موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: التَّأدُّبُ عِندَ مُخاطَبَتِهما، وإلانةُ القَولِ لَهما


مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالِدَينِ: التَّأدُّبُ عِندَ مُخاطَبَتِهما ونِدائِهما، وإلانةُ القَولِ لَهما، وعَدَمُ إغلاظِه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء: 23] .
قال الطَّبَرَي: (حَكَم رَبُّك -يا مُحَمَّدُ- بأمرِه إيَّاكُم ألَّا تَعبُدوا إلَّا اللَّهَ؛ فإنَّه لا يَنبَغي أن يُعبَدَ غَيرُه، وأمرَكُم بالوالدَينِ إحسانًا أن تُحسِنوا إليهما وتَبرُّوهما. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فلا تُؤَفِّفْ مِن شَيءٍ تَراه مِن أحَدِهما أو مِنهما مِمَّا يَتَأذَّى به النَّاسُ، ولَكِنِ اصبِرْ على ذلك مِنهما، واحتَسِبْ في الأجرِ صَبرَك عليه مِنهما، كما صَبَرا عليك في صِغَرِك. وَلَا تَنْهَرْهُمَا ولا تَزجُرْهما، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وقُلْ لَهما قَولًا جَميلًا حَسَنًا.
عَنِ ابنِ جُرَيجٍ: وقُل لَهما قَولًا كَريمًا قال: أحسَنَ ما تَجِدُ مِنَ القَولِ.
وعَن قتادةَ: وقُل لَهما قَولًا كَريمًا، أي: قَولًا لَيِّنًا سَهلًا) [1116] يُنظر: ((جامع البيان)) (14/ 541-549). .
وقال السَّعديُّ: (ذَكَرَ تعالى بَعدَ حَقِّه القيامَ بحَقِّ الوالدَينِ، فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أي: أحسِنوا إليهما بجَميعِ وُجوهِ الإحسانِ القَوليِّ والفِعليِّ؛ لأنَّهما سَبَبُ وُجودِ العَبدِ، ولَهما مِنَ المَحَبَّةِ للولَدِ والإحسانِ إليه والقُربِ ما يَقتَضي تَأكُّدَ الحَقِّ ووُجوبَ البرِّ.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلَاهُمَا أي: إذا وصَلا إلى هذا السِّنِّ الذي تَضعُفُ فيه قُواهما ويَحتاجانِ مِنَ اللُّطفِ والإحسانِ ما هو مَعروفٌ، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وهذا أدنى مَراتِبِ الأذى، نَبَّهَ به على ما سِواه، والمَعنى: لا تُؤذِهما أدنى أذيَّةٍ، وَلَا تَنْهَرْهُمَا، أي: تَزجُرْهما وتَتَكَلَّمْ لَهما كَلامًا خَشِنًا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا بلَفظٍ يُحِبَّانِه وتَأدُّبٍ وتَلَطُّفٍ بكَلامٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ يَلَذُّ على قُلوبِهما وتَطَمئِنُّ به نُفوسُهما، وذلك يَختَلفُ باختِلافِ الأحوالِ والعَوائِدِ والأزمانِ) [1117] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 456). وقال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (الأُفُّ: كُلُّ مُستَقذَرٍ مَن وسخٍ وقُلامةِ ظُفرٍ وما يجري مَجراهما، ويُقالُ لكُلِّ مُستَخَفٍّ به استِقذارًا واحتِقارًا له، وكَذا لكُلِّ ما يُتَضَجَّرُ مِنه. وخُصَّ هذا النَّهيُ بحالةِ كِبَرِ الوالِدَينِ أو أحَدِهما؛ لأنَّ الكِبَرَ مَظِنَّةُ وُقوعِ ما يُتَضَجَّرُ مِنه، أو يُستَقذَرُ مِنهما، وهو يَدُلُّ على تَحريمِ ذلك في غَيرِ هذه الحالةِ بالأَولى. والنَّهرُ والانتِهارُ: الزَّجرُ بغِلظةٍ وخُشونةٍ. والكَريمُ مِنَ الأقوالِ: آدَبُها وألطَفُها، ومِنَ الأعمالِ: أنفَعُها وأشرَفُها، ومِنَ الأشخاصِ: أفضَلُهم وأجلُّهم). ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 357، 358). .
ب- مِنَ الآثارِ
1- عَن طَيسَلةَ بنِ مَيَّاسٍ، قال: (كُنتُ مَعَ النَّجَداتِ [1118] فِرقةٌ مِنَ الخَوارِجِ، أصحابُ نَجدةَ بنِ عامِرٍ الحَنَفيِّ. يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 122). ، فأصَبتُ ذُنوبًا لا أراها إلَّا مِنَ الكَبائِرِ، فذَكَرتُ ذلك لابنِ عُمَرَ، قال: ما هيَ؟ قُلتُ: كَذا وكَذا، قال: لَيسَت هذه مِنَ الكَبائِرِ، هنَّ تِسعٌ: الإشراكُ باللهِ، وقَتلُ نَسَمةٍ، والفِرارُ مِنَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَنةِ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، وإلحادٌ [1119] إلحادٌ: أي: ظُلمٌ ومَيلٌ عنِ الحَقِّ، والإلحادُ: العُدولُ عنِ القَصدِ والمَيلُ عنِ الاستِقامةِ، يُقالُ: ألحَدَ الرَّجُلُ: إذا مال عن طَريقةِ الحَقِّ والإيمانِ، وألحَدَ الرَّجُلُ، أي: ظَلَم في الحَرَمِ. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/ 421)، ((الصحاح)) للجوهري (2/ 534)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 236)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 244). وقال الطَّبَريُّ بَعدَ أن ساقَ بَعضَ الأقوالِ في تَفسيرِ قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] : (وأَولى الأقوالِ التي ذَكَرناها في تَأويلِ ذلك بالصَّوابِ القَولُ الذي ذَكَرناه عن ابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ مِن أنَّه مَعنيٌّ بالظُّلمِ في هذا المَوضِعِ كُلُّ مَعصيةٍ للَّهِ، وذلك أنَّ اللَّهَ عَمَّ بقَولِه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج: 25] ، ولم يُخصَصْ به ظُلمٌ دونَ ظُلمٍ في خَبَرٍ ولا عَقلٍ، فهو على عُمومِه. فإذا كان ذلك كذلك فتَأويلُ الكَلامِ: ومَن يُرِدْ في المَسجِدِ الحَرامِ بأن يَميلَ بظُلمٍ، فيَعصيَ اللَّهَ فيه، نُذِقْه يَومَ القيامةِ مِن عَذابٍ موجِعٍ له). ((جامع البيان)) (16/ 510). في المَسجِدِ، والذي يَستَسخِرُ [1120] مِنَ الاستِسخارِ، وهو السُّخريةُ والاستِهزاءُ. وفي بَعضِ النُّسَخِ بالحاءِ المُهمَلةِ: (يَستَسحِرْ)، على أنَّها مِنَ الاستِسحارِ، وهو طَلَبُ السِّحرِ. وقيلَ غَيرُ ذلك. يُنظر: ((فضل الله الصمد)) للجيلاني (1/ 57، 58). ، وبُكاءُ الوالدَينِ مِنَ العُقوقِ. قال لي ابنُ عُمَرَ: أتَفرَقُ النَّارَ، وتُحِبُّ أن تَدخُلَ الجَنَّةَ؟ قُلتُ: إي واللهِ، قال: أحيٌّ والِدُك؟ قُلتُ: عِندي أُمِّي، قال: فواللهِ لَو ألَنتَ لَها الكَلامَ، وأطعَمتَها الطَّعامَ، لتَدخُلَنَّ الجَنَّةَ ما اجتَنَبتَ الكَبائِرَ) [1121] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (8) واللفظ له، والطبري في ((التفسير)) (6/646)، وابن المنذر في ((التفسير)) (1663) صححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (6)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/491) .
2- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه (أنَّه رَأى رَجُلًا يَمشي بَينَ يَدَي رَجُلٍ، فقال: ما هذا مِنك؟ قال: أبي، قال: فلا تَمشِ بَينَ يَدَيه، ولا تَجلِسْ حَتَّى يَجلِسَ، ولا تَدْعُه باسمِه، ولا تَستَسِبَّ له) [1122] أخرجه عبد الرزاق (20134)، ومعمر في ((الجامع)) (11/138) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7894). .

انظر أيضا: