تاسعًا: مُقابَلةُ القَطيعةِ بالصِّلةِ
يُستَحَبُّ مُقابَلةُ القَطيعةِ بالصِّلةِ، ودَفعُ السِّيِّئةِ بالحَسَنةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ: أ- مِنَ الكِتابِ 1- قال تعالى:
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 19 - 24] .
2- قال تعالى:
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ 1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((ليس الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولكِنَّ الواصِلَ الذي إذا قَطَعَتْ رَحِمُه وصَلَها)) [1335] أخرجه البخاري (5991). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (المُكافِئُ: مُقابِلُ الفِعلَ بمِثلِه، والواصِلُ للرَّحِمِ لأجلِ اللهِ تعالى يَصِلُها تَقَرُّبًا إليه وامتِثالًا لأمرِه وإن قطعَت، فأمَّا إذا وصَلَها حينَ تَصِلُه فذاك كقَضاءِ دَينٍ)
[1336] ((كشف المشكل)) (4/ 120). ويُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 208، 209). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عَلَيَّ، فقال:
((لَئِنْ كُنتَ كما قُلتَ فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزالُ معك من اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك)) [1337] أخرجه مسلم (2558). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في قَولِه: «تُسِفُّهم» قَولانِ؛ أحَدُهما: تُطعِمُهم، مِن قَولِك: سَفِفتُ الدَّواءَ أسَفُّه، فشَبَّه ما يَدخُلُ عليهم مِنَ الإثمِ والنَّقصِ في أديانِهم بما يَدخُلُ على مَن يَتَناولُ الرَّمادَ الحارَّ مِنَ الألمِ والتَّنغيصِ.
والثَّاني: أنَّ مَعنى «تُسِفُّهم» تَسفي في وُجوهِهمُ المَلَّةَ، والمَلَّةُ والملُّ: التُّرابُ الحارُّ والرَّمادُ، ومَعناه: أنَّه مَأخوذٌ مِنَ السَّبقِ؛ فإنَّ مِن عادةِ العَرَبِ أن يَقولوا للسَّابقِ: حَثَثتَ في وَجهِ مَن سابَقَك التُّرابَ، أي: إنَّك سَبَقتَه حتَّى جَعَلتَ تُرابَك الذي أثَرْتَه في وَجهِه، فيَعني صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّك لو كُنتَ وصَلتَ الواصِلينَ مِنهم لكنتَ أحسَنتَ، فكيف إذا وصَلتَ القاطِعينَ؛ فإنَّك سَبَقتَ السَّبقَ البَعيدَ حتَّى أسفَفْتَهم المَلَّ! يَعني أنَّك على فَضلِك، فإنَّ سوءَ قَطيعَتِهم يَكونُ ما تُسِفُّهم إيَّاه، تَنزِلُ عن دَرَجةِ التُّرابِ إلى الملِّ، وهو الرَّمادُ الذي لم يَبقَ فيه مَنفعةٌ، إلَّا أنَّه حارٌّ ينالُ بجُزءٍ مِنَ العَذابِ)
[1338] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 184، 185). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (مَعنى ذلك: أنَّ إحسانَك إليهم مَعَ إساءَتِهم لك يَتَنَزَّلُ في قُلوبِهم مَنزِلةَ النَّارِ المُحرِقةِ؛ لِما يَجِدونَ مِن ألمِ الخِزيِ والفضيحةِ، والعارِ النَّاشِئِ في قَلبِ مَن قابَل الإحسانَ بالإساءةِ.
وقَولُه: «ولا يَزالُ مَعَك مِنَ اللهِ ظَهيرٌ ما دُمتَ على ذلك» الظَّهيرُ: المُعينُ، ومَعناه: أنَّ اللَّهَ تعالى يُؤيِّدُك بالصَّبرِ على جَفائِهم، وحُسنِ الخُلُقِ مَعَهم، ويُعليك عليهم في الدُّنيا والآخِرةِ مُدَّةَ دوامِك على مُعامَلتِك لهم بما ذكرْتَ)
[1339] ((المفهم)) (6/ 529). .
وقال النَّوويُّ: (هو تَشبيهٌ لِما يَلحَقُهم مِن الإثمِ بما يَلحَقُ آكِلَ الرَّمادِ الحارِّ مِنَ الألمِ، ولا شيءَ على هذا المُحسِنِ، بَل ينالُهم الإثمُ العَظيمُ في قَطيعَتِه وإدخالِهمُ الأذى عليه، وقيل: مَعناه: إنَّك بالإحسانِ إليهم تُخزيهم وتُحَقِّرُهم في أنفُسِهم لكثرةِ إحسانِك وقَبيحِ فِعلِهم مِنَ الخِزيِ والحَقارةِ عِندَ أنفُسِهم، كمَن يُسِفُّ المَلَّ، وقيل: ذلك الذي يَأكُلونَه مِن إحسانِك كالمَلِّ يُحرِقُ أحشاءَهم. واللَّهُ أعلمُ)
[1340] ((شرح مسلم)) (16/ 115). .
ج- مِنَ الآثارِ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (ليس الوَصلُ أن تَصِلَ مَن وصَلك، ذلك القِصاصُ، ولكِنَّ الوَصلَ أن تَصِلَ مَن قَطَعَك)
[1341] أخرجه معمر بن راشد في ((الجامع)) (11/171)، وعبد الرزاق (19629)، والبيهقي في ((شعب إلإيمان)) (7958). .
فائدةٌ: قال ابنُ حَجَرٍ: (لا يَلزَمُ مِن نَفيِ الوصلِ ثُبوتُ القَطعِ؛ فهم ثَلاثُ دَرَجاتٍ: مواصِلٌ، ومُكافِئٌ، وقاطِعٌ؛ فالواصِلُ: مَن يَتَفضَّلُ ولا يُتَفضَّلُ عليه، والمُكافِئُ: الذي لا يَزيدُ في الإعطاءِ على ما يَأخُذُ، والقاطِعُ: الذي يُتَفضَّلُ عليه ولا يَتَفضَّلُ، وكما تَقَعُ المُكافأةُ بالصِّلةِ مِنَ الجانِبينِ كذلك تَقَعُ بالمُقاطَعةِ مِنَ الجانِبينِ؛ فمَن بَدَأ حينَئِذٍ فهو الواصِلُ، فإن جوزيَ سُمِّي مَن جازاه مُكافِئًا. واللَّهُ أعلمُ)
[1342] ((فتح الباري)) (10/ 424). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش