سابعًا: التَّوقُّفُ عنِ الفتوى إذا لم يَعلَمِ الجَوابَ
مِن أهَمِّ آدابِ المُفتي أنَّه يَمتَنِعُ عنِ الفتوى إذا لم يَعلَمِ الجَوابَ، أو لم تَتَّضِحْ له المَسألةُ
[2384] فالمُفتي إن كان جاهلًا بالحُكمِ الشَّرعيِّ حَرُم عليه الإفتاءُ بلا عِلمٍ؛ فإن فَعَل فعليه إثمُه وإثمُ المُستَفتي يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/ 3). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسنَّةِ والآثارِ:أ- مِن الكتابِ1- قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، ففيه: تَحريمُ الفتوى بلا عِلمٍ؛ فإنَّ المُفتيَ يَقولُ على اللهِ، ويُعَبِّرُ عن شَرعِ اللهِ، فالقَولُ على اللهِ يَشمَلُ القَولَ على اللهِ بلا عِلمٍ في أحكامِه؛ مِثلُ أن يَقولَ: هذا حَرامٌ. وهو لا يَعلَمُ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَه، أو: واجِبٌ. وهو لا يَعلَمُ أنَّ اللَّهَ أوجَبَه
[2385] يُنظر: ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (2/240، 241). .
2- قال تعالى:
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] . ففيه نهيٌ عن التكَلُّمِ بلا عِلْمٍ
[2386] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/458). .
ب مِن السنةِ:عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: مَرِضتُ، فجاءَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني، وأبو بَكرٍ، وهما ماشيانِ، فأتاني وقد أُغميَ عليَّ، فتَوضَّأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ صَبَّ وَضوءَه عليَّ فأفَقتُ، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كَيف أقضي في مالي، كَيف أصنَعُ في مالي؟ قال: فما أجابَني بشَيءٍ حتَّى نَزَلَت آيةُ الميراثِ
[2387] أخرجه البخاري (7309) واللفظ له، ومسلم (1616). .
ج- مِن الآثارِقال عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: مَن كان عِندَه عِلمٌ فليَقُلْ به، ومَن لم يَكُنْ عِندَه عِلمٌ فليَقُلِ: اللهُ أعلَمُ؛ فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قال لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] [2388] أخرجه البخاري (4809)، ومسلم (2798) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، قال: يا أيُّها النَّاسُ، مَن عَلِمَ شَيئًا فليَقُلْ به، ومَن لَم يَعلَمْ فليَقُلِ اللهُ أعلَمُ، فإنَّ مِنَ العِلمِ أن يَقولَ لِما لا يَعلَمُ: اللهُ أعلَمُ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُل مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ .
فوائِدُ:1- قال الآجُرِّيُّ: (أمَّا الحُجَّةُ للعالمِ يُسأَلُ عنِ الشَّيءِ لا يَعلَمُه، فلا يَستَنكِفُ أن يَقولَ: لا أعلمُ، إذا كان لا يَعلَمُ، وهذا طَريقُ أئِمَّةِ المُسلمينَ مِنَ الصَّحابةِ ومَن بَعدَهم مِن أئِمَّةِ المُسلمينَ، اتَّبَعوا في ذلك نَبيَّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه كان إذا سُئِل عنِ الشَّيءِ بما لم يَتَقدَّمْ له فيه عِلمُ الوَحيِ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فيَقولُ: لا أدري، وهَكَذا يَجِبُ على كُلِّ مَن سُئِل عن شَيءٍ لم يَتَقدَّمْ فيه العِلمُ أن يَقولَ: اللهُ أعلمُ به، ولا عِلمَ لي به، ولا يَتَكَلَّفُ ما لا يَعلَمُه؛ فهو أعذَرُ له عِندَ اللهِ، وعِندَ ذَوي الألبابِ.
... عن عَطاءِ بنِ السَّائِبِ، عن زادان أبي مَيسَرةَ، قال: خَرَجَ علينا عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه يَومًا وهو يَمسَحُ بَطنَه، وهو يَقولُ: يا بَرْدَها على الكَبدِ، سُئِلتُ عَمَّا لا أعلمُ فقُلتُ: لا أعلمُ، واللَّهُ أعلمُ.
...عن مَسروقٍ، قال: قال عَبدُ اللَّهِ: أيُّها النَّاسُ، مَن عَلمَ مِنكُم عِلمًا فليَقُلْ به، ومَن لم يَعلمْ فليَقُلْ: لا أعلَمُ، واللَّهُ أعلَمُ، فإنَّ مِن عِلمِ المَرءِ أن يَقولَ لِما لا يَعلمُ: اللهُ أعلمُ، وقد قال اللهُ تعالى:
قُل ما أسألُكُم عليه مِن أجرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفينَ [ص: 86] .
... عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ: أنَّه سُئِل عن أمرٍ لا يَعلَمُه، فقال: لا أعلَمُه.
أخبَرنا جَعفَرٌ الصَّندَليُّ، أخبَرنا أحمَدُ بنُ عَطيَّةَ، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى ابنِ عُمَرَ يَسألُه عن فريضةٍ هَيِّنةٍ مِنَ الصُّلبِ، فقال: لا أدري، فقامَ الرَّجُلُ، فقال له بَعضُ مَن عِندَه: ألا أخبَرتَ الرَّجُلَ؟ فقال: لا، واللَّهِ ما أدري.
... عن يَحيى بنِ سَعيدٍ، قال: سُئِل ابنٌ لعَبدِ اللَّهِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ عن شَيءٍ، فلم يَكُنْ عِندَه جَوابٌ، فقُلتُ: إنِّي لأُعظِمُ أن يَكونَ مِثلك ابنُ إمامِ هُدًى يُسأَلُ عن شَيءٍ لا يَكونُ عِندَك مِنه عِلمٌ؟ فقال: أعظَمُ -واللَّهِ- مِن ذلك عِندَ اللهِ، وعِندَ مَن عَقَل عنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أن أقولَ بغَيرِ عِلمٍ، أو أُحَدِّثَ عن غَيرِ ثِقةٍ.
أخبَرَنا أبو الفَضلِ جَعفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّندَليُّ، أخبَرنا أحمَدُ بنُ مَنصورٍ الرَّماديُّ، أخبَرَنا عَبدُ الرَّزَّاقِ، قال: كان مالِكٌ يَذكُرُ، قال: كان ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما يَقولُ: إذا أخطَأ العالمُ أن يَقولَ: لا أدري، فقد أُصيبَت مَقاتِلُه.
أخبَرنا جَعفَرٌ الصَّندَليُّ، أخبَرنا يَعقوبُ بنُ بختانَ، قال: سَمِعتُ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ أبا عَبدِ اللَّهِ رَحِمَه اللهُ، قال: سَمِعتُ الشَّافِعيَّ قال: سَمِعتُ مالكًا قال: سَمِعتُ ابنَ عَجلانَ قال: إذا أغفَلَ العالِمُ: لا أدري، أُصيبَت مَقاتِلُه.
أخبَرنا جَعفَرٌ، أخبَرنا صالِحُ بنُ أحمَدَ، عن أبيه، قال: سَمِعتُ عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ مَهديٍّ يَقولُ: جاءَ رَجُلٌ إلى مالِكِ بنِ أنَسٍ يَسألُه عن شَيءٍ، فقال له مالِكٌ: لا أدري، قال الرَّجُلُ: فأذكُرُ عنك أنَّك لا تَدري؟ قال: نَعَم، احكِ عنِّي أنِّي لا أدري)
[2389] ((أخلاق العلماء)) (ص: 111-117). ويُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/ 826)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 360)، ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (1/ 40)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 58). .
2- قال النَّوويُّ: (اعلَم أنَّ الإفتاءَ عَظيمُ الخَطَرِ كَبيرُ المَوقِعِ كَثيرُ الفَضلِ؛ لأنَّ المُفتيَ وارِثُ الأنبياءِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم، وقائِمٌ بفرضِ الكِفايةِ، لكِنَّه مُعَرَّضٌ للخَطَأِ؛ ولهذا قالوا: المُفتي مُوَقِّعٌ عنِ اللهِ تعالى.
ورُوِّينا عن ابنِ المُنكَدِرِ قال: العالِمُ بَينَ اللهِ تعالى وخَلقِه، فيَنظُرُ كَيف يَدخُلُ بَينَهم.
ورُوِّينا عنِ السَّلفِ وفُضَلاءِ الخَلَفِ مِنَ التَّوقُّفِ عنِ الفُتيا أشياءَ كَثيرةً مَعروفةً:
رُوِّينا عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي ليلى قال: أدرَكتُ عِشرينَ ومِائةً مِنَ الأنصارِ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسأَلُ أحَدُهم عنِ المَسألةِ فيَرُدُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتَّى تَرجِعَ إلى الأوَّلِ.
وفي رِوايةٍ: ما مِنهم مَن يُحَدِّثُ بحَديثٍ إلَّا وَدَّ أنَّ أخاه كَفاه إيَّاه، ولا يُستَفتى عن شَيءٍ إلَّا وَدَّ أنَّ أخاه كَفاه الفُتيا.
وعن ابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم: مَن أفتى عن كُلِّ ما يُسأَلُ فهو مَجنونٌ.
وعنِ الشَّعبيِّ والحَسَنِ وأبي حَصينٍ -بفتحِ الحاءِ- التَّابعينَ قالوا: إنَّ أحَدَكُم ليُفتي في المَسألةِ ولو ورَدَت على عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه لجَمَع لها أهلَ بَدرٍ.
وعن عَطاءِ بنِ السَّائِبِ التَّابعيِّ: أدرَكتُ أقوامًا يُسأَلُ أحَدُهم عنِ الشَّيءِ فيَتَكَلَّمُ وهو يُرعدُ.
وعن ابنِ عبَّاسٍ ومُحَمَّدِ بنِ عَجلانَ: إذا أغفَلَ العالِمُ: لا أدري، أُصيبَت مَقاتِلُه.
وعن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ وسُحنون: أجسَرُ النَّاسِ على الفُتيا أقَلُّهم عِلمًا.
وعنِ الشَّافِعيِّ، وقد سُئِل عن مَسألةٍ فلم يُجِبْ، فقيل له، فقال: حتَّى أدريَ أنَّ الفَضلَ في السُّكوتِ أو في الجَوابِ
[2390] قال الغَزاليُّ: (سُئِل الشَّافِعيُّ -رَضِيَ اللهُ عنه- عن مَسألةٍ فسَكَتَ، فقيل له: ألَا تُجيبُ -رَحِمَك اللهُ-؟ فقال: حتَّى أدريَ الفَضلَ في سُكوتي أو في جَوابي. فانظُرْ في مُراقَبَتِه للِسانِه مَعَ أنَّه أشَدُّ الأعضاءِ تَسَلُّطًا على الفُقَهاءِ، وأعصاها على الضَّبطِ والقَهرِ، وبه يَستَبينُ أنَّه كان لا يَتَكَلَّمُ ولا يَسكُتُ إلَّا لنَيلِ الفَضلِ وطَلَبِ الثَّوابِ)). ((إحياء عُلوم الدِّينِ)) (1/ 25). .
وعنِ الأثرَمِ: سَمِعتُ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ يُكثِرُ أن يَقولَ: لا أدري، وذلك فيما عَرَف الأقاويلَ فيه.
وعنِ الهَيثَمِ بنِ جَميلٍ: شَهِدتُ مالكًا سُئِل عن ثَمانٍ وأربَعينَ مَسألةً، فقال في ثِنتَينِ وثَلاثينَ مِنها: لا أدري.
وعن مالكٍ أيضًا أنَّه رُبَّما كان يُسأَلُ عن خَمسينَ مَسألةً فلا يُجيبُ في واحِدةٍ مِنها، وكان يَقولُ: مَن أجابَ في مَسألةٍ فيَنبَغي قَبلَ الجَوابِ أن يَعرِضَ نَفسَه على الجَنَّةِ والنَّارِ، وكَيف خَلاصُه، ثُمَّ يُجيبَ!
وسُئِل عن مَسألةٍ فقال: لا أدري، فقيل: هيَ مَسألةٌ خَفيفةٌ سَهلةٌ! فغَضِبَ وقال: ليسَ في العِلمِ شَيءٌ خَفيفٌ!
وقال الشَّافِعيُّ: ما رَأيتُ أحَدًا جَمَع اللهُ تعالى فيه مِن آلةِ الفُتيا ما جَمَعَ في ابنِ عُيَينةَ أسكَتَ مِنه عنِ الفُتيا.
وقال أبو حَنيفةَ: لولا الفَرَقُ مِنَ اللهِ تعالى أن يَضيعَ العِلمُ ما أفتَيتُ؛ يَكونُ لهمُ المَهنَأُ، وعليَّ الوِزرُ.
وأقوالُهم في هذا كَثيرةٌ مَعروفةٌ.
قال الصَّيمريُّ والخَطيبُ: قَلَّ مَن حَرَصَ على الفُتيا وسابَقَ إليها وثابَرَ عليها إلَّا قَلَّ تَوفيقُه واضطَرَبَ في أُمورِه، وإن كان كارِهًا لذلك غَيرَ مُؤثِرٍ له ما وجَدَ عنه مَندوحةً، وأحال الأمرَ فيه على غَيرِه، كانتِ المَعونةُ له مِنَ اللهِ أكثَرَ، والصَّلاحُ في جَوابِه أغلَبَ، واستَدَلَّا بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ الصَّحيحِ: «لا تَسألِ الإمارةَ؛ فإنَّك إن أُعطِيتَها عن مَسألةٍ وُكِلتَ إليها، وإن أُعطِيتَها عن غَيرِ مَسألةٍ أُعِنتَ عليها»
[2391] أخرجه البخاري (7146)، ومسلم (1652) من حديثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. [2392] ((المجموع)) (1/ 40، 41). ويُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 350)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/58). .
3- قال القَرافيُّ: (ما أفتى مالِكٌ حتَّى أجازَه أربَعونَ مُحَنَّكًا؛ لأنَّ التَّحَنُّكَ -وهو اللِّثامُ بالعَمائِمِ تَحتَ الحَنَكِ- شِعارُ العُلماءِ، حتَّى إنَّ مالِكًا سُئِل عنِ الصَّلاةِ بغَيرِ تحَنُّكٍ، فقال: لا بَأسَ بذلك، وهو إشارةٌ إلى تَأكُّدِ التَّحنيكِ، وهذا هو شَأنُ الفُتيا في الزَّمَنِ القديمِ، وأمَّا اليَومَ فقدِ انخَرَقَ هذا السِّياجُ وسَهُل على النَّاسِ أمرُ دينِهم، فتَحَدَّثوا فيه بما يَصلُحُ وبما لا يَصلُحُ، وعَسُر عليهمُ اعتِرافُهم بجَهلِهم، وأن يَقولَ أحَدُهم: لا يَدري، فلا جَرَمَ آلَ الحالُ للنَّاسِ إلى هذه الغايةِ بالاقتِداءِ بالجُهَّالِ)
[2393] ((أنوار البروق في أنواء الفروق)) (2/ 110). .
4-(رَدُّ الجَوابِ على مَن عَلَّمَه اللهُ فَرضٌ، كَما قال اللهُ لآدَمَ:
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة: 33] كَما أنَّ السُّكوتَ على مَن لا يَعلَمُ فرضٌ، كَما قالتِ المَلائِكةُ:
لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة: 32] ، وكذلك أن نَخضَعَ لمَن عَلَّمَه اللهُ ما لم يُعَلِّمْه لك، كَما أمَرَ اللهُ المَلائِكةَ أن يَسجُدوا لآدَمَ فسَجَدوا وكانوا عِبادًا مُكرَمينَ، وأبى إبليسُ وقيل له:
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر: 35] ، والسُّؤالُ على مَن لم يَعلَمْ فَرضٌ، قال اللهُ تعالى:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] )
[2394] يُنظر: ((الحاوي للفتاوي)) للسيوطي (1/ 336). .
5- قال السَّعديُّ: (مِن أعظَمِ ما يَجِبُ على المُعَلِّمينَ أن يَقولوا لِما لا يَعلمونَه: اللهُ أعلمُ، وليسَ هذا بناقِصٍ لأقدارِهم، بَل هذا مِمَّا يَزيدُ قَدْرَهم، ويُستَدَلُّ به على كَمالِ دينِهم، وتَحَرِّيهم للصَّوابِ.
وفي تَوقُّفِه عَمَّا لا يَعلمُ فوائِدُ كَثيرةٌ:مِنها: أنَّ هذا هو الواجِبُ عليه.
ومِنها: أنَّه إذا تَوقَّف وقال: اللهُ أعلمُ، فما أسرَعَ ما يَأتيه عِلمُ ذلك مِن مُراجَعَتِه أو مُراجَعةِ غَيرِه، فإنَّ المُتَعَلِّمَ إذا رَأى مُعَلِّمَه قد تَوقَّف جَدَّ واجتَهَدَ في تَحصيلِ عِلمِها وإتحافِ المُعَلِّمِ بها، فما أحسَنَ هذا الأثَرَ!
ومِنها: أنَّه إذا تَوقَّف فيما لا يَعرِفُ كان دَليلًا على ثِقَتِه وأمانَتِه وإتقانِه فيما يَجزِمُ به مِنَ المَسائِلِ، كَما أنَّ مَن عُرِف مِنه الإقدامُ على الكَلامِ فيما لا يَعلمُ، كان ذلك داعيًا للرَّيبِ في كُلِّ ما يَتَكَلَّمُ به، حتَّى في الأُمورِ الواضِحةِ.
ومِنها: أنَّ المُعَلِّمَ إذا رَأى مِنه المُتَعَلِّمونَ التَّوقُّفَ فيما لا يَعلمُ، كان ذلك تَعليمًا لهم، وإرشادًا لهذه الطَّريقةِ الحَسَنةِ، والاقتِداءُ بالأحوالِ والأعمالِ أبلَغُ مِنَ الاقتِداءِ بالأقوالِ)
[2395] ((الفتاوى السعدية)) (ص: 628، 629). .