خامسًا: بَذلُ المالِ لهما
يُستَحَبُّ بَذلُ المالِ لَهما إن كانا موسِرَينِ، ويَجِبُ الإنفاقُ عليهما إذا احتاجا.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ: أ- مِنَ الكِتابِ 1- قال تعالى:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] .
قال الرَّازِيُّ: (اعلَمْ أنَّ الإحسانَ إلى الوالدَينِ هو أن يَقومَ بخِدمَتِهما... ويَسعى في تَحصيلِ مَطالِبِهما والإنفاقِ عليهما بقَدرِ القُدرةِ مِنَ البِرِّ)
[1098] ((مفاتيح الغيب)) (10/ 76). .
2- قال تعالى:
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] .
(وليس مِنَ المَعروفِ تَركُهما جائِعَينِ مَعَ القُدرةِ على سَدِّ جَوعتِهما)
[1099] ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/ 301). .
3- قال تعالى:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ [النور: 61] .
قَولُه تعالى:
وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي: وليس عليكُم -أيُّها المُسلمونَ- إثمٌ في الأكلِ مِن بُيوتِكُم وبُيوتِ أولادِكُم وعَبيدِكُم
[1100] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (19/ 484). .
قال أبو حَيَّانَ: (لَم يَذكُرْ بُيوتَ الأولادِ اكتِفاءً بذِكرِ
بُيُوتِكُمْ ؛ لأنَّ ولَدَ الرَّجُلِ بَعضُه وحُكمُه حُكمُ نَفسِه، وبَيتُه بَيتُه. وفي الحَديثِ: «إنَّ أطيَبَ ما يَأكُلُ المَرءُ مِن كَسبِه، وإنَّ ولَدَه مِن كَسبِه»
[1101] أخرجه من طرقٍ: أبو داود (3528)، والنسائي (4449)، وابن ماجه (2137) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، ولَفظُ أبي داوُدَ: ((إنَّ مِن أطيبِ ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وولَدُه مِن كَسبِه)). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4259)، وابن حزم في ((المحلى)) (8/102)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/308)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3528)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3528). [1102] ((البحر المحيط)) (8/ 71). وقال ابنُ القَيِّمِ: (لَم يَذكُرْ بُيوتَ الأبناءِ؛ لأنَّها داخِلةٌ في بُيوتِهم أنفُسِهم، فاكتَفى بذِكرِها دونَها، وإلَّا فبُيوتُهم أقرَبُ مِن بُيوتِ مَن ذُكِرَ في الآيةِ). ((إعلام الموقعين)) (1/ 88). .
ب- من السُّنَّةِ 1- عَن طارِقِ بنِ عَبدِ اللَّهِ المُحارِبيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((قَدِمنا المَدينةَ، فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمٌ على المِنبَرِ يَخطُبُ النَّاسَ وهو يَقولُ: يَدُ المُعطي العُليا، وابدَأْ بمَن تَعولُ: أُمَّك، وأباك، وأُختَك، وأخاك، ثُمَّ أدَناك، أدناك)) [1103] أخرجه النسائي (2532) واللفظ له، وابن حبان (3341)، والحاكم (4271). صَحَّحه ابن حبان، والدارقطني كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (342)، وابن حزم في ((المحلى)) (10/105)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2532)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/441). .
2- عَن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عَن أبيه، عَن جَدِّه رَضيَ اللهُ عنه،
((أنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي مالًا وولَدًا، وإنَّ والدي يَجتاحُ مالي؟ قال: أنتَ ومالُك لوالدِك، إنَّ أولادَكُم مِن أطيَبِ كَسبِكُم، فكُلوا مِن كَسبِ أولادِكُم)) [1104] أخرجه أبو داود (3530) واللفظ له، وابن ماجه (2292)، وأحمد (7001). صَحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/329)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3530)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3530): حسن صحيح .
3- عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ مِن أطيَبِ ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسبِه، ووَلَدُه مِن كَسبِه)) [1105] أخرجه من طرقٍ: أبو داود (3528)، والنسائي (4449)، وابن ماجه (2137) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، ولَفظُ أبي داوُدَ: ((إنَّ مِن أطيبِ ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وولَدُه مِن كَسبِه)). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4259)، وابن حزم في ((المحلى)) (8/102)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/308)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3528)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3528).. .
4- عَن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قالت:
((قدِمَت أُمِّي وهيَ مُشرِكةٌ، في عَهدِ قُرَيشٍ ومُدَّتِهم إذ عاهَدوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَعَ ابنِها، فاستَفتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: إنَّ أُمِّي قدِمَت وهيَ راغِبةٌ، أفأَصِلُها؟ قال: نَعَم، صِلي أُمَّك)) [1106] أخرجه البخاري (5979) واللفظ له، ومسلم (1003). .
(قَولُها: "وهيَ راغِبةٌ" قال بَعضُ العُلماءِ: مَعناه: وهيَ راغِبةٌ في الإسلامِ، فيَكونُ الأمرُ بصِلتِها مِن أجلِ تَأليفِها على الإسلامِ، وقيل: بَل مَعنى قَولِها: "وهيَ راغِبةٌ" أي: راغِبةٌ في أن أصِلَها ومُتَطَلِّعةٌ إلى ذلك، فأمَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تَصِلَها، وهذا هو الأقرَبُ أنَّها جاءَت تَتَشَوَّقُ وتَتَطَلَّعُ إلى أن تُعطيَها ابنَتَها ما شاءَ اللهُ؛ ففي هذا دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ يَصِلُ أقارِبَه ولو كانوا على غَيرِ الإسلامِ؛ لأنَّ لهم حَقَّ القَرابةِ)
[1107] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/193). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 234). .
ج- من الإجماعِ نَقَل الإجماعَ على أنَّ نَفَقةَ الوالدَينِ الفقيرَينِ واجِبةٌ في مالِ الوَلَدِ- غيرُ واحدٍ
[1108] ممن نقل الإجماع على ذلك: ابنُ المُنذِرِ، وابنُ حَزمٍ، وابنُ القَطَّانِ، والشَّوكانيُّ. قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَع أهلُ العِلمِ على أنَّ نَفَقةَ الوالدَينِ الفقيرَينِ اللَّذَينِ لا كَسبَ لَهما ولا مالَ: واجِبةٌ في مالِ الولَدِ). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (5/ 167). قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا على أنَّ على الرَّجُلِ الذي هو كما ذَكَرنا [يَعني: الحُرَّ الذي يَقدِرُ على المالِ، البالِغَ العاقِلَ غَيرَ المَحجورِ عليه] نَفقةَ أبَويه إذا كانا فقيرَينِ زَمِنَينِ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 79). قال ابنُ القَطَّانِ: (أجمَع أهلُ العِلمِ على أنَّ نَفقةَ الوالدَينِ الفقيرَينِ اللَّذَينِ لا كَسبَ لَهما ولا مالَ: واجِبةٌ في مالِ الولَدِ، وأنَّ نَفقةَ الأولادِ الأطفالِ الذينَ لا مالَ لَهم: على أبيهم... والنَّفقةُ على الأبَوينِ فرضٌ على الإنسانِ إذا كانا فقيرَينِ، يُنفَقُ من مالِ الطِّفلِ؛ لوُجوبِ ذلك عليه، ويُؤخَذُ مِن مالِه كما تُؤخَذُ الحُقوقُ التي تَلزَمُ فيه مِن زَكاةٍ أو جِنايةٍ أو صَدَقةِ فِطرٍ وما أشبَهَ ذلك. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أطيَبُ ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسبِه، وإنَّ ولَدَه مِن كَسبِه))، وقال عليه السَّلامُ: ((أنتَ ومالُك لأبيك)). ولا خِلافَ في ذلك). ((الإقناع في مسائل الإجماع)) (2/ 55، 56). قال الشَّوكانيُّ: (اعلَمْ أنَّه قد وقَعَ الإجماعُ على أنَّه يَجِبُ على الولَدِ الموسِرِ مَئونةُ الأبَوينِ المُعسِرَينِ، كما حَكى ذلك في "البَحرِ"، واستَدَلَّ له بقَولِه تعالى: وَبِالْوِالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] ، ثُمَّ قال: ولَو كانا كافِرَينِ؛ لقَولِه تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ... [لقمان: 15] ، و«أنتَ ومالُك لأبيك»)). ((نيل الأوطار)) (6/ 381). وقال أيضًا: (وقد حُكيَ في البَحرِ الإجماعُ على أنَّه يَجِبُ على الولَدِ الموسِرِ مَئونةُ الأبَوينِ المُعسِرَينِ). ((نيل الأوطار)) (6/ 17). يُنظر: ((البحر الزخار)) للمهدي (3/279). .
فائدة: قال ابنُ العَرَبيِّ: (بَيتُ الابنِ كبَيتِ المَرءِ نَفسِه، لَكِنْ فيما كان غَيرَ مُحرَزٍ، فلا يَتَبَسَّطِ الأبُ على الابنِ في هَتكِ حِرزٍ وأخذِ مالٍ، وإنَّما يَأكُلُه مُستَرسِلًا فيما لَم يَقَعْ فيه حيازةٌ، ولَكِن بالمَعروفِ دونَ فَسادٍ ولا استِغنامٍ.
وأمَّا بَيتُ الأبِ للابنِ فمِثلُه، ولَكِنْ تَبَسُّطُ الابنِ أقَلُّ مِن تَبَسُّطِ الأبِ، كما كان تَبَسُّطُ الزَّوجِ أقَلَّ مِن تَبَسُّطِ الزَّوجةِ)
[1109] ((أحكام القرآن)) (3/ 424). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش