موسوعة الآداب الشرعية

ثاني عشرَ: صِلةُ أهلِ وُدِّهما


مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالِدَينِ: صِلةُ أهلِ وُدِّهما وأصدِقائِهما، ولا سيَّما بَعدَ مَوتِهما.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ:
1- عَن أبي بُردةَ، قال: قدِمتُ المَدينةَ فأتاني عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، فقال: أتَدري لمَ أتَيتُك؟ قال قُلتُ: لا، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن أحَبَّ أن يَصِلَ أباه في قَبرِه فليَصِلْ إخوانَ أبيه بَعدَه))، وإنَّه كان بَينَ أبي عُمَرَ وبَينَ أبيك إخاءٌ ووُدٌّ فأحبَبتُ أن أصِلَ ذاكَ [1165] أخرجه أبو يعلى (5669)، وابن حبان (432) واللفظ له. صَحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5960)، وصحَّح إسناده على شرط البخاري شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (432). .
2- عَن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عَن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَجُلًا مِنَ الأعرابِ لَقيَه بطَريقِ مَكَّةَ، فسَلَّمَ عليه عَبدُ اللَّهِ، وحَملَه على حِمارٍ كان يَركَبُه. وأعطاه عِمامةً كانت على رَأسِه، فقال ابنُ دينارٍ: فقُلْنا له: أصلَحَك اللهُ، إنَّهمُ الأعرابُ، وإنَّهم يَرضَونَ باليَسيرِ! فقال عَبدُ اللَّهِ: إنَّ أبا هذا كان وُدًّا لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ أبَرَّ البِرِّ صِلةُ الوَلَدِ أهلَ وُدِّ أبيه)) [1166] أخرجه مسلم (2552). .
وفي رِوايةٍ عَن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّه كان إذا خَرَجَ إلى مَكَّةَ كان له حِمارٌ يَتَرَوَّحُ [1167] يَتَرَوَّحُ عليه: مِنَ الاستِراحةِ، والمَعنى: أنَّه كان يَستَصحِبُ حِمارًا ليَستَريحَ عليه إذا ضَجِرَ مِن رُكوبِ البَعيرِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 16)، ((شرح مسلم)) للنووي (16/ 110). عليه إذا مَلَّ رُكوبَ الرَّاحِلةِ، وعِمامةٌ يَشُدُّ بها رَأسَه، فبَينا هو يَومًا على ذلك الحِمارِ إذ مَرَّ به أعرابيٌّ، فقال: ألستَ ابنَ فُلانِ بنِ فُلانٍ؟ قال: بَلى، فأعطاه الحِمارَ، وقال: اركَبْ هذا، والعِمامةَ، قال: اشدُدْ بها رَأسَك، فقال له بَعضُ أصحابِه: غَفرَ اللهُ لَك أعطَيتَ هذا الأعرابيَّ حِمارًا كُنتَ تَرَوَّحُ عليه، وعِمامةً كُنتَ تَشُدُّ بها رَأسَك! فقال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ مِن أبِرِّ البرِّ صِلةَ الرَّجُلِ أهلَ وُدِّ أبيه بَعدَ أن يُولِّيَ))، وإنَّ أباه كان صَديقًا لعُمَرَ [1168] أخرجها مسلم (2552). .
قال الطِّيبيُّ: (المَعنى: أنَّ مِن جُملةِ المَبَرَّاتِ الفُضلى مَبَرَّةَ الرَّجُلِ مَعَ أحِبَّاءِ أبيه؛ فإنَّ مَودَّةَ الآباءِ قَرابةٌ للأبناءِ، أي: إذا غابَ الأبُ أو ماتَ يَحفَظُ أهلَ وُدِّه ويُحسِنُ إليهم؛ فإنَّه مِن تَمامِ الإحسانِ إلى الأبِ، وإنَّما كان أبَرَّ؛ لأنَّه إذا حَفِظ غَيبَتَه فهو بحِفظِ حُضورِه أَولى وأَحرى) [1169] ((الكاشف عن حقائق السنن)) (10/ 3159). .
وقال المُناويُّ: (قال العِراقيُّ: جَعَلَه أبَرَّ البِرّ أو مِن أبَرِّه؛ لأنَّ الوفاءَ بحُقوقِ الوالدَينِ والأصحابِ بَعدَ مَوتِهم أبلَغُ؛ لأنَّ الحَيَّ يُجامَلُ، والمَيِّتَ لا يُستَحى مِنه ولا يُجامَلُ إلَّا بحُسنِ العَهدِ. ويَحتَمِلُ أنَّ أصدِقاءَ الأب كانوا مَكفيِّينَ في حَياتِه بإحسانِه، وانقَطَعَ بمَوتِه، فأمَر بَنيه أن يَقوموا مَقامَه فيه، وإنَّما كان هذا أبَرَّ البرِّ لاقتِضائِه التَّرَحُّمَ والثَّناءَ على أبيه، فيَصِلُ لرُوحِه راحةٌ بَعدَ زَوالِ المُشاهَدةِ المُستَوجِبةِ للحَياةِ، وذلك أشَدُّ مِن بِرِّه له في حَياتِه، وكَذا بَعدَ غَيبَتِه؛ فإنَّه إذا لَم يَظهَرْ له شَيءٌ يوجِبُ تَركَ المَودَّةِ فكَأنَّه حاضِرٌ، فيَبقى وُدُّه كما كان، وكَذا بَعدَ المُعاداةِ رَجاءَ عَودِ المَودَّةِ وزَوالِ الوَحشةِ) [1170] ((فيض القدير)) (2/ 405). .

انظر أيضا: