فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ
مِن جوامعِ الأدعيةِعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَقولُ: اللهُمَّ أصلِحْ لي ديني الذي هو عِصمةُ أمري، وأصلِحْ لي دُنيايَ التي فيها مَعاشي، وأصلِحْ لي آخِرَتي التي فيها مَعادي، واجعَلِ الحَياةَ زيادةً لي في كُلِّ خَيرٍ، واجعَلِ المَوتَ راحةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ)) [2221] أخرجه مسلم (2720). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (هذا الحَديثُ يَشتَمِلُ على دُعاءٍ شامِلٍ، وهو مِن جَوامِعِ الكَلمِ التي أوتيَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فأمَّا قَولُه: «أصلِحْ لي ديني» فإنَّه بَدَأ بالأهَمِّ، وهو الدِّينُ، ثُمَّ وصَفه بأنَّه عِصمةُ الأمرِ في الدُّنيا مِنَ الهَلَكةِ، وفي الآخِرةِ مِنَ النَّارِ.
ثُمَّ ذَكَرَ بَعدَ ذلك الدُّنيا، فقال: «وأصلِحْ لي دُنيايَ» والدُّنيا صِفةٌ لمَوصوفٍ مَحذوفٍ، والمَحذوفُ هو الحَياةُ، فإذا قُلتَ: الدُّنيا، فمَعناه الحَياةُ الدُّنيا؛ فلمَّا أضافها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: «دُنيايَ» أضاف الصِّفةَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثُمَّ ذَكَرَ العُذرَ في سُؤالِه إصلاحَها؛ بأن قال: «التي فيها مَعاشي» يَعني: التي أعيشُ فيها لأعبُدَك، ومِنَ المَعاشِ الكَسبُ والسَّعيُ في الأرضِ لاستِجلابِ الرِّزقِ، وذلك قد يَكونُ عِبادةً للهِ عَزَّ وجَلَّ)
[2222] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 81). ويُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (3/ 243). .
شُبهةٌ في طلبِ الحلالِقال أبو العَبَّاسِ بنُ قُدامةَ: (اعلَمْ أنَّ طَلَبَ الحَلالِ فرضٌ على كُلِّ مُسلمٍ، وقدِ ادَّعى كَثيرٌ مِنَ الجُهَّالِ عَدَمَ الحَلالِ، وقالوا: لم يَبقَ مِنه إلَّا الماءُ الفُراتُ، والحَشيشُ النَّباتُ، وما عَدا ذلك فقد أفسَدَته المُعامَلاتُ الفاسِدةُ، فلمَّا وقَعَ لهم هذا وعَلموا أنَّه لا بُدَّ لهم مِنَ الأقواتِ تَوسَّعوا في الشُّبهةِ والحَرامِ، وهذا مِنَ الجَهلِ، وقِلَّةِ العِلمِ)
[2223] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 86). .
أرجَحُ المَكاسِبِقال ابنُ تَيميَّةَ في جَوابِ مَن طَلب مِنه بَيانَ أرجَحِ المَكاسِبِ: (أمَّا أرجَحُ المَكاسِبِ فالتَّوكُّلُ على اللهِ والثِّقةُ بكِفايَتِه، وحُسنُ الظَّنِّ به؛ وذلك أنَّه يَنبَغي للمُهتَمِّ بأمرِ الرِّزقِ أن يَلجَأ فيه إلى اللهِ ويَدعوَه، كما قال سُبحانَه فيما يَأثُرُ عنه نَبيُّه: «كُلُّكُم جائِعٌ إلَّا مَن أطعَمتُه؛ فاستَطعِموني أُطعِمْكُم، يا عِبادي، كُلُّكُم عارٍ إلَّا مَن كَسَوتُه؛ فاستَكسُوني أكسُكُم»
[2224] أخرجه مسلم (2577) من حديثِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقد قال اللهُ تعالى في كِتابِه:
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] ، وقال سُبحانَه:
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] ، وهذا وإن كان في الجُمُعةِ فمَعناه قائِمٌ في جَميعِ الصَّلواتِ.
ولهذا -واللَّهُ أعلمُ- أمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي يَدخُلُ المَسجِدَ أن يَقولَ: اللهُمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحمَتِك، وإذا خَرَجَ أن يَقولَ: اللهُمَّ إنِّي أسألُك مِن فَضلِك
[2225] لفظُه: عن أبي حُمَيدٍ -أو عن أبي أُسَيدٍ- قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دَخَل أحَدُكُمُ المَسجِدَ فليَقُلِ: اللهُمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحمَتِكَ، وإذا خَرَجَ فليَقُلِ: اللهُمَّ إنِّي أسألُكَ مِن فَضلِكَ)). أخرجه مسلم (713). .
وقد قال الخَليلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوه وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت: 17] ، وهذا أمرٌ، والأمرُ يَقتَضي الإيجابَ.
فالاستِعانةُ باللهِ واللَّجَأُ إليه في أمرِ الرِّزقِ وغَيرِه أصلٌ عَظيمٌ.
ثُمَّ يَنبَغي له أن يَأخُذَ المالَ بسَخاوةِ نَفسٍ ليُبارَكَ له فيه، ولا يَأخُذْه بإشرافٍ وهَلَعٍ
[2226] عن حَكيمِ بنِ حزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ قال: يا حكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، فمَن أخَذه بطِيبِ نَفسٍ بورِكَ له فيه، ومَن أخَذه بإشرافِ نَفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ، واليَدُ العُليا خيرٌ مِن اليَدِ السُّفلى، قال حَكيمٌ: فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، والذي بعَثك بالحقِّ لا أرزَأُ أحدًا بَعدَك شيئًا حتَّى أفارِقَ الدُّنيا، فكان أبو بكرٍ يدعو حكيمًا ليُعطيَه العطاءَ، فيأبى أن يقبَلَ منه شيئًا، ثُمَّ إنَّ عُمرَ دعاه ليُعطيَه، فيأبى أن يقبَلَه، فقال: يا مَعشَرَ المُسلِمينَ، إنَّي أعرِضُ عليه حقَّه الذي قسَم اللهُ له مِن هذا الفَيءِ، فيأبى أن يأخُذَه! فلم يرزَأْ حَكيمٌ أحدًا مِن النَّاسِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى توفِّيَ رحِمه اللهُ)). أخرجه البخاري (1472) واللَّفظُ له، ومسلم (1035). وعن سالمِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن أبيه، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُعطي عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه العَطاءَ، فيَقولُ له عُمَرُ: أعطِه -يا رَسولَ اللهِ- أفقَرَ إليه مِنِّي، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذْه فتَمَوَّلْه أو تَصَدَّقْ به، وما جاءَك مِن هذا المالِ وأنتَ غَيرُ مُشرِفٍ ولا سائِلٍ فخُذْه، وما لا فلا تُتبِعْه نَفسَك)). قال سالمٌ: فمِن أجلِ ذلك كان ابنُ عُمَرَ لا يَسألُ أحَدًا شَيئًا، ولا يَرُدُّ شَيئًا أُعطِيَه. أخرجه البخاري (7163)، ومسلم (1045) واللَّفظُ له. ، بَل يَكونُ المالُ عِندَه بمَنزِلةِ الخَلاءِ الذي يَحتاجُ إليه مِن غَيرِ أن يَكونَ له في القَلبِ مَكانةٌ، والسَّعيُ فيه إذا سَعى كإصلاحِ الخَلاءِ...
وقال بَعضُ السَّلَفِ: أنتَ مُحتاجٌ إلى الدُّنيا، وأنتَ إلى نَصيبِك مِنَ الآخِرةِ أحوَجُ، فإن بَدَأتَ بنَصيبِك مِنَ الآخِرةِ مَرَّ على نَصيبِك مِنَ الدُّنيا فانتَظَمَه انتِظامًا
[2227] يُنظر: ((الزهد)) لهناد بن السري (520، 521). .
قال اللهُ تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58].
فأمَّا تَعيينُ مَكسَبٍ على مَكسَبٍ مِن صِناعةٍ أو تِجارةٍ أو بِنايةٍ أو حِراثةٍ أو غَيرِ ذلك، فهذا يَختَلفُ باختِلافِ النَّاسِ، ولا أعلَمُ في ذلك شَيئًا عامًّا، لكِن إذا عَنَّ للإنسانِ جِهةٌ فليَستَخِرِ اللَّهَ تعالى فيها الاستِخارةَ المُتَلقَّاةَ عن مُعَلِّم الخَيرِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[2228] عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنا الاستِخارةَ كما يُعَلِّمُنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ، يقولُ: إذا هَمَّ أحَدُكم بالأمرِ فليركَعْ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ، ثُمَّ ليقُلِ: اللَّهمَّ إنِّي أستخيرُك بعِلمِك، وأستقدِرُك بقُدرَتِك، وأسألُك مِن فضلِك العَظيمِ؛ فإنَّك تَقدِرُ ولا أقدِرُ، وتَعلَمُ ولا أعلمُ، وأنت عَلَّامُ الغُيوبِ، اللَّهمَّ إن كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ خَيرٌ لي في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري -أو قال: عاجِلِ أمري وآجِلِه- فاقدُرْه لي ويَسِّرْه لي، ثُمَّ بارِكْ لي فيه، وإنْ كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ شَرٌّ لي في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري -أو قال: في عاجِلِ أمري وآجِلِه- فاصرِفْه عنِّي واصرِفْني عنه، واقدُرْ لي الخَيرَ حَيثُ كان، ثُمَّ أرضِني، قال: ويُسَمِّي حاجَتَه)). أخرجه البخاري (1162). ؛ فإنَّ فيها مِنَ البَرَكةِ ما لا يُحاطُ به، ثُمَّ ما تَيَسَّرَ له فلا يَتَكَلَّفْ غَيرَه، إلَّا أن يَكونَ مِنه كَراهةٌ شَرعيَّةٌ)
[2229] ((مَجموع الفتاوى)) (10/ 662، 663). .