موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: الإشراكُ في الهَديَّةِ


يُستَحَبُّ للمُهدَى إليه أن يُشرِكَ مَعَه غَيرَه في الهَديَّةِ بما تَيَسَّرَ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن مُجاهِدٍ، أنَّ أبا هرَيرةَ كان يَقولُ: ((أللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنْ كُنْتُ لأعتَمِدُ بكَبِدي على الأرضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كنتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجُوعِ، ولقد قعَدْتُ يومًا على طريقِهم الذي يخرُجون منه، فمرَّ أبو بكرٍ فسألتُه عن آيةٍ من كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ بي عُمَرُ فسألتُه عن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ أبو القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتبسَّم حينَ رآني، وعرَف ما في نفسي وما في وجهي، ثُمَّ قال: يا أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ، ومضى فتبِعْتُه، فدخل فاستأذن فأَذِنَ لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَحٍ، فقال: مِنْ أين هذا اللَّبنُ؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، قال: أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ إلى أهلِ الصُّفَّةِ فادْعُهم لي، قال: وأهلُ الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ لا يأوُون إلى أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صَدَقةٌ بعث بها إليهم ولم يتناوَلْ منها شيئًا، وإذا أتته هَدِيَّةٌ أرسَلَ إليهم وأصاب منها وأَشركَهم فيها [2659] قال ابنُ هُبَيرةَ: (وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا جاءته صَدَقةٌ وَفَّرَها على أهلِها من أهلِ الصُّفَّةِ أو غيرِهم، وإذا جاءته هَدِيَّةٌ لم يتفَرَّدْ بها كما تفرَّد الفُقَراءُ عنه بالصَّدَقةِ، ولكِنَّه كان يوفِّرُ عليهم ما هو لهم، ويَشرَكُهم فيما هو له). ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (7/ 355). ، فساءني ذلك، فقلتُ: وما هذا اللَّبَنُ في أهلِ الصُّفَّةِ؟! كُنتُ أَحقَّ أن أُصيبَ من هذا اللَّبَنِ شَربةً أتقوَّى بها! فإذا جاء أمرَني فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلُغَني من هذا اللَّبَنِ؟! ولم يَكُنْ من طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذِنَ لهم، وأخذوا مجالِسَهم من البيتِ، قال: أبا هِرٍّ، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: خُذْ فأعطِهم، قال: فأخذتُ القَدَحَ فجعَلْتُ أُعطيه الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَروَى، ثُمَّ يرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فأُعطي الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَرْوَى، ثُمَّ يرُدُّ عليَّ القَدَحَ، حتى انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد رَوِيَ القومُ كُلُّهم، فأخذ القَدَحَ فوضَعه على يَدِه، فنظر إليَّ فتبسَّم! فقال: يا أبا هِرٍّ! قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: بَقِيتُ أنا وأنت، قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: اقعُدْ فاشرَبْ، فقعَدْتُ فشَرِبتُ، فما زال يقولُ: اشرَبْ، حتى قُلتُ: لا والذي بعثَك بالحقِّ ما أجِدُ له مَسلَكًا! قال: فأَرِني، فأعطيتُه القَدَحَ، فحَمِد اللهَ وسَمَّى [2660] أي: حَمِد اللهَ على ما منَّ به من البركةِ التي وقَعَت في اللَّبَنِ المذكورِ مع قِلَّتِه حتَّى رَوِي القومُ كُلُّهم وأفضَلوا، وسَمَّى في ابتداءِ الشُّربِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 288). وشَرِبَ الفَضْلةَ [2661] وشَرِب الفَضلةَ، أي: البَقيَّةَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 288). ) [2662] أخرجه البخاري (6452). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أُتيَ بطَعامٍ سَأل عَنه: أهَديَّةٌ أم صَدَقةٌ؟ فإن قيل: صَدَقةٌ، قال لأصحابِه: كُلوا، ولم يَأكُلْ، وإن قيل: هَديَّةٌ، ضَرَبَ بيَدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأكَل مَعَهم)) [2663] أخرجه البخاري (2576) واللفظ له، ومسلم (1077).
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قَدِمَت على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِليةٌ مِن عِندِ النَّجاشيِّ، أهداها له، فيها خاتَمٌ من ذَهَبٍ فيه فَصٌّ حَبَشيٌّ، قالت: فأخَذَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعودٍ مُعرِضًا عنه -أو ببَعضِ أصابعِه- ثُمَّ دَعا أُمامةَ ابنةَ أبي العاصِ -ابنةَ ابنَتِه زَينَبَ- فقال: تَحَلِّي بهذا يا بُنَيَّةُ)) [2664] أخرجه أبو داود (4235) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3644)، وأحمد (24880). حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2914)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1573)، وصحح إسناده ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (6/350)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4235). وذهب إلى تصحيحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (10/85). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُهدِيَت له أَقبيةٌ مِن ديباجٍ مُزَرَّرةٌ [2665] الأقبِيَةُ: جَمعُ قَباءٍ، وهو جِنسٌ مِنَ الثِّيابِ ضَيِّقٌ من لباسِ العَجَمِ. والدِّيباجُ: نوعٌ من الثِّيابِ سَداه ولُحمتُه حريرٌ، وهو فارِسيٌّ مُعَرَّبٌ. وقَولُه: ((مُزَرَّرةٌ))، من زَرَرتُ القميصَ: إذا اتَّخذتَ له أزرارًا، ويُروى مُزردةٌ، مِنَ الزَّردِ، وهو تداخُلُ حِلَقِ الدُّروعِ بَعضِها في بعضٍ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 312) و(2/ 669)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 169)، ((عمدة القاري)) للعيني (15/ 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 268). بالذَّهَبِ، فقَسَّمَها في ناسٍ مِن أصحابِه، وعَزَل مِنها واحِدًا لمَخرَمةَ بنِ نَوفَلٍ، فجاءَ ومَعَه ابنُه المِسوَرُ بنُ مَخرَمةَ، فقامَ على البابِ، فقال: ادعُه لي، فسَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَوتَه، فأخَذَ قَباءً، فتَلقَّاه به واستَقبَله بأزرارِه، فقال: يا أبا المِسوَرِ، خَبَأتُ هذا لك، يا أبا المِسوَرِ، خَبَأتُ هذا لك! وكان في خُلُقِه شِدَّةٌ)) [2666] أخرجه البخاري (3127). .
وفي رِوايةٍ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ، عنِ المِسوَرِ بنِ مَخرَمةَ، قال: ((قَدِمَت على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقْبِيةٌ، فقال لي أبي مَخرَمةُ: انطَلِقْ بنا إليه عَسى أن يُعطيَنا مِنها شَيئًا، قال: فقامَ أبي على البابِ فتَكَلَّمَ، فعَرَف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَوتَه، فخَرَجَ ومَعَه قَباءٌ وهو يُريه مَحاسِنَه، وهو يَقولُ: خَبَأتُ هذا لك، خَبَأتُ هذا لك!)) [2667] أخرجها مسلم (1058). .
وفي أُخرى: ((قال: خَبَأتُ هذا لك، قال: فنَظَرَ إليه، فقال: رَضِيَ مَخرَمةٌ؟!)) [2668] أخرجها البخاري (5800). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (في هذا مِنَ الفِقهِ استِئلافُ أهلِ اللَّسَنِ ومَن في مَعناهم بالعَطيَّةِ والكَلامِ الطَّيِّبِ) [2669] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 116)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 270). .
وقال أيضًا في فِقهِ هذا الحَديثِ: (المُدارةُ مِن أخلاقِ المُؤمِنينَ، وهيَ خَفضُ الجَناحِ للنَّاسِ، ولِينُ الكَلِمةِ، وتَركُ الإغلاظِ لهم في القَولِ، وذلك مِن أقوى أسبابِ الأُلفةِ وسَلِّ السَّخيمةِ) [2670] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 305). .

انظر أيضا: