موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ مُتَفرِّقةٌ


1- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَجزي ولَدٌ والِدًا، إلَّا أن يَجِدَه مَملوكًا فيَشتَريَه فيُعتِقَه)) [1194] أخرجه مسلم (1510). .
قال الخَطَّابيُّ: (إنَّما صارَ هذا جَزاءً له وأداءً لحَقِّه؛ لأنَّ العِتقَ أفضَلُ ما يُنعِمُ به أحَدٌ على أحَدٍ؛ لأنَّه يُخَلِّصُه بذلك مِنَ الرِّقِّ، ويَجبُرُ مِنه النَّقصَ الذي فيه، ويُكمِلُ فيه أحكامَ الأحرارِ في الأملاكِ والأنكِحةِ وجَوازِ الشَّهادةِ ونَحوِها مِنَ الأُمورِ) [1195] ((معالم السنن)) (4/ 150). .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ مِنَ الفِقهِ: أنَّ جَزاءَ الولَدِ للوالدِ بقَدرِ استِحقاقِه غَيرُ مُتَصَوَّرٍ، وإنَّما صَوَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صورةً نادِرةَ الوُقوعِ، وهيَ أن يَجِدَه مَملوكًا فيَشتَريَه فيُعتِقَه؛ ليَدُلَّ على غَزارةِ فَضلِ الوالدَينِ، على أنَّه إذا اشتَراه عَتَق مِن غَيرِ أن يُعتِقَه) [1196] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 112). .
2- عَن سَعيدِ بنِ أبي بُردةَ، قال: (سَمِعتُ أبي يُحَدِّثُ أنَّه شَهِدَ ابنَ عُمَرَ ورَجُلٌ يَمانيٌّ يَطوفُ بالبَيتِ، حَمَلَ أُمَّه وراءَ ظَهرِه، يَقولُ:
إنِّي لَها بَعيرُها المُذَلَّلْ
إنْ أُذعِرَت رِكابُها لمَ أُذعَرْ [1197] لم أُذعَرْ: أي: لم أخَفْ ولم أفزَعْ، والذُّعرُ: الخَوفُ والفزَعُ، يُقالُ: ذُعِرَ فلانٌ ذُعرًا فهو مَذعورٌ، أي: أُخيفَ، وذَعَرتُه أذعَرُه ذُعرًا: أفزَعتُه، والاسمُ: الذُّعرُ بالضَّمِّ، وذَعَرتُه وأذعَرتُه بمَعنًى واحِدٍ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لإبراهيم الحربي (1/ 281)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (2/ 188)، ((الصحاح)) للجوهري (2/ 663) ((تاج العروس)) للزبيدي (11/ 370، 371).
ثُمَّ قال: يا ابنَ عُمَرَ، أتُراني جَزَيتُها؟ قال: لا، ولا بزَفرةٍ [1198] زَفرَ يَزفِرُ زَفرًا وزَفيرًا: أخرج نَفَسَه بَعدَ مَدِّه إيَّاه، والزَّفيرُ: اغتِراقُ النَّفَسِ للشِّدَّةِ، وتَرَدُّدُ النَّفَسِ حتَّى تَنتَفِخَ الضُّلوعُ مِنه، وازدَفَر فُلانٌ كذا: إذا تَحَمَّله بمَشَقَّةٍ، فتَرَدَّد فيه نَفَسُه، والزَّفرةُ: التَّنَفُّسُ والمُتَنَفَّسُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 670)، ((المحكم)) لابن سيده (9/ 29)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380). واحِدةٍ!) [1199] أخرجه الحسين بن حرب في ((البر والصلة)) (37)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (11) واللفظ له، وابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (235). صحَّح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (9). .
3- أوصى زَيدُ بنُ عَليٍّ ابنَه فقال: (يا بُنَيَّ، إنَّ اللَّهَ تعالى لَم يَرضَك لي فأوصاك بي، ورَضيَني لَك فحَذَّرَنيك! واعلَمْ أنَّ خَيرَ الآباءِ للأبناءِ مَن لَم تَدْعُه المَودَّةُ إلى التَّفريطِ، وخَيرَ الأبناءِ للآباءِ مَن لَم يَدْعُه التَّقصيرُ إلى العُقوقِ) [1200] ((التذكرة)) لابن حمدون (3/ 333). .
4- قال ابنُ الجَوزيِّ: (الوَيلُ كُلُّ الوَيلِ لعاقِّ والِدَيه، والخِزيُ كُلُّ الخِزيِ لمَن ماتا غِضابًا عليه، أُفٍّ له! هَل جَزاءُ المُحسِنِ إلَّا الإحسانُ إليه؟! أتْبِعِ الآنَ تَفريطَك في حَقِّهما أنينًا وزَفيرًا وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
كَم آثَراك بالشَّهَواتِ على النَّفس، ولَو غِبتَ ساعةً صارا في حَبْس، حَياتُهما عِندَك بَقايا شَمْس، لَقد راعَياك طَويلًا فارعَهما قَصيرًا، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
كَم لَيلةً سَهِرَا مَعَك إلى الفَجْر، يُداريانِك مُداراةَ العاشِقِ في الهَجْر، فإن مَرِضتَ أجرَيا دَمعًا لَم يَجْر، تاللَّهِ لَم يَرضَيا لتَربيَتِك غَيرَ الكَفِّ والحِجرِ سَريرًا وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
يُعالجانِ أنجاسَك ويُحِبَّانِ بَقاءَك، ولَو لَقِيتَ مِنهما أذًى شَكَوتَ شَقاءَك، ما تَشتاقُ لَهما إذا غابا ويَشتاقانِ لقاءَك، كَم جَرَّعاك حُلوًا وجَرَّعتَهما مَريرًا! وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
أتحسُنُ الإساءةُ في مُقابَلةِ الإحسان، أوَ ما تَأنَفُ الإنسانيَّةُ للإنسان، كَيف تُعارِضُ حُسنَ فَضلِهما بقُبحِ العِصيان، ثُمَّ تَرفَعُ عليهما صَوتًا جَهيرًا؟ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
تُحِبُّ أولادَك طَبعًا، فأحبِبْ والِدَيك شَرعًا، وارْعَ أصلًا أثمَرَ لَك فَرعًا، واذكُرْ لُطفَهما بك وطِيبَ المَرعى أوَّلًا وأخيرًا، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
تَصَدَّقْ عَنهما إن كانا مَيِّتَين، واقضِ عَنهما الدَّين، واستَغفِرْ لَهما واستَدِمْ هاتَينِ الكَلمَتَين، وما تُكَلَّفُ إلَّا أمرًا يَسيرًا وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [1201] ((التبصرة)) (1/ 192). .
5- قال بَعضُهم: (أيُّها المُضَيِّعُ لآكَدِ الحُقوقِ، المُعتاضُ مِن برِّ الوالدَينِ العُقوقَ، النَّاسي لِما يَجِبُ عليه، الغافِلُ عَمَّا بَينَ يَدَيه. برُّ الوالدَينِ عليك دَينٌ، وأنتَ تَتَعاطاه باتِّباع الشَّيْنِ! تَطلُبُ الجَنَّةَ بزَعمِك، وهيَ تَحتَ أقدامِ أُمِّك، حَملَتك في بَطنِها تِسعةَ أشهرٍ كَأنَّها تِسعُ حِجَجٍ! وكابَدَت عِندَ الوَضعِ ما يُذيبُ المُهَجَ، وأرضَعَتك مِن ثَديِها لَبَنًا، وأطارَت لأجلِك وَسَنًا، وغَسَلَت بيَمينِها عَنك الأذى، وآثَرَتك على نَفسِها بالغِذا، وصَيَّرَت حِجرَها لَك مَهدًا، وأنالَتْك إحسانًا ورِفدًا، فإن أصابَك مَرَضٌ أو شِكاية أظهَرتَ مِنَ الأسَفِ فوقَ النِّهايةِ، وأطالَتِ الحُزنَ والنَّحيب، وبَذَلَت مالَها للطَّبيب، ولَو خُيِّرَت بَينَ حَياتِك ومَوتِها لَطَلَبَت حَياتَك بأعلى صَوتِها!
هذا، وكَم عامَلْتَها بسوءِ الخُلُقِ مِرارًا فدَعَت لَك بالتَّوفيقِ سِرًّا وجِهارًا، فلمَّا احتاجَت عِندَ الكِبَرِ إليك جَعَلتَها مِن أهونِ الأشياءِ عليك! فشَبِعتَ وهيَ جائِعةٌ، ورَوِيتَ وهيَ قانِعةٌ، وقَدَّمتَ عليها أهلَك وأولادَك بالإحسانِ، وقابَلتَ أياديَها بالنِّسيانِ، وصَعُب لَدَيك أمرُها وهو يَسيرٌ، وطالَ عليك عُمرُها وهو قَصيرٌ، هجَرتَها وما لَها سِواك نَصيرٌ، هذا ومَولاك قد نَهاك عَنِ التَّأفيفِ، وعاتَبَك في حَقِّها بعِتابٍ لَطيفٍ! ستُعاقَبُ في دُنياك بعُقوقِ البَنينَ، وفي أُخراك بالبُعدِ مِن رَبِّ العالَمينَ، يُناديك بلسانِ التَّوبيخِ والتَّهديد: ذلك بما قُدَّمَت يَداك وأنَّ اللَّهَ ليس بظَلَّامٍ للعَبيد.
لأُمِّك حَقٌّ لَو عَلِمتَ كَثيرُ
كثيرُك يا هذا لَدَيه يَسيرُ
فكَم لَيلةً باتَت بثِقلِك تَشتَكي
لَها مِن جَواها [1202] الجَوى: الحُرقةُ وشِدَّةُ الوَجدِ مِن عِشقٍ أو حُزنٍ، وهو أيضًا كُلُّ داءٍ يَأخُذُ في الباطِنِ لا يُستَمرَأُ مَعَه الطَّعامُ. يُنظر: ((العين)) للخليل (6/ 196)، ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (5/ 276). أنَّةٌ وزَفيرُ
وفي الوَضعِ لَو تَدري عليها مَشَقَّةٌ
فمِن غُصَصٍ [1203] الغُصَصُ: جَمعُ غُصَّةٍ، وهيَ الشَّجى، وما اعتَرَضَ في الحَلقِ مِن طَعامٍ أو شَرابٍ، وتُطلقُ على ما غَصَّ به الإنسانُ مِن غَيظٍ ونَحوِه على التَّشبيهِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/ 1047)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 448)، ((المعجم الوسيط)) (2/ 654). مِنها الفُؤادُ يَطيرُ
وكَم غَسَلَت عَنك الأذى بيَمينِها
وما حِجرُها إلَّا لَدَيك سَريرُ
وتَفديك مِمَّا تَشتَكيه بنَفسِها
ومِن ثَديِها شُربٌ لَدَيك نَميرُ
وكَم مَرَّةً جاعَت وأعطَتك قُوتَها
حَنانًا وإشفاقًا وأنتَ صَغيرُ
فآهًا لذي عَقلٍ ويَتبَعُ الهَوى
وآهًا لأعمى القَلبِ وهْو بَصيرُ
فدونَك فارغَبْ في عَميمِ دُعائِها
فأنتَ لِما تَدعو إليه فَقيرُ) [1204] ((الكبائر)) المنسوب للذهبي (ص: 44، 45). .
6- قال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (مِمَّا وصَّاكُم به رَبُّكُم أن تُحسِنوا بالوالدَينِ إحسانًا تامًّا كامِلًا لا تَدَّخِرونَ فيه وُسعًا، ولا تَألونَ فيه جُهدًا، وهذا يَستَلزِمُ تَركَ الإساءةِ وإن صَغُرَت، فكَيف بالعُقوقِ المُقابِلِ لغايةِ الإحسانِ وهو مِن أكبَرَ كَبائِرِ المُحَرَّماتِ؟! وقد تَكَرَّرَ في القُرآنِ القِرانُ بَينَ التَّوحيدِ والنَّهيِ عَنِ الشِّركِ، وبَينَ الأمرِ بالإحسانِ للوالدَينِ... ولَو لَم يَرِدْ في التَّنزيلِ إلَّا قَولُه تعالى: وَبِالْوِالِدَيْنِ إِحْسَانًا ولَو غَيرَ مُكَرَّرٍ، لَكَفى في الدَّلالةِ على عِظَمِ عِنايةِ الشَّرعِ بأمرِ الوالِدَينِ، بما تَدُلُّ عليه الصِّيغةُ والتَّعديةُ، فكَيف وقد قَرَنَه بعِبادَتِه وجَعله ثانيَها في الوصايا، وأكَّدَه بما أكَّدَه به في سورةِ الإسراءِ، كما قَرَنَ شُكرَهما بشُكرِه في وصيَّةِ سورةِ لُقمانَ، فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لُقمان: 14] ، وورَدَ في مَعنى التَّنزيلِ عِدَّةُ أحاديثَ نَكتَفي مِنها بحَديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((سَألَتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ قال: الصَّلاةُ على وَقتِها -وفي رِوايةٍ: لوَقتِها-. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: بِرُّ الوالِدَينِ، قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ))، فقدَّمَ برَّ الوالِدَينِ على الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، الذي هو أكبَرُ الحُقوقِ العامَّةِ على الإنسانِ؛ ذلك كُلُّه بأنَّ حَقَّ الوالِدَينِ على الولَدِ أكبَرُ مِن جَميعِ حُقوقِ الخَلقِ عليه، وعاطِفةُ البُنوَّةِ ونُعَرَتُها مِن أقوى غَرائِزِ الفِطرةِ، فمَن قَصَّر في بِرِّ والِدَيه والإحسانِ بهما كان فاسِدَ الفِطرةِ مِضياعًا للحُقوقِ كُلِّها؛ فلا يُرجى مِنه خَيرٌ لأحَدٍ!
وقد بالَغَ بَعضُ العُلَماءِ في الكَلامِ على برِّ الوالدَينِ حَتَّى جَعَلوا مِن مُقتَضى الوصيَّةِ بهما أن يَكونَ الولَدُ مَعَهما كالعَبدِ الذَّليلِ مَعَ السَّيِّدِ القاسي الظَّالمِ، وقد أطمَعوا بذلك الآباءَ الجاهِلينَ المَريضي الأخلاقِ حَتَّى جرَّؤوا ذا الدِّينِ مِنهم على أشَدَّ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عليه ضُعَفاءُ الدِّينِ مِنَ القَسوةِ على الأولادِ وإهانَتِهم وإذلالِهم! وهذا مَفسَدةٌ كَبيرةٌ لتَربيةِ الأولادِ في الصِّغَرِ، وإلجاءٌ لَهم إلى العُقوقِ في الكِبَرِ، وإلى ظُلمِ أولادِهم كما ظَلَمَهم آباؤُهم، وحينَئِذٍ يَكونونَ مِن أظلَمِ النَّاسِ للنَّاسِ... والصَّوابُ: أنَّه يَجِبُ على الوالدَينِ تَربيةُ الأولادِ على حُبِّهما واحتِرامِهما احتِرامَ المَحَبَّةِ والكَرامةِ، لا احتِرامَ الخَوفِ والرَّهبةِ) [1205] ((تفسير المنار)) (8/ 163، 164). .

انظر أيضا: