موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: عَدَمُ الاتِّكاءِ في أثناءِ الأكلِ 


يُكرَهُ الاتِّكاءُ [1390] قال الخَطابيّ: (المُتَّكِئُ: هو الذي اقتَعَدَ وِسادةً أوِ اعتَمَدَ وِطاءً، وإنَّما يَفعَلُ ذلك مِن يَنصِبُ المَوائِدَ ويَنقُلُ الألوانَ ويَستَكثِرُ مِنَ الطَّعامِ؛ يَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي لا أفعَلُ ذلك، لكِنِّي آكُلُ العُلْقةَ [الشَّيَ اليسيرَ الذي فيه بُلغةٌ]، وأجتزئُ باليَسيرِ مِنَ الطُّعمِ، فأقعُدُ مُستَوفِزًا، وأقومُ عنه مُستَعجِلًا). ((أعلام الحديث)) (3/ 2048). وقال أيضًا: (يَحسَبُ أكثَرُ العامَّةِ أنَّ المُتَّكِئَ هو المائِلُ المُعتَمِدُ على أحَدِ شِقَّيه، لا يَعرِفونَ غَيرَه، وكان بَعضُهم يَتَأوَّلُ هذا الكَلامَ على مَذهَبِ الطِّبِّ ودَفعِ الضَّرَرِ عنِ البَدَنِ؛ إذ كان مَعلومًا أنَّ الآكِلَ مائِلًا على أحَدِ شِقَّيه لا يَكادُ يَسلَمُ مِن ضَغطٍ يَنالُه في مَجاري طَعامِه، فلا يُسيغُه ولا يَسهُلُ نُزولُه إلى مَعِدَتِه. وليسَ مَعنى الحديثِ ما ذَهَبوا إليه، وإنَّما المُتَّكِئُ هاهنا هو المُعتَمِدُ على الوِطاءِ الذي تَحتَه، وكُلُّ مَنِ استَوى قاعِدًا على وِطاءٍ فهو مُتَّكِئٌ. والاتِّكاءُ: مَأخوذٌ مِنَ الوِكاءِ، ووَزنُه الافتِعالُ مِنه؛ فالمُتَّكِئُ هو الذي أوكى مَقعَدَتَه وشَدَّها بالقُعودِ على الوِطاءِ الذي تَحتَه، والمَعنى: أنِّي إذا أكَلتُ لم أقعُدْ مُتَمَكِّنًا على الأوطيةِ والوسائِدِ فِعلَ مَن يُريدُ أن يَستَكثِرَ مِنَ الأطعِمةِ ويَتَوسَّعَ في الألوانِ، ولكِنِّي آكُلُ عُلقةً وآخُذُ مِنَ الطَّعامِ بُلْغةً، فيَكونُ قُعودي مُستَوفِزًا له). ((معالم السنن)) (4/ 242، 243). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (مَن أكَل مُتَّكِئًا فلم يَأتِ حَرامًا، وإنَّما يُكرَهُ ذلك؛ لأنَّه خِلافُ التَّواضُعِ الذي اختارَه اللهُ لأنبيائِه وصَفوتِه مِن خَلقِه). ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 475). وقال ابنُ الجَوزيِّ في حَديثِ: ((لا آكُلُ وأنا مُتَّكِئٌ)): (المَشهورُ في مَعنى هذا الحديثِ: أنَّه الاتِّكاءُ على أحَدِ الجانِبَينِ، وفي ذلك شَيئانِ: أحَدُهما: أنَّه فِعلُ المُتَجَبِّرينَ والمُتَكَبِّرينَ. والثَّاني: أنَّه يَمنَعُ مِن نُزولِ الطَّعامِ كَما يَنبَغي إلى المِعى، ورُبَّما لم يَسلَمْ مِن ضَغطٍ يَنالُه الأكلُ مِن مَجاري طَعامِه. وكان أبو سُليمانَ الخَطَّابيُّ يَذهَبُ إلى مَذهَبٍ فيه بُعدٌ، فيَقولُ: المُتَّكِئُ هاهنا هو المُعتَمِدُ على الوِكاءِ الذي تَحتَه...). ((كشف المشكل)) (1/ 439). وقال ابنُ الأثيرِ: (مَن حَمَل الاتِّكاءَ على المَيلِ إلى أحَدِ الشِّقَّينِ تَأوَّله على مَذهَبِ الطِّبِّ؛ فإنَّه لا يَنحَدِرُ في مَجاري الطَّعامِ سَهلًا، ولا يُسيغُه هَنيئًا، ورُبَّما تَأذَّى به). ((النهاية)) (1/ 193). وقال ابنُ القَيِّمِ: (كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَأكُلُ مُتَّكِئًا، والاتِّكاءُ على ثَلاثةِ أنواعٍ؛ أحَدُها: الاتِّكاءُ على الجَنبِ، والثَّاني: التَّرَبُّعُ، والثَّالثُ: الاتِّكاءُ على إحدى يَدَيه وأكلُه بالأُخرى، والثَّلاثُ مَذمومةٌ). ((زاد المعاد)) (1/ 143). وقال أيضًا: (فُسِّر الاتِّكاءُ بالتَّرَبُّعِ، وفُسِّرَ بالاتِّكاءِ على الشَّيءِ، وهو الاعتِمادُ عليه، وفُسِّرَ بالاتِّكاءِ على الجَنبِ. والأنواعُ الثَّلاثةُ مِنَ الاتِّكاءِ؛ فنَوعٌ مِنها يَضُرُّ بالآكِلِ، وهو الاتِّكاءُ على الجَنبِ؛ فإنَّه يَمنَعُ مَجرى الطَّعامِ الطَّبيعيِّ عن هَيئَتِه، ويَعوقُه عن سُرعةِ نُفوذِه إلى المَعِدةِ... وأمَّا النَّوعانِ الآخَرانِ: فمِن جُلوسِ الجَبابرةِ المُنافي للعُبوديَّةِ. وكان يَأكُلُ وهو مُقعٍ، ويُذكَرُ عنه أنَّه كان يَجلِسُ للأكلِ مُتَورِّكًا على رُكبَتَيه، ويَضَعُ بَطنَ قدَمِه اليُسرى على ظَهرِ قدَمِه اليُمنى تَواضُعًا لرَبِّه عَزَّ وجَلَّ، وأدَبًا بَينَ يَدَيه، واحتِرامًا للطَّعامِ وللمُؤاكِلِ، فهذه الهَيئةُ أنفَعُ هَيئاتِ الأكلِ وأفضَلُها؛ لأنَّ الأعضاءَ كُلَّها تَكونُ على وَضعِها الطَّبيعيِّ الذي خَلقَها اللهُ سُبحانَه عليه، مَعَ ما فيها مِنَ الهَيئةِ الأدَبيَّةِ، وأجودُ ما اغتَذى الإنسانُ إذا كانت أعضاؤُه على وضعِها الطَّبيعيِّ، ولا يَكونُ كذلك إلَّا إذا كان الإنسانُ مُنتَصِبًا الانتِصابَ الطَّبيعيَّ، وأردَأُ الجِلساتِ للأكلِ الاتِّكاءُ على الجَنبِ... وإن كان المُرادُ بالاتِّكاءِ الاعتِمادَ على الوسائِدِ والوِطاءِ الذي تَحتَ الجالِسِ، فيَكونُ المَعنى: أنِّي إذا أكَلتُ لم أقعُدْ مُتَّكِئًا على الأوطيةِ والوسائِدِ كفِعلِ الجَبابرةِ، ومَن يُريدُ الإكثارَ مِنَ الطَّعامِ، لكِنِّي آكُلُ بُلْغةً كما يَأكُلُ العَبدُ). ((زاد المعاد)) (4/ 202، 203). وقال ابنُ حَجَرٍ بَعدَ ذِكرِه كَلامًا في حُكمِ الأكلِ مُتَّكِئًا: (إذا ثَبَتَ كَونُه مَكروهًا أو خِلافَ الأولى فالمُستَحَبُّ في صِفةِ الجُلوسِ للآكِلِ أن يَكونَ جاثيًا على رُكبَتَيه وظُهورِ قَدَميه، أو يَنصِبَ الرِّجلَ اليُمنى ويَجلِسَ على اليُسرى، واستَثنى الغَزاليُّ مِن كَراهةِ الأكلِ مُضطَجِعًا أكلَ البَقلِ، واختُلِف في عِلَّةِ الكَراهةِ، وأقوى ما ورَدَ في ذلك ما أخرَجه ابنُ أبي شَيبةَ مِن طَريقِ إبراهيمَ النَّخَعيِّ، قال: كانوا يَكرَهونَ أن يَأكُلوا اتِّكاءةً مَخافةَ أن تَعظُمَ بُطونُهم، وإلى ذلك يُشيرُ بَقيَّةُ ما ورَدَ فيه مِنَ الأخبارِ، فهو المُعتَمَدُ، ووَجهُ الكَراهةِ فيه ظاهِرٌ، وكذلك ما أشارَ إليه ابنُ الأثيرِ مِن جِهةِ الطِّبِّ، واللهُ أعلَمُ). ((فتح الباري)) (9/ 542). أثناءَ الأكلِ [1391] قال ابنُ عُثَيمين: (ليسَ مِن هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَأكُلَ مُتَّكِئًا، وكُلُّ أنواعِ الجُلوسِ الباقيةِ جائِزةٌ، ولكِنَّ أحسَنَ ما يَكونُ ألَّا تَجلِسَ جِلسةَ الإنسانِ المُطمَئِنِّ المُستَقِرِّ؛ لئَلَّا يَكونَ ذلك سَبَبًا لإكثارِ الطَّعامِ، وإكثارُ الطَّعامِ لا يَنبَغي). ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 226). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي جُحَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا آكُلُ مُتَّكِئًا)) [1392] أخرجه البخاري (5398). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((ما رُئيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ، ولا يَطَأُ عَقِبَه رَجُلانِ [1393] لا يَطَأُ عَقِبَه رَجُلانِ: أي: لا يَمشي خَلفَه رَجُلانِ، يَعني: مِن غايةِ التَّواضُعِ يَمشي في وسَطِ الجَمعِ أو في آخِرِهم، ولا يَمشي قُدَّامَهم. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهريِّ (4/ 515). [1394] أخرجه أبو داود (3770) واللفظ له، وابن ماجه (244)، وأحمد (6562). جود إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2104)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3770). وقد ذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3770)، وصحَّح إسناده أحمَد شاكِر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/68). .
فائدةٌ في صفةِ جلوسِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الطعامِ
عن عَبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أُهدِيَت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاةٌ، فجَثا [1395] جثا يجثو جُثُوًّا وجُثِيًّا: إذا جَلَس على رُكبَتَيه. يُنظر: ((العين)) للخليل (6/ 171، 172)، ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/ 55). رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على رُكْبتَيه يَأكُلُ، فقال أعرابيٌّ: ما هذه الجِلسةُ؟ فقال: ((إنَّ اللهَ جَعَلَني عَبدًا كَريمًا، ولم يَجعَلْني جَبَّارًا عَنيدًا)) [1396] أخرجه أبو داود (3773)، وابن ماجه (3263) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3263)، وصحَّح إسنادَه البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/8)، وجوَّده النووي في ((رياض الصالحين)) (301)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (9/452)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/43). .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُقْعيًا [1397] أى: جالسًا على أليتيه ناصبًا ساقَيْه. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 227). قال ابنُ عُثَيمين: (الإقعاءُ: أن يَنصِبَ قدَمَيه ويَجلِسَ على عَقِبَيه، هذا هو الإقعاءُ وإنَّما أكَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كذلك؛ لئَلَّا يَستَقِرَّ في الجِلسةِ فيَأكُلَ أكلًا كَثيرًا؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ الإنسانَ إذا كان مُقعيًا لا يَكونُ مُطَمئِنًّا في الجُلوسِ، فلا يَأكُلُ كَثيرًا، وإذا كان غَيرَ مُطَمئِنٍّ فلن يَأكُلَ كَثيرًا، وإذا كان مُطَمئِنًّا فإنَّه يَأكُلُ كَثيرًا، هذا هو الغالبُ، ورُبَّما يَأكُلُ الإنسانُ كَثيرًا وهو غَيرُ مُطَمئِنٍّ، ورُبَّما يَأكُلُ قَليلًا وهو مُطَمئِنٌّ، لكِن مِن أسبابِ تَقليلِ الأكلِ ألَّا يَستَقِرَّ الإنسانُ في جِلسَتِه، وألَّا يَكونَ مُطَمئِنًّا الطُّمَأنينةَ الكامِلةَ). ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 225). يَأكُلُ تَمرًا)) [1398] أخرجه مسلم (2044). .
وعن أنَسِ أيضًا، قال: ((أُتِيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَمرٍ، فجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقسِمُه وهو مُحتَفِزٌ [1399] مُحتَفِزٌ: أي: مُستعجِلٌ مُستَوفِزٌ غَيرُ مُتَمَكِّنٍ، والرَّجُلُ يَتَحَفَّزُ في جُلوسِه كَأنَّه يَثورُ إلى القيامِ. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (11/ 289). ، يَأكُلُ مِنه أكلًا ذَريعًا))، وفي رِوايةٍ: ((أكلًا حَثيثًا [1400] حَثيثًا: أي: سَريعًا. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (11/ 289). ) [1401] أخرجه مسلم (2044). .

انظر أيضا: