خامسَ عشرَ: أنْ يقولَ دُعاءَ السَّفَرِ
يُستَحَبُّ أن يَقولَ المُسافِرُ
[1963] قال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ الأذكارَ التي تُستَحَبُّ للحاضِرِ في اللَّيلِ والنَّهارِ واختِلافِ الأحوالِ وغَيرِ ذلك تُستَحَبُّ للمُسافِرِ أيضًا، ويَزيدُ المُسافِرُ بأذكارٍ؛ فهيَ المَقصودةُ بهذا البابِ). ((الأذكار)) (ص: 214). ما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُه إذا استَوى على دابَّتِه خارِجًا إلى سَفَرٍ، ويَدعوَ بما كان به يَدعو، ويَستَعيذَ مِمَّا كان مِنه يَستَعيذُ
[1964] قال الطَّبَريُّ بَعدَ رِوايَتِه الأحاديثَ الوارِدةَ في هذا البابِ وبَعضَ الآثارِ: (فإذ كان صحيحًا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما رُوِّينا عنه مِمَّا كان يَقولُه إذا أرادَ سَفرًا، وعن أصحابِه ما قد ذَكَرنا مِن قِيلِهم، فأُحِبُّ لمَن أرادَ سَفَرًا لحَجٍّ أو عُمرةٍ، أو غَزوِ جِهادٍ في سَبيلِ اللهِ، أو تِجارةٍ، أو فيما أرادَ، مِمَّا لم يَكُنْ سَفَرُه في مَعصيةٍ للهِ: أن يَقولَ ما صَحَّ به الخَبَرُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا قد بَيَّنَّا، وأيُّ الذي رُويَ عنه مِنَ القيلِ -الذي ذَكَرنا عنه أنَّه كان يَقولُه- قاله قائِلٌ، فقد أحسَنَ، وإن هو تَعَدَّى ذلك فقال بَعضَ الذي ذَكَرنا أنَّ ابنَ مَسعودٍ كان يَقولُه أو غَيرُه، فقد أجزَأه، وأحَبُّ الأقوالِ إليَّ أن يَقولَه إذا أرادَ ذلك مُريدٌ ما جَمَعَ جَميعَ ذلك). ((تهذيب الآثار- مسند علي)) (3/ 100، 101). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا استَوى على بَعيرِه خارِجًا إلى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [1965] سَخَّر: بمعنى ذَلَّل لنا هذا المركوبَ نجري به حيثُ نشاءُ. والمُقرِنُ: المُطيقُ، فمعنى: مُقرِنين: مُطيقينَ، أي: ما كُنَّا نُطيقُ قَهرَه واستعمالَه لولا تسخيرُ اللهِ تعالى إيَّاه لنا. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/603)، ((شرح مسلم)) للنووي (9/ 111). ، اللهُمَّ إنَّا نَسألُك في سَفَرِنا هذا البرَّ والتَّقوى، ومِنَ العَمَلِ ما تَرضى، اللهُمَّ هَوِّنْ علينا سَفَرَنا هذا واطوِ عنَّا بُعدَه [1966] اطْوِ لنا بُعدَه: وذلك يكونُ بتقصيرِ المسافةِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 604). ، اللهُمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفةُ في الأهلِ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن وَعثاءِ السَّفَرِ [1967] الوَعثاءُ: شِدَّةُ النَّصَبِ والمشَقَّةِ، وأصلُ الوَعثاءِ مِنَ الوَعثِ: وهو الدَّهسُ، يعني الرَّملَ الكثيرَ، والمشيُ يصعُبُ فيه على صاحِبِه، فصار مَثَلًا لكُلِّ ما يَشُقُّ على فاعِلِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/604). ، وكَآبةِ المَنظَرِ [1968] كآبةُ المنظَرِ: هو سوءُ الحالِ وتغيرُ النفسِ والانكسارُ من الحُزنِ ونحوِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 604)، ((شرح مسلم)) للنووي (9/ 111). ، وسوءِ المُنقَلَبِ [1969] المُنقَلَبُ: المرجِعُ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (9/ 111). في المالِ والأهلِ، وإذا رَجَعَ قالهن وزادَ فيهنَّ: آيِبونَ تائِبونَ عابدونَ، لرَبِّنا حامِدونَ)) [1970] أخرجه مسلم (1342). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ صَلَّى عليه وسَلَّمَ إذا سافرَ قال: اللهُمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفةُ في الأهلِ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن وَعثاءِ السَّفَرِ، وكَآبةِ المُنقَلَبِ، وسوءِ المَنظَرِ في الأهلِ والمالِ، اللهُمَّ اطوِ لنا الأرضَ، وهَوِّنْ علينا السَّفَرَ)) [1971] أخرجه أبو داود (2598) واللفظ له، وأحمد (9599). صَحَّحه الطبري في ((مسند علي)) (96)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2598)، وحسنه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/48)، وصَحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2598). .
وفي رِوايةٍ:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أرادَ سَفَرًا، قال: اللهُمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفةُ في الأهلِ، اللهُمَّ اصحَبْنا بنُصحٍ، واقلِبْنا بذِمَّةٍ [1972] قال ابنُ الأثيرِ: (الذِّمَّةُ والذِّمامُ: العَهدُ والأمانُ، أي: اردُدْنا إلى أهلِنا آمِنينَ). ((جامع الأصول)) (4/ 287)، ((النهاية)) (2/ 168). ، اللهُمَّ ازوِ لنا الأرضَ، وهَوِّنْ علينا السَّفَرَ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن وَعثاءِ السَّفَرِ، وكَآبةِ المُنقَلَبِ)) [1973] أخرجها أحمد (9205)، والطبري في ((مسند علي)) (95) واللفظ له. صَحَّحها الطبري، وحَسَّنها السخاوي في ((البلدانيات)) (206)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9205). .
وفي أُخرى:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سافرَ فرَكِبَ راحِلتَه، قال بإصبَعِه -ومَدَّ شُعبةُ أحَدُ الرُّواةِ إصبَعَه- قال: اللهُمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفةُ في الأهلِ، اللهُمَّ اصحَبْنا بنُصحِك، واقلِبْنا بذِمَّةٍ...)) الحَديثَ
[1974] أخرجها الترمذي (3438) واللفظ له، والنسائي (5501). صَحَّحها الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3438). .
3- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خَرَجَ في سَفَرٍ قال: اللهُمَّ بَلاغًا يُبَلِّغُ خَيرًا، مَغفِرةً مِنك ورِضوانًا، بيَدِك الخَيرُ، إنَّك على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، اللهُمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفةُ في الأهلِ، اللهُمَّ هَوِّنْ علينا السَّفَرَ، واطوِ لنا الأرضَ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن وَعثاءِ السَّفَرِ، وكآبةِ المُنقَلَبِ)) [1975] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10262)، وأبو يعلى (1663)، والطبري في ((مسند علي)) (162). صَحَّحه الطبري، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/133): رِجالُه رِجالُ الصَّحيحِ غَيرَ فطرِ بنِ خَليفةَ، وهو ثقةٌ، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/480): له شاهِدٌ. .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ سَرجِسَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سافرَ يَتَعَوَّذُ مِن وَعثاءِ السَّفَرِ، وكَآبةِ المُنقَلَبِ، والحَورِ بَعدَ الكَورِ [1976] ورَواه بَعضُهم بالنُّونِ: (الكَونِ). قال الترمذيُّ: (مَعنى قَولِه: «الحَورِ بَعدَ الكَونِ»، أو «الكَورِ»، وكِلاهما له وَجهٌ، يُقالُ: إنَّما هو الرُّجوعُ مِنَ الإيمانِ إلى الكُفرِ، أو مِنَ الطَّاعةِ إلى المَعصيةِ، إنَّما يَعني الرُّجوعَ مِن شَيءٍ إلى شَيءٍ مِنَ الشَّرِّ). ((سنن الترمذي)) (5/ 498). وقال النَّوويُّ بَعدَ نَقلِه كَلامَ التِّرمذيِّ: (وكَذا قال غَيرُه مِنَ العُلماءِ: مَعناه بالرَّاءِ والنُّونِ جَميعًا الرُّجوعُ مِنَ الاستِقامةِ أوِ الزِّيادةِ إلى النَّقصِ، قالوا: ورِوايةُ الرَّاءِ مَأخوذةٌ مِن تَكويرِ العِمامةِ -وهو لَفُّها وجَمعُها-، ورِوايةُ النُّونِ مَأخوذةٌ مِنَ الكَونِ، مَصدَرُ كان يَكونُ كَونًا: إذا وُجِدَ واستَقَرَّ. قال المازَريُّ في رِوايةِ الرَّاءِ: قيل أيضًا: إنَّ مَعناه أعوذُ بك مِنَ الرُّجوعِ عنِ الجَماعةِ بَعدَ أن كُنَّا فيها، يُقالُ: كارَ عِمامَتَه: إذا لَفَّها. وحارَها: إذا نَقَضَها. وقيل: نعوذُ بك مِن أن تَفسُدَ أُمورُنا بَعدَ صَلاحِها، كفسادِ العِمامةِ بَعدَ استِقامَتِها على الرَّأسِ، وعلى رِواية النُّونِ قال أبو عُبَيدٍ: سُئِل عاصِمٌ عن مَعناه فقال: ألم تَسمَعْ قَولَهم: حارَ بَعدَ ما كان، أي: أنَّه كان على حالةٍ جَميلةٍ فرَجَعَ عنها). ((شرح مسلم)) (9/ 112). ويُنظر: ((المعلم)) للمازري (2/ 112)، ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (1/ 276). ، ودَعوةِ المَظلومِ، وسوءِ المَنظَرِ في الأهلِ والمالِ)) [1977] أخرجه مسلم (1343). .
مِن فوائدِ ذكرِ ركوبِ الدَّابةِ ودعاءِ السَّفرِقال السَّعديُّ في حَديثِ ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما في ذكرِ ركوبِ الدَّابةِ ودعاءِ السَّفرِ:
(اشتَمَلت هذه الأدعيةُ على طَلَبِ مَصالحِ الدِّينِ -التي هيَ أهَمُّ الأُمورِ- ومَصالِحِ الدُّنيا، وعلى حُصولِ المُحابِّ، ودَفعِ المَكارِه والمَضارِّ، وعلى شُكرِ نِعَمِ اللهِ، والتَّذَكُّرِ لآلائِه وكَرمِه، واشتِمالِ السَّفَرِ على طاعةِ اللهِ، وما يُقَرِّبُ إليه.
فقَولُه: «كان إذا استَوى على راحِلتِه خارِجًا إلى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثًا» هو افتِتاحٌ لسَفَرِه بتَكبيرِ اللَّهِ، والثَّناءِ عليه، كما كان يَختِمُ بذلك.
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ فيه الثَّناءُ على اللهِ بتَسخيرِه للمَركوباتِ التي تَحمِلُ الأثقالَ والنُّفوسَ إلى البلادِ النَّائيةِ والأقطارِ الشَّاسِعةِ، واعتِرافٌ بنِعمةِ اللهِ بالمَركوباتِ.
وهذا يَدخُلُ فيه المَركوباتُ مِنَ الإبلِ، ومِنَ السُّفُنِ البَحريَّةِ والبَرِّيَّةِ والهَوائيَّةِ، فكُلُّها تَدخُلُ في هذا.
ولهذا قال نوحٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّاكِبينَ مَعَه في السَّفينةِ:
اركَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود: 41] .
فهذه المَراكِبُ كُلُّها وأسبابُها وما به تَتِمُّ وتَكمُلُ، كُلُّه مِن نِعَمِ اللهِ وتَسخيرِه، يَجِبُ على العِبادِ الاعتِرافُ للهِ بنِعمتِه فيها، وخُصوصًا وقتَ مُباشَرَتِها.
وفيه تَذَكُّرُ الحالةِ التي لولا الباري لَما حَصَلت وذُلِّلت في قَولِه:
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي: مُطيقينَ، لو رُدَّ الأمرُ إلى حَولِنا وقَوَّتِنا لكُنَّا أضعَفَ شَيءٍ عِلمًا وقُدرةً وإرادةً، ولكِنَّه تعالى سَخَّر الحَيَواناتِ وعَلَّم الإنسانَ صَنعةَ المَركوباتِ، كَما امتَنَّ اللهُ في تَيسيرِ صِناعةِ الدُّروعِ الواقيةِ في قَولِه:
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء: 80] .
فعلى الخَلقِ أن يَشكُروا اللَّهَ؛ إذ عَلَّمَهم صِناعةَ اللِّباسِ السَّاتِرِ للعَوراتِ، ولباسِ الرِّياشِ، ولباسِ الحَربِ وآلاتِ الحَربِ، وعَلَّمَهم صَنعةَ الفُلكِ البَحريَّةِ والبَرِّيَّةِ والهَوائيَّةِ، وصَنعةَ كُلِّ ما يَحتاجونَ إلى الانتِفاعِ به، وأنزَلَ الحَديدَ فيه بَأسٌ شَديدٌ ومَنافِعُ للنَّاسِ مُتَنَوِّعةٌ. ولكِنَّ أكثَرَ الخَلقِ في غَفلةٍ عن شُكرِ اللهِ، بَل في عُتوٍّ واستِكبارٍ على اللهِ، وتَجَبُّرٍ بهذه النِّعَمِ على العِبادِ.
وفي هذا الحَديثِ التَّذَكُّرُ بسَفَرِ الدُّنيا الحِسِّيِّ لسَفَرِ الآخِرةِ المَعنَويِّ؛ لقَولِه:
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، فكَما بَدَأ الخَلقَ فهو يُعيدُهم؛ ليَجزيَ الذينَ أساءوا بما عَمِلوا، ويَجزيَ الذينَ أحسَنوا بالحُسنى.
وقَولُه: «اللهُمَّ إنَّا نَسألُك في سَفَرِنا هذا البرَّ والتَّقوى، ومِنَ العَمَلِ ما تَرضى» سَأل اللَّهَ أن يَكونَ السَّفَرُ مَوصوفًا بهذا الوصفِ الجَليلِ، مُحتَويًا على أعمالِ البرِّ كُلِّها المُتَعَلِّقةِ بحَقِّ اللهِ والمُتَعَلِّقةِ بحُقوقِ الخَلقِ، وعلى التَّقوى التي هيَ اتِّقاءُ سَخَطِ اللَّهِ، بتَركِ جَميعِ ما يَكرَهُه اللهُ مِنَ الأعمالِ والأقوالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ، كَما سَأله العَمَلَ بما يَرضاه اللهُ، وهذا يَشمَلُ جَميعَ الطَّاعاتِ والقُرُباتِ، ومَتى كان السَّفَرُ على هذا الوصفِ فهو السَّفرُ الرَّابحُ، وهو السَّفرُ المُبارَكُ. وقد كانت أسفارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلُّها مُحتَويةً لهذه المَعاني الجَليلةِ.
ثُمَّ سَأل اللَّهَ الإعانةَ، وتَهوينَ مَشاقِّ السَّفَرِ، فقال: «اللهُمَّ هَوِّنْ علينا سَفَرَنا هذا، واطوِ عنَّا بُعدَه»؛ لأنَّ السَّفرَ قِطعةٌ مِنَ العَذابِ، فسَأل تَهوينَه وطَيَّ بعيدِه، وذلك بتَخفيفِ الهمومِ والمَشاقِّ، وبالبَرَكةِ في السَّيرِ حتَّى يَقطَعَ المَسافاتِ البَعيدةَ وهو غَيرُ مُكتَرِثٍ، ويُقَيِّضَ له مِنَ الأسبابِ المُريحةِ في السَّفَرِ أُمورًا كَثيرةً، مِثلُ راحةِ القَلبِ، ومُناسَبةِ الرُّفقةِ، وتَيسيرِ السَّيرِ، وأمنِ الطَّريقِ مِنَ المَخاوِفِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الأسبابِ.
فكَم مِن سَفَرٍ امتَدَّ أيَّامًا كَثيرةً، لكِنَّ اللَّهَ هَوَّنَه ويَسَّرَه على أهلِه! وكَم مِن سَفَرٍ قَصيرٍ صارَ أصعَبَ مِن كُلِّ صَعبٍ! فما ثَمَّ إلَّا تَيسيرُ اللهِ ولُطفُه ومَعونَتُه.
ولهذا قال في تَحقيقِ تَهوينِ السَّفَرِ: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن وَعثاءِ السَّفَرِ» أي: مَشَقَّتِه وصُعوبَتِه «وكَآبةِ المَنظَرِ» أي: الحُزنِ المُلازِمِ والهَمِّ الدَّائِمِ «وسوءِ المُنقَلَبِ في المالِ والأهلِ والوَلَدِ» أي: يا رَبِّ، نَسألُك أن تَحفظَ علينا كُلَّ ما خَلَّفناه وراءَنا، وفارَقناه بسَفَرِنا مِن أهلٍ ووَلَدٍ ومالٍ، وأن نَنقَلِبَ إليهم مَسرورينَ بالسَّلامةِ، والنِّعَمِ المُتَواتِرةِ علينا وعليهم؛ فبذلك تَتِمُّ النِّعمةُ، ويَكمُلُ السُّرورُ.
وكذلك يَقولُ هذا في رُجوعِه وعَودِه مِن سَفَرِه، ويَزيدُ: «آيِبونَ تائِبونَ عابِدونَ، لرَبِّنا حامِدونَ» أي: نَسألُك اللهُمَّ أن تَجعَلَنا في إيابنا ورُجوعِنا مُلازِمينَ للتَّوبةِ لك، وعِبادَتِك وحَمدِك، وأن تَختِمَ سَفَرَنا بطاعَتِك كَما ابتدأتَه بالتَّوفيقِ لها.
ولهذا قال تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء: 80] ، ومُدخَلُ الصِّدقِ ومُخرَجُه: أن تَكونَ أسفارُ العَبدِ ومَداخِلُه ومَخارِجُه كُلُّها تَحتَوي على الصِّدقِ والحَقِّ، والاشتِغالِ بما يُحِبُّه اللهُ، مَقرونةً بالتَّوكُّلِ على اللهِ، ومَصحوبةً بمَعونَتِه.
وفيه الاعتِرافُ بنِعمتِه آخِرًا كما اعتَرَف بها أوَّلًا، في قَولِه: «لرَبِّنا حامِدونَ».
فكما أنَّ على العَبدِ أن يَحمَدَ اللَّهَ على التَّوفيقِ لفِعلِ العِبادةِ والشُّروعِ في الحاجةِ، فعليه أن يَحمَدَ اللَّهَ على تَكميلِها وتَمامِها والفراغِ مِنها؛ فإنَّ الفَضلَ فَضلُه، والخَيرَ خَيرُه، والأسبابَ أسبابُه. واللهُ ذو الفَضلِ العَظيمِ)
[1978] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 175-179). .