موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: ألَّا يَشغَلَه المَعاشُ عنِ المَعادِ


لا يَنبَغي للعامِلِ أن يَشغَلَه مَعاشُه عن مَعادِه، بَل يُراعي دينَه، ولا يَمنَعُه سوقُ الدُّنيا عن سوقِ الآخِرةِ [2203] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 83)، ((مختصر منهاج القاصدين)) لأبي العباس ابن قدامة (ص: 85). قال اليافعيُّ: (... وقال آخَرُ مِنَ السَّلَفِ: مَن أرادَ أن يَكونَ كَسبُه طَيِّبًا وبَيعُه مَبرورًا، ويَكونَ مِنَ النَّاجينَ يَومَ القيامةِ أن يَحفظَ خَمسَ خِصالٍ: أوَّلُها: ألَّا يُؤَخِّرَ شَيئًا مِن فرائِضِ اللهِ عن وقتِه، كالصَّلاةِ إذا حَضَرَ وقتُها، والزَّكاةِ إذا حَضَرَ أداؤُها، وغَيرِ ذلك مِنَ الواجِباتِ، والجُمَعِ والجَماعاتِ، ولا يَنقُصَ مِنها شَيئًا. والثَّاني: ألَّا يُؤذيَ أحَدًا مِن خَلقِ اللهِ بغِشٍّ ولا خيانةٍ، ولا نَقصٍ في كَيلٍ ولا ميزانٍ ولا ذِراعٍ. والثَّالثُ: أن يَقصِدَ بكَسبِه التَّعَفُّفَ عن سُؤالِ النَّاسِ، والسَّعيَ على نَفسِه وعيالِه في طَلَبِ الحَلالِ، ولا يَقصِدَ التَّكاثُرَ والتَّفاخُرَ. والرَّابعُ: ألَّا يُجهِدَ نَفسَه في كَسبِه، بَل يَعمَلُ بقَدرِ كِفايَتِه وكِفايةِ عِيالِه إن كان له عِيالٌ. والخامِسُ: أن يَرى رِزقَه مِن فَضلِ اللهِ، وكَسبَه سَبَبٌ لرِزقِه). ((الترغيب والترهيب)) (ص: 189، 190). وقال أيضًا: (أصلُ جَميعِ الطَّاعاتِ: المُحافَظةُ على الصَّلاةِ في أوقاتِها؛ فالواجِبُ على التُّجَّارِ وأصحابِ المَعايِشِ والأسبابِ ألَّا يَشتَغِلوا بمَعايِشِهم ومَكاسِبِهم وأسبابِهم عنِ الصَّلاةِ في أوقاتِها، فيَدخُلوا في قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9] ... قال العُلماءُ رَحِمَهمُ اللهُ: النَّاسُ في هذه الدُّنيا على ثَلاثةِ أحوالٍ: رَجُلٌ شَغَلَه مَعادُه عن مَعاشِه فهو مِنَ الفائِزينَ، ورَجُل شَغَله مَعاشُه عن مَعادِه فهو مِنَ الهالِكينَ، ورَجُلٌ أخَذ مِن مَعاشِه ما يَستَعينُ به على التَّزَوُّدِ لمَعادِه فهو مِنَ النَّاجينَ). ((الترغيب والترهيب)) (ص: 193، 194). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 9 - 11] .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9 - 11] .
3- قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36 - 38] .
فوصْفُه تعالى لهؤلاء الرِّجالِ الذين يُسَبِّحون له بالغدُوِّ والآصالِ بكَونِهم لا تُلهيهم تِجارةٌ ولا بَيعٌ عن ذِكرِ اللهِ، وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، على سبيلِ مَدحِهم والثَّناءِ عليهم- يدُلُّ على أنَّ تلك الصِّفاتِ لا يَنبغي التَّساهُلُ فيها بحالٍ؛ لأنَّ ثناءَ الله على المتَّصِفِ بها يدُلُّ على أنَّ مَن أخَلَّ بها يستحِقُّ الذَّمَّ الذي هو ضِدُّ الثَّناءِ، ويوضِّحُ ذلك أنَّ الله نهَى عن الإخلالِ بها نهيًا جازِمًا في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9] ، وقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ [2204] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/539). .
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ التِّجارةَ لا تُنافي الصَّلاحَ؛ لأنَّ مَقصودَ الآيةِ أنَّهم يتعاطَونَها، ومع ذلك لا تُلهيهم عن الصَّلاةِ وحُضورِ الجماعةِ، فهؤلاء الرِّجالُ وإنِ اتَّجَروا وباعُوا واشتَرَوا، فإنَّ ذلك لا محذورَ فيه، لكِنَّه لا تُلهيهم تلك، بأن يقَدِّموها ويُؤثِروها على ذِكرِ اللهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، بل جَعَلوا طاعةَ اللهِ وعِبادتَه غايةَ مُرادِهم، ونهايةَ مَقصدِهم، فما حالَ بيْنهم وبيْنها رَفَضوه [2205] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 194)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 569). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما طَلعَت شَمسٌ قَطُّ إلَّا بُعِثَ بجَنَبَتَيها مَلكانِ يُناديانِ، يُسمِعانِ أهلَ الأرضِ إلَّا الثَّقَلينِ [2206]قَولُه: ((إلَّا الثَّقَلينِ)) فسَّرَهما في الحَديثِ بالإنسِ والجِنِّ [أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمَد (7687)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11907)، وابن خُزَيمة (1727)، ولفظُ ابنِ خُزَيمةَ: عن أبي هرَيرةَ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما تَطلُعُ الشَّمسُ بيَومٍ ولا تَغرُبُ أفضَلَ أو أعظَمَ مِن يَومِ الجُمُعةِ، وما مِن دابَّةٍ لا تَفزَعُ ليَومِ الجُمُعةِ إلَّا هَذَينِ الثَّقَلينِ: الجِنَّ والإنسَ)). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة، وابن حبان في ((صحيحه)) (2770)، والبَغوي في ((شرح السنة)) (2/568)، وابنُ القَيِّمِ في ((زاد المَعاد)) (1/399)]، قيل: سُمِّيا بذلك؛ لتَفضيلِهما بالعَقلِ والتَّمييزِ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 71). : يا أيُّها النَّاسُ، هَلُمُّوا إلى رَبِّكُم؛ فإنَّ ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مِمَّا كَثُرَ وألهى، ولا آبَت شَمسٌ قَطُّ إلَّا بُعِثَ بجَنَبَتَيها مَلكانِ يُناديانِ، يُسمِعانِ أهلَ الأرضِ إلَّا الثَّقَلَينِ: اللَّهُمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، وأعطِ مُمسِكًا مالًا تَلَفًا)) [2207] أخرجه أحمد (21721) واللفظ له، وابن حبان (686، 3329) مفرقًا باختلاف يسير، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2891) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ حبان، والذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (16/329)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (1706)، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((الأمالي المُطلقة)) (155): حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ. .

انظر أيضا: