موسوعة الآداب الشرعية

عاشرًا: عَدَمُ القِرانِ بَينَ تَمرتَينِ إذا أكَلَ معَ جَماعةٍ


مِن أدَبِ الطعامِ إذا أكَل التَّمرَ ونَحوَه [1436] قال ابنُ مُفلِحٍ: (القِرانُ في غَيرِ التَّمرِ مِثلُه، إلَّا أنَّ ذلك لا يُقصَدُ ولا تَظهَرُ فائِدَتُه إلَّا في الفَواكِه وما في مَعناها. قال الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ: وعلى قياسِه قِرانُ كُلِّ ما العادةُ جاريةٌ بتَناوُله إفرادًا). ((الآداب الشرعية)) (3/ 172). قال ابنُ عُثَيمين: (الشَّيءُ الذي جَرَتِ العادةُ أن يُؤكَلَ واحِدةً واحِدةً، كالتَّمرِ، إذا كان مَعَك جَماعةٌ فلا تَأكُلُ تَمرَتَينِ جَميعًا؛ لأنَّ هذا يَضُرُّ بإخوانِك الذينَ مَعَك، فلا تَأكُلْ أكثَرَ مِنهم إلَّا إذا استَأذَنتَ وقُلتَ: تَأذَنونَ لي أن آكُلَ تَمرَتَينِ في آنٍ واحِدٍ، فإن أذِنوا لك فلا بَأسَ، وكذلك ما جاءَ في العادةِ بأنَّه يُؤكَلُ أفرادًا، كَبَعضِ الفواكِهِ الصَّغيرةِ التي يَلتَقِطُها النَّاسُ حَبَّةً حَبَّةً ويَأكُلونَها، فإنَّ الإنسانَ لا يَجمَعُ بَينَ اثنَتَينِ إلَّا بإذنِ صاحِبِه الذي مَعَه مَخافةَ أن يَأكُلَ أكثَرَ مِمَّا يَأكُلُ صاحِبُه، أمَّا إذا كان الإنسانُ وحدَه فلا بَأسَ أن يَأكُلَ التَّمرَتَينِ جَميعًا أوِ الحَبَّتَينِ -مِمَّا يُؤكَلُ أفرادًا- جَميعًا؛ لأنَّه لا يَضُرُّ بذلك أحَدًا إلَّا أن يَخشى على نَفسِه مِنَ الشَّرَقِ أوِ الغَصَصِ). ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 217). : عَدَمُ القِرانِ بينَ تمرتينِ حتَّى يَستَأذِنَ، إذا كان أكلُه مَعَ جَماعةٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن شُعْبةَ، قال: سَمِعْتُ جَبَلةَ بنَ سُحَيمٍ، قال: كانَ ابنُ الزُّبَيْرِ يَرزُقُنا التَّمْرَ، قال: وقدْ كانَ أصابَ النَّاسَ يَوْمَئذٍ جَهْدٌ [1437] الجَهْدُ بفتحِ الجيمِ: الشِّدَّةُ والمَشَقَّةُ، والجُهدُ بضَمِّ الجيمِ: غايةُ الطَّاقةِ والمَقدِرةِ، وقد يُفتَحُ الجيمُ أيضًا. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 460)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (4/ 153)، ((المعلم)) للمازري (2/ 375). ، وكُنَّا نَأكُلُ فيَمُرُّ علينا ابنُ عُمَرَ ونحن نَأكُلُ، فيقولُ: ((لا تُقارِنوا [1438] أي: لا يأكُلِ الرَّجُلُ تمرتَينِ في لُقمةٍ واحِدةٍ. يُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 233). ؛ فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَهى عن الإقْرانِ، إلَّا أن يَستأذِنَ الرَّجُلُ أخاه))، قال شُعبةُ: لا أرى هذه الكَلِمةَ إلَّا مِن كَلِمةِ ابنِ عُمَرَ، يَعني الاستِئذانَ [1439] أخرجه البخاري (2455)، ومسلم (2045) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ عن جَبَلةَ بنِ سُحَيمٍ، قال: سَمِعتُ ابنَ عُمَرَ يَقولُ: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقرُنَ الرَّجُلُ بَينَ التَّمرَتَينِ حتَّى يَستَأذِنَ أصحابَه)) [1440] أخرجها مسلم (2045). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (أجازَ النَّبيُّ عليه السَّلامُ القِرانَ في التَّمرِ إذا أذِنَ فيه أصحابُه الذينَ وُضِعَ بَينَ أيديهم؛ لأنَّهم متساوون في الاشتِراكِ في أكلِه، فإذا استَأثَرَ أحَدُهم بأكثَرَ مِن صاحِبِه لم يَجُزْ له؛ لِما في ذلك مِنَ الاستِئثارِ بما لا تَطيبُ عليه نَفسُ صاحِبِ الطَّعامِ، ولا أنفُسُ الذين وُضِعَ بَينَ أيديهم، إلَّا أنَّ ما وُضِعَ للنَّاسِ فسَبيلُه سَبيلُ المَكارِمِ لا سَبيلُ التَّشاحِّ، وإن تَفاضَلوا في الأكلِ) [1441] ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 581). .
وقال عِياضٌ: (في النَّهيِ عنِ القِرانِ فائِدَتانِ، ولمَنعِه عِلَّتانِ:
أحَدُهما: الشَّرَهُ والجَشَعُ، وبهذا عَلَّلته عائِشةُ بقَولِها: "إنَّها نَذالةٌ"، وجابرٌ يَقولُ: "لا بَأسَ به إلَّا أنَّها طُعمةٌ قَبيحةٌ".
والثَّانيةُ: إيثارُ الإنسانِ نَفسَه بأكثَرَ مِن حَقِّه مَعَ مُؤاكِلِه أو شَريكِه أو رَفيقِه، وحُكمُهم في ذلك كُلِّه التَّساوي؛ ولذلك قال: «إلَّا أن يَأذَنَ»...
وحَملَ أهلُ الظَّاهِرِ هذا النَّهيَ على الوُجوبِ [1442] قال النَّوويُّ: (هذا النَّهيُ مُتَّفَقٌ عليه حتَّى يَستَأذِنَهم، فإذا أذِنوا فلا بَأسَ، واختَلفوا في أنَّ هذا النَّهيَ على التَّحريمِ أو على الكَراهةِ والأدَبِ؛ فنَقَل القاضي عياضٌ عن أهلِ الظَّاهِرِ أنَّه للتَّحريمِ، وعن غَيرِهم أنَّه للكَراهةِ والأدَبِ، والصَّوابُ التَّفصيلُ: فإن كان الطَّعام مُشتَرَكًا بَينَهم فالقِرانُ حَرامٌ إلَّا برِضاهم، ويَحصُلُ الرِّضا بتَصريحِهم به أو بما يَقومُ مَقامَ التَّصريحِ مِن قَرينةِ حالٍ أو إدلالٍ عليهم كُلِّهم بحَيثُ يَعلَمُ يَقينًا أو ظَنًّا قَويًّا أنَّهم يَرضَونَ به، ومَتى شَكَّ في رِضاهم فهو حَرامٌ، وإن كان الطَّعامُ لغَيرِهم أو لأحَدِهمُ اشتُرِطَ رِضاه وَحدَه، فإن قُرِن بغَيرِ رِضاه فحَرامٌ، ويُستَحَبُّ أن يَستَأذِنَ الآكِلينَ مَعَه، ولا يَجِبُ، وإن كان الطَّعامُ لنَفسِه وقد ضَيَّفهم به فلا يَحرُمُ عليه القِرانُ، ثُمَّ إن كان في الطَّعامِ قِلَّةٌ فحَسَنٌ ألَّا يَقرِنَ لتَساويهم، وإن كان كَثيرًا بحَيثُ يَفضُلُ عنهم فلا بَأسَ بقِرانِه، لكِنَّ الأدَبَ مُطلقًا التَّأدُّبُ في الأكلِ، وتَركُ الشَّرَهِ إلَّا أن يَكونَ مُستَعجِلًا ويُريدَ الإسراعَ لشُغلٍ آخَرَ). ((شرح مسلم)) (13/ 228، 229). ، وقال غَيرُه مِن عُلمائِنا: وهذا فيما اشتَرَكوا فيه أو هرقوه، وأمَّا ما كان على طَريقِ النُّقلةِ وغَيرِ التَّقَوُّتِ والمَجاعةِ فليسَ القِرانُ في ذلك بمَمنوعٍ، إلَّا على سَبيلِ الأدَبِ والمُروءةِ) [1443] ((إكمال المعلم)) (6/ 528). .

انظر أيضا: