موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: التَّوكُّلُ على اللهِ مَعَ الأخذِ بالأسبابِ


مِن أدَبِ طلبِ الرِّزقِ والاكتِسابِ: التَّوكُّلُ على اللهِ، مَعَ الأخذِ بالأسبابِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13] .
2- قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 12] .
3- قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 2-3] .
4- قال تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] .
قال البِقاعيُّ: (أشارَ بصيغةِ الافتِعالِ إلى السَّعيِ فيه؛ لأنَّه أجرى عادتَه سُبحانَه أنَّه في الغالِبِ لا يُؤتيه إلَّا بكَدٍّ مِنَ المَرزوقِ وجُهدٍ، إمَّا في العِبادةِ والتَّوكُّلِ، وإمَّا في السَّعيِ الظَّاهرِ في تَحصيلِه بأسبابِه الدُّنيَويَّةِ) [2164] ((نظم الدرر)) (14/ 412، 413). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو أنَّكُم كُنتُم تَوكَّلونَ على اللهِ حَقَّ تَوكُّلِه لرُزقتُم كما يُرزَقُ الطَّيرُ؛ تَغدو خِماصًا، وتَروحُ بِطانًا [2165] خِماصًا: أي: ضامِرةَ البُطونِ مِنَ الجوعِ. وبِطانًا: أي: مُمتَلِئةَ البُطونِ. يُنظر: ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 60). ) [2166] أخرجه الترمذي (2344) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4164)، وأحمد (370). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (730)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/471)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2344)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (370)، وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
2- عن جَعفَرِ بنِ عَمرِو بنِ أُمَيَّةَ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قال رَجُلٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُرسِلُ ناقَتي وأتَوكَّلُ؟ قال: اعقِلْها وتَوكَّلْ)) [2167] أخرجه ابن خزيمة في ((التوكل)) كما في ((إتحاف المهرة)) لابن حجر (2/344)، وابن حبان (731) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1159). حَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (731). وذهب إلى تصحيحه ابن حبان. وفي لفظ: ((قَيِّدْها وتَوكَّلْ)). أخرجه الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/294)، والحاكم (6616)، والبيهقي في ((شعب الإيمانِ)) (1158). حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (4432)، وجَوَّد إسنادَه العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (4/345). .
فائدةٌ في أن التَّوكُّلِ لا يُنافي السَّعيَ في الأسبابِ
قال ابنُ العَرَبيِّ: (قَولُه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 28] المَعنى: إن خِفتُمُ الفقرَ بانقِطاعِ مادَّة المُشرِكينَ عنكُم بالتِّجارةِ التي كانوا يَجلِبونَها، فإنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عنها؛ فدَلَّ على أنَّ تَعَلُّقَ القَلبِ بالأسبابِ في الرِّزقِ جائِزٌ، وإن كان الرِّزقُ مَقدورًا، وأمرُ اللهِ وقَسْمُه له مَفعولًا، ولكِنَّه عَلَّقَه بالأسبابِ حِكمةً؛ لتُعلَمَ القُلوبُ التي تَتَعَلَّقُ بالأسبابِ مِنَ القُلوبِ التي تَتَوكَّلُ على رَبِّ الأربابِ، وليسَ يُنافي النَّظَرُ إلى السَّبَبِ التَّوكُّلَ مِن حَيثُ إنَّه مُسَخَّرٌ مَقدورٌ، وإنَّما يُضادُّ التَّوكُّلَ النَّظَرُ إليه بذاتِه، والغَفلةُ عنِ الذي سَخَّرَه في أرضِه وسَماواتِه.
وفي الحَديثِ الصَّحيحِ: ((لو تَوكَّلتُم على اللهِ حَقَّ تَوكُّلِه لرَزقَكُم كَما يَرزُقُ الطَّيرَ؛ تَغدو خِماصًا، وتَروحُ بِطانًا)).
فأخبَرَ أنَّ التَّوكُّلَ الحَقيقيَّ لا يُضادُّه الغُدوُّ والرَّواحُ في طَلَبِ الرِّزقِ...
والصَّحيحُ ما أحكَمَته السُّنَّةُ عِندَ فُقَهاءِ الظَّاهِرِ، وهو العَمَلُ بالأسبابِ الدُّنيَويَّةِ مِنَ الحَرثِ والتِّجارةِ والغِراسةِ.
ويَدُلُّ عليه ما كانتِ الصَّحابةُ تَعمَلُه والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَين أظهُرِهم مِنَ التِّجارةِ في الأسواقِ، والعِمارةِ للأموالِ، وغَرسِ الثِّمارِ) [2168] ((أحكام القرآن)) (2/ 471، 472). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (التَّوكُّلُ إنَّما يَصِحُّ مَعَ القيامِ بما أُمِرَ به العَبدُ؛ ليَكونَ عابدًا للهِ مُتَوكِّلًا عليه، وإلَّا فمَن تَوكَّل عليه ولم يَفعَلْ ما أُمِرَ به فقد يَكونُ ما أضاعَه مِنَ الأمرِ أَولى به مِمَّا قامَ به مِنَ التَّوكُّلِ، أو مِثلَه أو دونَه، كَما أنَّ مَن قامَ بأمرٍ ولم يَتَوكَّلْ عليه ولم يَستَعِنْ به، فلم يَقُمْ بالواجِبِ، بَل قد يَكونُ ما تَرَكَه مِنَ التَّوكُّلِ والاستِعانةِ أَولى به مِمَّا فعَلَه مِنَ الأمرِ أو مِثلَه أو دونَه) [2169] ((جامع الرسائل)) (2/ 114، 115). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (اعلَمْ أنَّ تَحقيقَ التَّوكُّلِ لا يُنافي السَّعيَ في الأسبابِ التي قدَّرَ اللهُ سُبحانَه المقدوراتِ بها، وجَرَت سُنَّتُه في خَلقِه بذلك؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى أمر بتَعاطي الأسبابِ مَعَ أمرِه بالتَّوكُّلِ؛ فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجَوارِحِ طاعةٌ له، والتَّوكُّلُ بالقَلبِ عليه إيمانٌ به، كما قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71] ، وقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 60] ، وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] .
وقال سَهلٌ التُّستَريُّ: مَن طَعنَ في الحَرَكةِ -يَعني: في السَّعيِ والكَسبِ- فقد طَعنَ في السُّنَّةِ، ومَن طَعَن في التَّوكُّلِ فقد طَعنَ في الإيمانِ؛ فالتَّوكُّلُ حالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والكَسبُ سُنَّتُه، فمِن عَمِلَ على حالِه فلا يَترُكنَّ سُنَّتَه) [2170] ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 498). ويُنظر: ((شعب الإيمان)) للبيهقي (2/ 463). .

انظر أيضا: