا في شِركِهما وما يَلزَمُه مِن مَعاصي اللهِ تعالى، فإن جاهَداه على أن يُشرِكَ باللهِ تعالى فلا يُطِعْهما؛ لأنَّ حَقَّ اللهِ تعالى عليه أكبَرُ مِن حَقِّهما، وتَوحيدَه وطاعَتَه هيَ الوسيلةُ إلى سَعادَتِه ونَعيمِه الذي لا نِهايةَ له.
وقَولُه:
واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ أي: واتَّبِعْ في الدِّينِ سَبيلَ مَن أنابَ إليَّ مِنَ النَّبيِّينَ والمُرسَلينَ، ومَنِ اهتَدى بهم مِنَ المُؤمِنينَ، دونَ تَقليدِ الآباءِ الكافِرينَ. قال:
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي: مَرجِعُك ومَرجِعُ والدَيك
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عِندَ حِسابكُم، وأُجازي كُلًّا بما يَستَحِقُّ؛ فعلَيَّ حِسابُ والدَيك وجَزاؤُهم، لا عليك. والآيةُ نَصٌّ في البرِّ والشُّكرِ للوالدَينِ الكافِرَينِ فيما عَدا الكُفرَ ولَوازِمَه)
[1087] ((حقوق النساء في الإسلام)) لمحمد رشيد رضا (ص: 361-363). .
ب- من السُّنَّةِ 1- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال:
((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحابَتي؟ قال: أمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أبوك)) [1088] أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548) واللفظ له. .
2- عَن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قالت:
((قدِمَت أُمِّي وهيَ مُشرِكةٌ، في عَهدِ قُرَيشٍ ومُدَّتِهم إذ عاهَدوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَعَ ابنِها، فاستَفتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: إنَّ أُمِّي قدِمَت وهيَ راغِبةٌ، أفأَصِلُها؟ قال: نَعَم، صِلي أُمَّك)) [1089] أخرجه البخاري (5979) واللفظ له، ومسلم (1003). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِي اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((انطلَق ثلاثةُ رهطٍ ممَّن كان قبلَكم حتَّى أوَوا المبيتَ إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدَرَت صَخرةٌ من الجَبَلِ فسَدَّت عليهم الغارَ، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكم من هذه الصَّخرةِ إلَّا أن تَدْعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم. فقال رجُلٌ منهم: اللَّهمَّ كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكُنتُ لا أَغبِقُ قَبْلَهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طَلَبِ شيءٍ يومًا، فلم أُرِحْ عليهما حتَّى ناما، فحَلبْتُ لهما غَبوقَهما فوجَدْتُهما نائمَينِ، وكَرِهتُ أن أَغبُقَ قَبْلَهما أهلًا أو مالًا، فلَبِثتُ والقَدَحُ على يَديَّ أنتَظِرُ استيقاظَهما حتى بَرَق الفَجرُ، فاستيقَظا فشَرِبا غَبوقَهما، اللَّهُمَّ إنْ كنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجْهِك ففرِّجْ عنَّا ما نحن فيه من هذه الصَّخرةِ، فانفرجَت شيئًا لا يستطيعونَ الخروجَ. وقال الآخَرُ: اللَّهُمَّ كانت لي بنتُ عَمٍّ كانت أحَبَّ النَّاسِ إليَّ، فأرَدتُها عن نَفسِها، فامتَنَعَت مِنِّي حَتَّى ألَمَّت بها سَنةٌ مِنَ السِّنينَ، فجاءَتني فأعطَيتها عِشرينَ ومِائةَ دينارٍ على أن تُخَلِّيَ بَيني وبَينَ نَفسِها، ففعَلَت حَتَّى إذا قدَرتُ عليها قالت: لا أُحِلُّ لَك أن تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بحَقِّه، فتَحَرَّجتُ مِنَ الوُقوعِ عليها، فانصَرَفتُ عنها وهيَ أحَبُّ النَّاسِ إليَّ وتَرَكتُ الذَّهَبَ الذي أعطَيتُها، اللَّهُمَّ إن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِك فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه. فانفرَجَتِ الصَّخرةُ، غَيرَ أنَّهم لا يَستَطيعونَ الخُروجَ مِنها. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وقال الثَّالِثُ: اللَّهمَّ إنِّي استأجرتُ أُجَراءَ، فأعطيتُهم أجرَهم غيرَ رَجُلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهَب، فثمَّرتُ أجرَه حتى كَثُرت منه الأموالُ، فجاءني بعدَ حينٍ، فقال: يا عبدَ اللهِ، أدِّ إليَّ أجري، فقُلتُ له: كلُّ ما ترى من أجرِك من الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقيقِ! فقال: يا عبدَ اللهِ، لا تستهزِئْ بي! فقُلتُ: إنِّي لا أستهزئُ بك، فأخذَه كُلَّه، فاستاقه، فلم يترُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِك، فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه، فانفرَجَتِ الصَّخرةُ، فخَرَجوا يَمشونَ)) [1090] أخرجه البخاري (2272) واللفظ له، ومسلم (2743). .
ج- مِنَ الآثارِ عَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (إنِّي لا أعلَمُ عَمَلًا أقرَبَ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن بِرِّ الوالِدةِ)
[1091] ((الأدب المفرد)) للبخاري (4). .
فائدة: قال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (الإحسانُ في المُعامَلةِ يَعرِفُه كُلُّ أحَدٍ، وهو يَختَلِفُ باختِلافِ أحوالِ النَّاسِ وطَبَقاتِهم، وإنَّ العامِّيَّ الجاهِلَ ليَدري كَيف يُحسِنُ إلى والدَيه ويُرضيهما ما لا يَدري العالِمُ النِّحريرُ إذا أرادَ أن يُحَدِّدَ له ذلك، قال بَعضُهم: إنَّ جِماعَ الإحسانِ المَأمورِ به أن يَقومَ بخِدمَتِهما ولا يَرفعَ صَوتَه عليهما ولا يَخشُنَ في الكَلامِ مَعَهما، وأن يَسعى في تَحصيلِ مَطالِبِهما والإنفاقِ عليهما بقَدرِ سَعَته، وأنتَ تَعلَمُ أنَّ مَن فَعلَ ذلك وهو لا يَلقاهما إلَّا عابِسًا مُقَطِّبًا، أو أدَّى النَّفقةَ التي يَحتاجانِ إليها وهو يُظهِرُ الفاقةَ والقِلَّةَ، فإنَّه لا يُعَدُّ مُحسِنًا بهما، فالتَّعليمُ الحَرفيُّ لا يُحَدِّدُ الإحسانَ المَطلوبَ مِن كُلِّ أحَدٍ، بَل العُمدةُ فيه اجتِهادُ المَرءِ وإخلاصُ قَلبِه في تَحَرِّي ذلك بقَدرِ طاقَتِه، وحَسَبَ فَهمِه لأكمَلِ الإرشادِ الإلَهيِّ التَّفصيليِّ في ذلك، بقَولِه عَزَّ وجَلَّ:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 23 - 25] ، فأنتَ تَرى الرَّبَّ العَليمَ الحَكيمَ الرَّحيمَ قد قَفَّى هذه الوصيَّةَ البَليغةَ الدَّقيقةَ ببَيانِ أنَّ العِبرةَ بما في نَفسِ الولَدِ مِن قَصدِ البرِّ والإحسانِ والإخلاصِ فيه، وأنَّ التَّقصيرَ مَعَ هذا مَرجوُّ الغُفرانِ)
[1092] ((تفسير المنار)) (5/ 69). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش