موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في فضلِ برِّ الوالدَينِ والتَّحذيرِ مِن عُقوقِهما


إنَّ حَقَّ الوالدَينِ عَظيمٌ، حَتَّى قَرَنَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ برَّهما والإحسانَ إليهما بعِبادَتِه، فقال سُبحانَه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة: 83] ، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36] ، وقال عز وجل: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] ، وقال جَلَّ ثناؤه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [1048] قال أبو حَيَّانَ: (مُناسَبةُ اقتِران برِّ الوالدَينِ بإفرادِ اللَّهِ بالعِبادةِ مِن حَيثُ إنَّه تعالى هو الموجِدُ حَقيقةً، والوالِدانِ وساطةٌ في إنشائِه، وهو تعالى المُنعِمُ بإيجادِه ورِزقِه، وهما ساعيانِ في مَصالحِه). ((البحر المحيط)) (7/ 35). [الإسراء: 23] .
وعَن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأعمالِ أفضَلُ؟ قال: الصَّلاةُ لوَقتِها، وبرُّ الوالدَينِ، ثُمَّ الجِهادُ في سَبيل اللهِ)) [1049] أخرجه البخاري (7534) واللفظ له، ومسلم (85). .
وعَنِ المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ يوصيكُم بأُمَّهاتِكُم -ثَلاثًا-، إنَّ اللَّهَ يوصيكُم بآبائِكُم، إنَّ اللَّهَ يوصيكُم بالأقرَبِ فالأقرَبِ)) [1050] أخرجه ابن ماجه (3661) واللفظ له، وأحمد (17187). حَسَّن إسناده ابن حجر في ((التخليص الحبير)) (4/1304)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/136)، والصنعاني في ((التنوير)) (3/426)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17187) .
والوالدانِ أحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ الصُّحبةِ؛ فعَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحابَتي؟ قال: أمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أمُّك، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أبوك)) [1051] أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548) واللفظ له. .
والجَنَّةُ تُطلَبُ وتُنالُ ببرِّهما؛ فعَن مُعاويةَ بنِ جاهِمةَ السُّلَميِّ، ((أنَّ جاهمةَ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرَدتُ أن أغزوَ وقد جِئتُ أستَشيرُك، فقال: هَل لَك مِن أُمٍّ؟ قال: نَعَم، قال: فالزَمْها؛ فإنَّ الجَنَّةَ تَحتَ رِجلَيها)) [1052] أخرجه النسائي (3104) واللفظ له، وابن ماجه بعد حديث (2781)، وأحمد (15538). قال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3104): حسن صحيح، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (2537)، ووحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15538). .
وعَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نِمتُ فرَأيتُني في الجَنَّةِ، فسَمِعتُ صَوتَ قارِئٍ يَقرَأُ، فقُلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا حارِثةُ بنُ النُّعمانِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كذاكَ البِرُّ، كذاكَ البِرُّ! وكانَ أبَرَّ النَّاسِ بأُمِّه)) [1053] أخرجه أحمد (25182) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8233)، وابن حبان (7015). صَحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (7453)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3371)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1536). .
وعَن أبي الدَّرداءِ رَضيَ اللهُ عنه، سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الوالِدُ أوسَطُ أبوابِ الجَنَّةِ [1054] أوسَطُ أبوابِ الجَنَّةِ، أي: خَيرُ أبوابها، يُقالُ: فلانٌ مِن أوسَطِ قَومِه، أي: مِن خيارِهم. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 11)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 184). ، فأضِعْ ذلك البابَ أوِ احفَظْه)) [1055] أخرجه الترمذي (1900) باختلافٍ يسيرٍ، وابن ماجه (3663)، وأحمد (27511) واللفظ لهما. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (425)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3663)، وصحَّح إسناد الحاكم في ((المستدرك)) (2799)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27511). .
فإذ كانَ ذلك كذلك فحَقيقٌ بالمَرءِ أن يَسعى في برِّهما ورِضاهما بما أمكَنَه، وقَبيحٌ به أن يَجهَلَ الآدابَ التي يَنبَغي أن يَتَأدَّبَ بها مَعَهما؛ فرُبَّ أدَبٍ أدَّى الإخلالُ به إلى الوُقوعِ في العُقوقِ!
وقد جَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُقوقَ الوالدَينِ مِن أكبَرِ الكَبائِرِ بَعدَ الإشراكِ باللهِ؛ فعَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكَرةَ، عَن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا أنبِّئُكم بأكبَرِ الكبائِرِ؟ ثلاثًا. قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ. وجلس وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقولُ الزُّورِ. قال: فما زال يكَرِّرُها حتى قُلنا: ليته سكَتَ)) [1056] أخرجه البخاري (2654) واللفظ له، ومسلم (87). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((رَغِمَ أنفُ [1057] رَغِمَ يَرغَمُ رَغمًا ورِغمًا ورُغمًا، وأرغَمَ اللهُ أنفَه: أي ألصَقَه بالرَّغامِ، وهو التُّرابُ، وقيل: هو الرَّملُ ليسَ بدَقيقٍ جِدًّا، فليسَ هو بالذي يَسيلُ مِنَ اليَدِ. هذا هو الأصلُ، ثُمَّ استُعمِل في الذُّلِّ والعَجزِ عنِ الانتِصافِ، والانقيادِ على كُرهٍ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لإبراهيم الحربي (3/ 1077)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/ 130)، ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1934)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 238). ، ثُمَّ رَغِمَ أنفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنفُ! قيلَ: مَن يا رَسولَ اللهِ؟ قال: مَن أدرَكَ أبَويه عِندَ الكِبَرِ أحَدَهما أو كِلَيهما، فلَم يَدخُلِ الجَنَّةَ)) [1058] أخرجه البخاري (2551). .
وفيما يلي بيانُ الآدابِ التي يَنبَغي التأدُّبُ بها معَ الوالدينِ:

انظر أيضا: