موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: تَحَرِّي الرِّزقِ الحَلالِ واجتِنابُ الشُّبُهاتِ


مِن آدابِ طلبِ الرِّزقِ والاكتِسابِ: تَحَرِّي الحَلالِ، والورَعُ، والبُعدُ عنِ الشُّبُهاتِ [2177] قال الغَزاليُّ: (...لا يَقتَصِرُ على اجتِنابِ الحَرامِ، بَل يَتَّقي مَواقِعَ الشُّبُهاتِ ومَظانَّ الرَّيبِ، ولا يَنظُرْ إلى الفتاوى بَل يَستَفتي قَلبَه، فإذا وجَدَ فيه حَزازةً اجتَنَبه، وإذا حُمِل إليه سِلعةٌ رابَه أمرُها سَأل عنها حتَّى يَعرِفَ، وإلَّا أكَل الشُّبهةَ). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 86). وقال أيضًا: (الورَعُ له أوَّلٌ، وهو الامتِناعُ عَمَّا حَرَّمَته الفتوى، وهو ورَعُ العُدولِ، وله غايةٌ، وهو ورَعُ الصِّدِّيقينَ، وذلك هو الامتِناعُ مِن كُلِّ ما ليسَ له مِمَّا أُخِذَ بشَهوةٍ، أو تَوصَّلَ إليه بمَكروهٍ، أوِ اتَّصَل بسَبَبِه مَكروهٌ، وبَينَهما دَرَجاتٌ في الاحتياطِ؛ فكُلَّما كان العَبدُ أشَدَّ تَشديدًا على نَفسِه كان أخَفَّ ظَهرًا يَومَ القيامةِ، وأسرَع جَوازًا على الصِّراطِ، وأبعَدَ عن أن تَتَرَجَّحَ كِفَّةُ سَيِّئاتِه على كِفَّةِ حَسَناتِه، وتَتَفاوتُ المَنازِلُ في الآخِرةِ بحَسَبِ تَفاوُتِ هذه الدَّرَجاتِ في الورَعِ، كما تَتَفاوتُ دَرَجاتُ النَّارِ في حَقِّ الظَّلَمةِ بحَسَبِ تَفاوُتِ دَرَجاتِ الحَرامِ في الخُبثِ، وإذا عَلِمتَ حَقيقةَ الأمرِ فإليك الخيارُ: فإن شِئتَ فاستَكثِرْ مِنَ الاحتياطِ، وإن شِئتَ فتَرَخَّصْ؛ فلنَفسِك تَحتاطُ، وعلى نَفسِك تَتَرَخَّصُ. والسَّلامُ). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 98). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 168-169] .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87-88] .
3- قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 114 - 117] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلَمُها كثيرٌ من النَّاسِ، فمن اتَّقى المشَبَّهاتِ استبرأ لدينِه وعرضِه، ومن وقَع في الشُّبُهاتِ كراعٍ يرعى حولَ الِحمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه محارِمُه، ألا وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلَحَ الجسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهي القَلبُ)) [2178] أخرجه البخاري (52) واللَّفظُ له، ومسلم (1599). .
وفي رِوايةٍ: ((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما أُمورٌ مُشتَبِهةٌ، فمَن تَرَكَ ما شُبِّهَ عليه مِنَ الإثمِ كان لِما استَبانَ أترَكَ، ومَنِ اجتَرَأ على ما يَشُكُّ فيه مِنَ الإثمِ أوشَكَ أن يواقِعَ ما استَبانَ، والمَعاصي حِمى اللَّهِ، مَن يَرتَعْ حَولَ الحِمى يوشِكْ أن يواقِعَه)) [2179] أخرجها البخاري (2051). .
2- عن أبي الحوراءِ السَّعديِّ قال: قُلتُ للحَسَنِ بنِ عَليٍّ: ما حَفِظتَ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: حَفِظتُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنينةٌ، وإنَّ الكَذِبَ ريبةٌ)) [2180] أخرجه الترمذي (2518)، وأحمد (1723) واللفظ لهما، والنسائي (5711) مختصرًا. صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (722)، والنووي في ((بستان العارفين)) (32)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42)، وقال الترمذي: حسن صحيح .
3- عن أبي ثَعلَبةَ الخُشَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أخبِرْني بما يَحِلُّ لي ويَحرُمُ عَلَيَّ، قال: فصَعَّدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَوَّب فيَّ النَّظَرَ [2181] أي: نَظَرَ إلى أعلايَ وأسفلي يَتَأمَّلُني. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 30). ، فقال: البِرُّ ما سَكَنَت إليه النَّفسُ، واطمَأنَّ إليه القَلبُ، والإثمُ ما لم تَسكُنْ إليه النَّفسُ، ولم يَطمَئِنَّ إليه القَلبُ، وإن أفتاك المُفتونَ)) [2182] أخرجه أحمد (17742) واللَّفظُ له، والطبراني (22/219) (585)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/30). صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2881)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1212)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17742)، وجوده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/23)، وابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/95). .
4- عن وابِصةَ بنِ مَعبَدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أريدُ ألَّا أدَعَ شيئًا من البِرِّ والإثمِ إلَّا سألتُه عنه، وإذا عنده جَمعٌ، فذهَبْتُ أتخطى النَّاسَ، فقالوا: إليكَ يا وابصةُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إليك يا وابِصةُ! فقُلتُ: أنا وابصةُ، دعوني أدنو منه؛ فإنَّه من أحَبِّ النَّاسِ إليَّ أن أدنوَ منه، فقال لي: ادْنُ يا وابصةُ، ادْنُ يا وابصةُ! فدَنَوتُ منه حتَّى مَسَّت رُكبتي رُكبَتَه، فقال: يا وابِصةُ أخبِرُك ما جئتَ تسألُني عنه، أو تسألُني؟ فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ فأخبِرْني، قال: جئتَ تسأَلُني عن البِرِّ والإثمِ؟ قلتُ: نعم، فجَمَع أصابعَه الثَّلاثَ فجَعَل يَنكُتُ بها في صدري، ويقولُ: يا وابِصةُ استَفْتِ نفسَك، البِرُّ ما اطمأَنَّ إليه القَلبُ، واطمأنَّت إليه النَّفسُ، والإثمُ ما حاك في القَلبِ، وتردَّد في الصَّدرِ، وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوك)) [2183] أخرجه أحمد (18001) واللفظ له، والدارمي (2533) مختصَرًا، وأبو يعلى (1586) باختلافٍ يسيرٍ. حسَّنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734)، وحسَّن إسنادَه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 23). وذهب إلى تحسينه النَّوويُّ في ((الأذكار)) (504)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/ 284). .
5- عن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن البِرِّ والإثمِ، فقال: البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإثمُ: ما حاك في صَدْرِك، وكَرِهْتَ أن يطَّلِعَ عليه النَّاسُ)) [2184] أخرجه مسلم (2553). .
6- عن أبي أُمامةَ الباهِليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَأل رَجُلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما الإثمُ؟ فقال: إذا حَكَّ في نَفسِك شَيءٌ فدَعْه. قال: فما الإيمانُ؟ قال: إذا ساءَتك سَيِّئَتُك وسَرَّتك حَسَنتُك فأنت مُؤمِنٌ)) [2185] أخرجه أحمد (22159) واللَّفظُ له، والطبراني (8/137) (7539)، وابن حبان (176). صَحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (35)، والألباني في ((هداة الرواة)) (42)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22159). .

انظر أيضا: