حادي عشرَ: الوفاءُ لهما بأداءِ ما يلزمُهما
مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالدَينِ: الوفاءُ لهما، ومِنَ الوَفاءِ لهما في حياتِهما وبعدَ موتِهما: قَضاءُ دَينِهما، والحَجُّ عَنهما، والوَفاءُ بنَذرِهما وكذلك الصَّدَقةُ عنهما
[1145] والإجماعُ منعقدٌ على أنَّ الميتَ ينتفِعُ بالعِباداتِ الماليَّةِ -كالصَّدَقةِ-، وأداءِ الواجِبِ الذي تَدخُلُه النِّيابةُ: قال ابنُ قُدامَة: (وأيُّ قُربةٍ فعَلَها، وجعَل ثوابَها للميِّت المُسلِم، نفعَه ذلك إنْ شاء اللهُ؛ أمَّا الدُّعاءُ، والاستغفارُ، والصَّدقةُ، وأداءُ الواجباتِ، فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجباتُ ممَّا تدخُله النِّيابةُ). ((المغني)) (2/423). وقال النوويُّ: (أجمَعَ المُسلمونَ على أنَّ الصَّدقَةَ عن الميِّت تنفعُه وتَصِلُه). ((المجموع)) (5/323). وقال: (فإنَّ الصَّدقةَ تصلُ إلى الميِّت، ويَنتفِعُ بها، بلا خلافٍ بين المسلمين، وهذا هو الصَّوابُ). ((شرح مسلم)) (1/89). وقال أيضًا: (وفيه: أنَّ الدُّعاءَ يصلُ ثوابُه إلى الميِّت، وكذلك الصَّدقةُ، وهما مُجمَعٌ عليهما). ((شرح مسلم)) (11/85). وقال المَرداويُّ: (الدُّعاءُ والاستغفار، والواجبُ الذي تدخُله النيابةُ، وصدَقةُ التطوُّع، والعِتقُ، وحَجُّ التطوُّع، فإذا فعَلَها المسلمُ وجعَل ثوابها للميِّت المُسْلِم، نفَعَه ذلك إجماعًا). ((الإنصاف)) (2/393). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ: أ- مِن السُّنَّةِ 1- عَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال:
((جاءَتِ امرَأةٌ مَن خَثعَمٍ عامَ حَجَّةِ الوداعِ، قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عِبادِه في الحَجِّ أدرَكَت أبي شَيخًا كَبيرًا لا يَستَطيعُ أن يَستَويَ على الرَّاحِلةِ، فهَل يَقضي عَنه أن أحُجَّ عَنه؟ قال: نَعَم)) [1146] أخرجه البخاري (1854) واللفظ له، ومسلم (1334). .
وفي رِوايةٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، عَن أخيه الفَضلِ رَضيَ اللهُ عنه،
((أنَّه كان رِدفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَداةَ النَّحرِ: فأتَته امرَأةٌ مَن خَثعَمٍ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ في الحَجِّ على عِبادِه أدرَكَت أبي شَيخًا كَبيرًا لا يَستَطيعُ أن يَركَبَ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نَعَم، فإنَّه لَو كان على أبيكِ دَينٌ قَضَيتِه)) [1147] أخرجها النسائي (5389)، وابن ماجه (2909) واللفظ له. صَحَّحها ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/339)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2909). وأصلُه في صَحيحِ البُخاريِّ (1853)، ومُسلم (1335) مُختَصَرًا، ولَفظُ مُسلمٍ: عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الفَضلِ: أنَّ امرَأةً مَن خَثعَمٍ قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبي شَيخٌ كَبيرٌ عليه فريضةُ اللهِ في الحَجِّ، وهو لا يَستَطيعُ أن يَستَويَ على ظَهرِ بَعيرِه. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فحُجِّي عنه)). .
2- عَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال:
((أمَرَتِ امرَأةُ سِنانِ بنِ سَلَمةَ الجُهَنيِّ أن يَسألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أُمَّها ماتَت ولَم تَحُجَّ، أفيُجزِئُ عَن أُمِّها أن تَحُجَّ عَنها؟ قال: نَعَم، لَو كان على أُمِّها دينٌ فقَضَته عَنها ألَم يَكُنْ يُجزِئُ عَنها؟ فلتَحُجَّ عَن أُمِّها)) [1148] أخرجه النسائي (2633) واللفظ له، وأحمد (2518) صَحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (3034)، وابن حزم في ((حجة الوداع)) (526)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2633)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (587). .
3- عن عَن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيدةَ، عَن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((بَينا أنا جالسٌ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذ أتَته امرَأةٌ، فقالت: إنِّي تَصَدَّقتُ على أُمِّي بجاريةٍ، وإنَّها ماتَت، قال: فقال: وجَبَ أجرُك، ورَدَّها عليكِ الميراثُ. قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه كان عليها صَومُ شَهرٍ، أفأصومُ عَنها؟ قال: صومي عنها. قالت: إنَّها لَم تَحُجَّ قَطُّ، أفأحُجُّ عَنها؟ قال: حُجِّي عنها)) [1149] أخرجه مسلم (1149). .
4- عَن أبي رَزينٍ العُقَيليِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه قال:
((يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبي شَيخٌ كَبيرٌ لا يَستَطيعُ الحَجَّ ولا العُمرةَ والظَّعنَ [1150] الظَّعنُ: أي: الرِّحلةُ والذَّهابُ، أو رُكوبُ الدَّابَّةِ، وهو بفتحِ الظَّاءِ وسُكونِ العَينِ وفَتحِها: السَّفَرُ، والمَعنى: انتَهى به كِبَرُ السِّنِّ إلى أنَّه لا يَقوى على السَّيرِ ولا على الرُّكوبِ، ولا يَستَطيعُ أن يَفعَلَ أفعالَ الحَجِّ والعُمرةِ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (3/ 263)، ((الكاشف)) للطيبي (6/ 1947)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 1751). ، قال: حُجَّ عَن أبيك واعتَمِرْ)) [1151] أخرجه أبو داود (1810)، والترمذي (930)، والنسائي (2637) واللفظ له. صَحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (4/580)، وابن حبان في ((صحيحه)) (3991)، وابن حزم في ((حجة الوداع)) (464)، والنووي في ((المجموع)) (5/7)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
5- عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها:
((أنَّ رَجُلًا قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أُمِّي افتُلِتَت [1152] افتُلتِت نَفسُها: أي ماتَت فجأةً، وأُخِذَت نَفسُها فَلتةً. يُقالُ: افتَلتَه: إذا استَلبَه، وافتَلتَ فلانٌ بكَذا: إذا فوجِئَ به قَبلَ أن يَستَعِدَّ له. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 467). نَفسُها، وأظُنُّها لَو تَكَلَّمَت تَصَدَّقَت، فهَل لَها أجرٌ إن تَصَدَّقتُ عَنها؟ قال: نَعَم)) [1153] أخرجه البخاري (1388) واللفظ له، ومسلم (1004). .
6- عَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ رَجُلًا قال لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أُمَّه توفِّيَت، أينفَعُها إن تَصَدَّقتُ عَنها؟ قال: نَعَم، قال: فإنَّ لي مِخرافًا [1154] هو حائِطُ النَّخلِ، وكذلك البُستانُ تَكونُ فيه الفاكِهةُ تُختَرَفُ، أي: تُجتَنى. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 425). ، وأُشهِدُك أنِّي قد تَصَدَّقتُ به عَنها)) [1155] أخرجه البخاري (2770). .
7- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما،
((أنَّ امرَأةً مِن جُهَينةَ جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إن أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ فلَم تَحُجَّ حَتَّى ماتَت، أفأحُجُّ عَنها؟ قال: نَعَم، حُجِّي عَنها، أرَأيتِ لَو كان على أُمِّكِ دينٌ أكُنتِ قاضيةً؟ اقضُوا اللَّهَ؛ فاللَّهُ أحَقُّ بالوَفاءِ)) [1156] أخرجه البخاري (1852). .
وفي رِوايةٍ: عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما،
((أنَّ امرَأةً أتَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: إن أُمِّي ماتَت وعليها صَومُ شَهرٍ، فقال: أرَأيتِ لَو كان عليها دينٌ أكُنتِ تَقضينَه؟ قالت: نَعَم، قال: فدَينُ اللهِ أحَقُّ بالقَضاءِ)) [1157] أخرجها البخاري (1953)، ومسلم (1148) واللفظ له. .
8- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ سَعدَ بنَ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنه استَفتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ أُمِّي ماتَت وعليها نَذرٌ، فقال: اقْضِه عَنها)) [1158] أخرجه البخاري (2761) واللفظ له، ومسلم (1638). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (في الحَديثِ قَضاءُ الحُقوقِ الواجِبةِ عَنِ المَيِّتِ، وقد ذَهَبَ الجُمهورُ إلى أنَّ مَن ماتَ وعليه نَذرٌ ماليٌّ أنَّه يَجِبُ قَضاؤُه مِن رَأسِ مالِه وإن لَم يوصِ، إلَّا إن وقَعَ النَّذرُ في مَرَضِ المَوتِ، فيَكونُ مِنَ الثُّلُثِ، وشَرَط المالكيَّةُ والحَنَفيَّةُ أن يوصيَ بذلك مُطلَقًا... وفيه استِفتاءُ الأعلَمِ، وفيه فَضلُ بِرِّ الوالِدَينِ بَعدَ الوَفاةِ، والتَّوصُّلِ إلى بَراءةِ ما في ذِمَّتِهم)
[1159] ((فتح الباري)) (11/ 585). .
9- عَنِ الشَّعبيِّ، قال: حَدَّثَني جابرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ أباه استُشهِدَ يَومَ أُحُدٍ وتَرَكَ سِتَّ بَناتٍ وتَرَكَ عليه دَينًا، فلَمَّا حَضَرَ جَدادُ [1160] جِدادُ النَّخلِ، بفتحِ الجيمِ وكَسرِها، هو: صِرامُ النَّخلِ، وهو قَطعُ ثَمَرَتِها، يُقالُ: جَدَّ الثَّمَرةَ يَجُدُّها جَدًّا. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 372)، ((عمدة القاري)) للعيني (14/ 77). النَّخلِ أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قد عَلِمتَ أنَّ والدي استُشهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ عليه دَينًا كَثيرًا، وإنِّي أُحِبُّ أن يَراك الغُرَماءُ، قال: اذهَبْ فبَيدِرْ [1161] فبَيدِرْ، أمرٌ مِن: بَيدَرَ، أي: اجعَلْ كُلَّ صِنفٍ في بَيدَرٍ -أي: جَرينٍ- يَخُصُّه، والبَيدَرةُ: جَمعُ الثَّمَرةِ في البَيدَرِ، وهو المَكانُ الذي تُجمَعُ فيه قَبلَ نَقلِها إلى البُيوتِ، وكذلك مَوضِعُ الغَلَّاتِ، والمَكانُ الذي يُداسُ فيه الطَّعامُ يُسَمَّى بَيدَرًا، وهو هنا المَكانُ الذي يُجعَلُ فيه التَّمرُ المَجدودُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 372)، ((عمدة القاري)) للعيني (14/ 77). كُلَّ تَمرٍ على ناحيَتِه، ففعَلتُ ثُمَّ دَعَوتُه، فلَمَّا نَظَروا إليه أُغْرُوا [1162] أُغْرُوا بي: مُشتَقٌّ مِنَ الإغراءِ، وهو فِعلُ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، أي: لهَجوا، يُقالُ: أغرى بكَذا: إذا لهِجَ به وأُولِعَ به، وأغرَيتُ فُلانًا بفُلانٍ: إذا حَمَلتَه على قَصدِه، والمُرادُ: أنَّهم لجُّوا في مُطالبَتي وألحُّوا. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 372)، ((عمدة القاري)) للعيني (14/ 77). بي تلك السَّاعةَ، فلَمَّا رَأى ما يَصنَعونَ أطاف حَولَ أعظَمِها بَيدَرًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عليه، ثُمَّ قال: ادعُ أصحابَك، فما زالَ يَكيلُ لَهم حَتَّى أدَّى اللَّهُ أمانةَ والِدي، وأنا واللَّهِ راضٍ أن يُؤَدِّيَ اللَّهُ أمانةَ والِدي، ولا أرجِعَ إلى أخَواتي بتَمرةٍ، فسَلِمَ واللهِ البَيادِرُ كُلُّها حَتَّى أنِّي أنظُرُ إلى البَيدَرِ الذي عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كَأنَّه لَم يَنقُصْ تَمرةً واحِدةً)) [1163] أخرجه البخاري (2781). .
ب- مِنَ الآثارِ عَن هشامِ بنِ عُروةَ، عَن أبيه، عَن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (لمَّا وقَف الزُّبَيرُ يَومَ الجَمَلِ دَعاني، فقُمتُ إلى جَنبِه، فقال: يا بُنَيَّ، إنَّه لا يُقتَلُ اليَومَ إلَّا ظالمٌ أو مَظلومٌ، وإنِّي لا أُراني إلَّا سأُقتَلُ اليَومَ مَظلومًا، وإنَّ مِن أكبَرِ هَمِّي لدَيني، أفتُرى يُبقي دَينُنا مِن مالِنا شَيئًا؟ فقال: يا بُنَيَّ بِعْ مالَنا، فاقضِ دَيني، وأوصى بالثُّلُثِ وثُلُثِه لبَنيه -يَعني بَني عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ- يَقولُ: ثُلثُ الثُّلثِ، فإن فَضلَ مِن مالِنا فضلٌ بَعدَ قَضاءِ الدَّينِ شَيءٌ، فثُلُثُه لولَدِك " -قال هشامٌ: وكان بَعضُ وَلَدِ عَبدِ اللَّهِ قد وازى بَعضَ بَني الزُّبَيرِ، خُبَيبٌ، وعَبَّادٌ، ولَه يَومَئِذٍ تِسعةُ بَنينَ، وتِسعُ بَناتٍ-، قال عَبدُ اللَّهِ: فجَعَلَ يوصيني بدَينِه، ويَقولُ: يا بُنَيَّ إن عَجَزتَ عَنه في شَيءٍ فاستَعِنْ عليه مَولايَ، قال: فواللهِ ما دَرَيتُ ما أرادَ حَتَّى قُلتُ: يا أبَةِ مَن مَولاك؟ قال: اللهُ! قال: فواللهِ ما وقَعتُ في كُربةٍ مِن دَينِه إلَّا قُلتُ: يا مَولى الزُّبَيرِ اقضِ عَنه دَينَه، فيَقضيه، فقُتِل الزُّبَيرُ رَضيَ اللهُ عنه، ولَم يَدَعْ دينارًا ولا دِرهَمًا إلَّا أرَضينَ، مِنها الغابةُ، وإحدى عَشرةَ دارًا بالمَدينةِ، ودارَينِ بالبَصرةِ، ودارًا بالكوفةِ، ودارًا بمِصرَ، قال: وإنَّما كان دَينُه الذي عليه أنَّ الرَّجُلَ كان يَأتيه بالمالِ فيَستَودِعُه إيَّاه، فيَقولُ الزُّبَيرُ: لا، ولَكِنَّه سَلَفٌ؛ فإنِّي أخشى عليه الضَّيعةَ، وما وَليَ إمارةً قَطُّ ولا جِبايةَ خَراجٍ ولا شَيئًا إلَّا أن يَكونَ في غَزوةٍ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو مَعَ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهم، قال عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ: فحَسَبتُ ما عليه مِنَ الدَّينِ، فوجَدتُه ألْفَي ألفٍ ومِائَتَي ألفٍ! قال: فلَقِيَ حَكيمُ بنُ حِزامٍ عبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيرِ، فقال: يا ابنَ أخي، كَم على أخي مِنَ الدَّينِ، فكَتَمَه؟ فقال: مِائةُ ألفٍ، فقال حَكيمٌ: واللهِ ما أُرى أموالَكم تَسَعُ لهذه! فقال له عَبدُ اللَّهِ: أفرَأيتَكَ إن كانت ألْفَي ألفٍ ومِائَتَي ألفٍ؟! قال: ما أُراكُم تُطيقونَ هذا، فإن عَجَزتُم عَن شَيءٍ مِنه فاستَعينوا بي، قال: وكان الزُّبَيرُ اشتَرى الغابةَ بسَبعينَ ومِائةَ ألفٍ، فباعَها عَبدُ اللَّهِ بألفِ ألفٍ وسِتِّمِائةِ ألفٍ! ثُمَّ قامَ فقال: مَن كان له على الزُّبَيرِ حَقٌّ فليُوافِنا بالغابةِ، فأتاه عبدُ اللهِ بنُ جَعفرٍ، وكان له على الزُّبَيرِ أربَعُمِائةِ ألفٍ، فقال لعَبدِ اللَّهِ: إن شِئتُم تَرَكتُها لَكُم، قال عَبدُ اللَّهِ: لا، قال: فإن شِئتُم جَعَلتُموها فيما تُؤَخِّرونَ إن أخَّرتُم؟ فقال عَبدُ اللَّهِ: لا، قال: قال: فاقطَعوا لي قِطعةً، فقال عَبدُ اللَّهِ: لَك مِن هاهنا إلى هاهنا، قال: فباعَ مِنها فقَضى دَينَه فأوفاه، وبَقيَ مِنها أربَعةُ أسهُمٍ ونِصفٌ، فقدِمَ على مُعاويةَ وعِندَه عَمرُو بنُ عُثمانَ، والمُنذِرُ بنُ الزُّبَيرِ، وابنُ زَمعةَ، فقال له مُعاويةُ: كَم قُوِّمَتِ الغابةُ؟ قال: كُلُّ سَهمٍ مِائةَ ألفٍ، قال: كَم بَقيَ؟ قال: أربَعةُ أسهُمٍ ونِصفٌ، قال المُنذِرُ بنُ الزُّبَيرِ: قد أخَذتُ سَهمًا بمِائةِ ألفٍ، قال عَمرُو بنُ عُثمانَ: قد أخَذتُ سَهمًا بمِائةِ ألفٍ، وقال ابنُ زَمعةَ: قد أخَذتُ سَهمًا بمِائةِ ألفٍ، فقال مُعاويةُ: كَم بَقيَ؟ فقال: سَهمٌ ونِصفٌ، قال: قد أخَذتُه بخَمسينَ ومِائةِ ألفٍ، قال: وباعَ عبدُ اللهِ بنُ جَعفَرٍ نَصيبَه مِن مُعاويةَ بسِتِّمِائةِ ألفٍ، فلَمَّا فرَغَ ابنُ الزُّبَيرِ مِن قَضاءِ دَينِه، قال بَنو الزُّبَيرِ: اقسِمْ بَينَنا ميراثَنا، قال: لا، واللَّهِ لا أقسِمُ بَينَكُم حَتَّى أُناديَ بالمَوسِمِ أربَعَ سِنينَ: ألا مَن كان له على الزُّبَيرِ دَينٌ فليَأتِنا فلنَقضِه، قال: فجَعَلَ كُلَّ سَنةٍ يُنادي بالمَوسِمِ، فلَمَّا مَضى أربَعُ سِنينَ قَسَم بَينَهم، قال: فكان للزُّبَيرِ أربَعُ نِسوةٍ، ورَفَعَ الثُّلثَ، فأصابَ كُلَّ امرَأةٍ ألفُ ألفٍ ومِائَتا ألفٍ! فجَميعُ مالِه خَمسونَ ألفَ ألفٍ، ومِائَتا ألفٍ)
[1164] أخرجه البخاري (3129). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش