خامسًا: اجتِنابُ الحَرامِ
يَجِبُ اجتِنابُ الحَرامِ مِنَ الكَسبِ، ولا يَجوزُ تَعَجُّلُ الرِّزقِ بفِعلِ مَعصيةٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] .
2- قال تعالى:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188] .
قولُه تعالى: (
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ أي: لا يَأكُلْ بَعضُكُم مالَ بَعضٍ، وسَمَّاه مالَه إشعارًا بوَحدةِ الأُمَّةِ وتَكافُلِها، وتَنبيهًا إلى أنَّ احتِرامَ مالِ غَيرِك احتِرامٌ وحِفظٌ لمالِك، كما أنَّ التَّعَدِّيَ على مالِ غَيرِك جِنايةٌ على الأُمَّةِ التي هو أحَدُ أعضائِها، ولا بُدَّ أن يُصيبَه سَهمٌ مِن كُلِّ جِنايةٍ تَقَعُ عليها؛ إذ هو باستِحلالِ مالِ غَيرِه يُجَرِّئُ غَيرَه على استِحلالِ أكلِ مالِه إذا كان في طاقَتِه، والباطِلُ كَلِمةٌ مَعروفةُ المَعنى عِندَ النَّاسِ بوُجوهِها الكَثيرةِ، ويَدخُلُ فيها:
- الرِّبا؛ لأنَّه أكلٌ لأموالِ النَّاسِ بدونِ مُقابلٍ مِن صاحِبِ المالِ المُعطى.
- الأموالُ التي تُلقى إلى الحُكَّامِ رِشوةً لهم.
- الصَّدَقةُ على القادِرِ على الكَسبِ الذي يَكفيه.
- أخذُ القادِرِ على الكَسبِ صَدَقةً، فلا يَحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَقبَلَ صَدَقةً وهو غَيرُ مُضطَرٍّ إليها.
- باعةُ التَّمائِمِ والعَزائِمِ، وخَتَماتُ القُرآنِ والعَدَدُ المَعلومُ مِن سورةِ يس لقَضاءِ الحاجاتِ أو رَحمةِ الأمواتِ.
- التَّعَدِّي على النَّاسِ بغَصبِ المَنفَعةِ، بأن يُسَخِّرَ بَعضُهم بَعضًا في عَمَلٍ لا يُعطيه عليه أجرًا، أو يَنقُصُه مِنَ الأجرِ المُسَمَّى أو أجرِ المَثلِ.
- ضُروبُ الغِشِّ والاحتيالِ، كما يَقَعُ مِنَ السَّماسِرةِ مِنَ التَّلبيسِ والتَّدليسِ، فيُزَيِّنونَ للنَّاسِ السِّلَعَ الرَّديئةَ والبَضائِعَ المُزجاةَ، ويورِّطونَهم في شِرائِها، ويُوهِمونَهم ما لا حَقيقةَ له، بحَيثُ لو عَرَفوا الخَفايا ما باعوا وما اشتَرَوا...
والخُلاصةُ أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يَطلُبَ الكَسبَ مِنَ الطُّرُقِ المَشروعةِ التي لا تَضُرُّ أحَدًا)
[2186] ((تفسير المراغي)) (2/ 81، 82). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أيها النَّاس إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنين بما أمَرَ به المرسَلينَ، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا *المؤمنون: 51*، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ *البقرة: 172*، ثمَّ ذَكَر الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السَّماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ [2187] غُذِيَ بالحَرامِ -بغَينٍ مُعجَمةٍ مَضمومةٍ، وذالٍ مُعجَمةٍ مَكسورةٍ مُخَفَّفةٍ- أي: كان غِذاؤُه الحَرامَ. يُنظر: ((التعيين في شرح الأربعين)) للصرصري (1/ 114). بالحرامِ؛ فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!)) [2188] أخرجه مسلم (1015). .
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لكَعبِ بنِ عُجرةَ:... يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، إنَّه لا يَدخُلُ الجَنَّةَ لحمٌ نَبَتَ مِن سُحتٍ، النَّارُ أَولى به. يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، النَّاسُ غاديانِ
[2189] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (يُقالُ: غَدَا: إذا خَرَجَ صَباحًا في مَصالِحِه. وراحَ: إذا رَجَعَ بعَشيٍّ. ومَعنى ذلك: أنَّ كُلَّ إنسانٍ يُصبحُ ساعيًا في أُمورِه مُتَصَرِّفًا في أغراضِه، ثُمَّ إمَّا أن تَكونَ تَصَرُّفاتُه بحَسَبِ دَواعي الشَّرعِ والحَقِّ، فهو الذي يَبيعُ نَفسَه مِنَ اللهِ، وهو بَيعٌ آيِلٌ إلى عِتقٍ وحُرِّيَّةٍ، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] ، وإمَّا أن تَكونَ تَصَرُّفاتُه بحَسَبِ دَواعي الهَوى والشَّيطانِ، فهو الذي باعَ نَفسه مِنَ الشَّيطانِ فأوبَقَها، أي: أهلكَها، ومِنه: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبوا [الشورى: 34] ). ((المفهم)) (1/ 477، 478). : فمُبتاعٌ نَفسَه فمُعتِقُها، وبائِعٌ نَفسَه فمُوبِقُها))
[2190] أخرجه أحمد (14441) واللفظ له، والدارمي (2818) مُختَصَرًا، وابن حبان (4514) باختلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه ابنُ حبان، والذهبي على شرط الشيخين في ((الكبائر)) (223)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (213)، وصحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2242). .
وفي رِوايةٍ عن كَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((... يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، إنَّه لا يَربو [2191] رَبا الشَّيءُ يَربو: إذا زادَ ونَما. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 76، 77). . لحمٌ نَبَتَ مِن سُحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أَولى به)) [2192] أخرجها من طرقٍ: الترمذي (614) واللفظ له، والنسائي (4207) بنحوِه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (279)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (215)، وأحمد شاكر في تخريج ((سنن الترمذي)) (2/513)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (614)، وقال الترمذي: صحيحٌ غريبٌ. .
قال ابنُ الأثيرِ: (السُّحتُ: الحَرامُ الخَبيثُ مِنَ المَكسَبِ والمَطعَمِ والمَشرَبِ)
[2193] ((جامع الأصول)) (4/ 76، 77). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((ليَأتينَّ على النَّاسِ زَمانٌ لا يُبالي المَرءُ بما أخَذَ المالَ؛ أمِن حَلالٍ أم مِن حَرامٍ)) [2194] أخرجه البخاري (2083). .
4- عن جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
((أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا الله وأجْمِلوا [2195] أجمِلوا في الطَّلَبِ: أي: أحسِنوا في طَلَبِ الرِّزقِ، أي: اطلُبوه مِنَ الحَلالِ بالطُّرُقِ الجَميلةِ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (5/ 311)، ((التيسير)) للمناوي (1/ 319)، ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 450). في الطلب، في الطَّلبِ، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تَستوفيَ رزقَها وإنْ أبطَأ عنها، فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلبِ، خُذوا ما حَلَّ، ودَعوا ما حرُم)) [2196] أخرجه مِن طرقٍ: ابنُ ماجه (2144) واللفظُ له، وابنُ الجارودِ في ((المنتقى)) (556)، وابنُ حِبانَ (3239). صحَّحه ابنُ حِبانَ، والحاكمُ على شرطِ مسلمٍ في ((المستدرك)) (8137)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2144). .
وفي روايةٍ:
((أيُّها النَّاسُ، إنَّ أحدَكم لن يموتَ حتَّى يَستكمِلَ رِزقَه، فلا تَستبطِئوا الرِّزقَ، واتَّقوا الله أيُّها النَّاسُ وأجْمِلوا في الطَّلبِ خُذوا ما حلَّ ودَعوا ما حرُم)) [2197] أخرجها ابنُ أبي عاصمٍ في ((السنة)) (420)، والحاكمُ (2167) واللفظُ له، والبيهقيُّ في ((الآداب)) (777). صحَّحها الألبانيُّ على شرطِ مسلمٍ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/209)، وصحَّح إسنادَها الحاكمُ. .
وفي أخرى:
((لا تَسْتبطِئوا الرِّزقَ؛ فإنَّه لم يكُنْ عبدٌ لِيموتَ حتَّى يَبلُغَ آخرَ رزقٍ هو له، فأجْمِلوا في الطَّلبِ، أخْذُ الحَلالِ وتركُ الحرامِ)) [2198] أخرجها الحاكمُ (2166) واللفظُ له، والبيهقيُّ (10502)، وأبو نُعيمٍ في ((حلية الأولياء)) (7/158). صحَّحها على شرطِ الشَّيخينِ: الحاكمُ، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2607). .
5- عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أجمِلوا في طَلَبِ الدُّنيا؛ فإنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له)) [2199] أخرجه ابنُ ماجه (2142)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/265) واللفظ لهما، والبيهقي (10501). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2142)، وذَكَرَ ثُبوتَه أبو نُعَيمٍ. .
وفي رِوايةٍ:
((أجمِلوا في طَلَبِ الدُّنيا؛ فإنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِما كُتِبَ له مِنها)) [2200] أخرجها الحاكِمُ (2165). صَحَّحها الحاكِمُ على شَرطِ الشَّيخَينِ، والألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (157)، وصَحَّحَ إسنادَها النَّوويُّ في ((المجموع)) (9/150). .
6- عن ابنِ كَعبِ بنِ مالِكٍ الأنصاريِّ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما ذِئبانِ جائِعانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بأفسَدَ لها مِن حِرصِ المَرءِ على المالِ والشَّرَفِ لدينِه)) [2201] أخرجه الترمذي (2376)، وأحمد (15794). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (3228)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2376)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1100)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
7- عن أبي بَرْزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تزولُ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه فيما أفناه، وعن عِلمِه فيمَ فَعَل، وعن مالِه مِن أين اكتسَبه وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسمِه فيمَ أبلاه)) [2202] أخرجه الترمذي (2417) واللفظ له، والدارمي (554)، وأبو يعلى (7434). صحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (30/301)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2417)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (9/316)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .