موسوعة الآداب الشرعية

خامسَ عشرَ: الدُّعاءُ لهم في الحياةِ وبَعدَ المَماتِ


مِنَ الحُقوقِ والآدابِ مَعَ الإخوانِ والأصحابِ: الدُّعاءُ لهم بظَهرِ الغيبِ والاستِغفارُ، والتَّرَحُّمُ عليهم بَعدَ المَماتِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
هذا مِن فضائِلِ الإيمانِ: أنَّ المؤمِنينَ يَنتَفِعُ بعضُهم ببَعضٍ، ويَدعو بعضُهم لبَعضٍ؛ بسبَبِ المُشارَكةِ في الإيمانِ المُقتَضي لعَقدِ الأُخُوَّةِ بيْنَ المُؤمِنينَ، الَّتي مِن فُروعِها أن يَدعوَ بَعضُهم لبَعضٍ، وأن يُحِبَّ بَعضُهم بعضًا [1810] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 851). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
 عن صَفوانَ -وهو ابنُ عبدِ اللهِ بنِ صَفوانَ، وكانت تَحتَه الدَّرداءُ-، قال: قَدِمتُ الشَّامَ، فأتيتُ أبا الدَّرداءِ في مَنزِلِه فلم أجِدْه، ووجَدتُ أمَّ الدَّرداءِ، فقالت: أتُريدُ الحَجَّ العامَ؟ فقُلتُ: نَعَم، قالت: فادعُ اللَّهَ لنا بخيرٍ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ: ((دَعوةُ المَرءِ المُسلمِ لأخيه بظَهرِ الغَيبِ مُستَجابةٌ، عِندَ رَأسِه مَلَكٌ موكَّلٌ، كُلَّما دَعا لأخيه بخيرٍ قال المَلَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمِثلٍ)) [1811] أخرجه مسلم (2733). .
وفي رِوايةٍ عن أمِّ الدَّرادءِ، قالت: حَدَّثَني سيِّدي [1812] قال عِياضٌ: (قَولُ أمِّ الدَّرداءِ: "حَدَّثَني سيِّدي أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" يَعني أبا الدَّرداءِ: فيه جَوازُ دَعوى المَرأةِ زَوجَها: سيِّدي، وتَعظيمُ المَرأةِ زَوجَها وتَوقيرُه). ((إكمال المعلم)) (8/ 229). ويُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (2/ 345، 346). أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن دَعا لأخيه بظَهرِ الغيبِ، قال المَلَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمِثلٍ)) [1813] أخرجها مسلم (2732). .
ج- مِنَ الآثارِ
1- عن أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ دَعوةَ الأخِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ مُستَجابةٌ) [1814] أخرجه ابن المبارك في ((الجهاد)) (ص164)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (624). صحَّح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (486). .
وفي لفظٍ: (إنَّ دَعوةَ الأخِ للأخِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ تُستَجابُ) [1815] أخرجه الدولابي في ((الكنى والأسماء)) (3/959) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9058). .
2- عن أمِّ الدَّرداءِ قالت: (كان لأبي الدَّرداءِ سِتُّونَ وثَلاثُمِئةِ خَليلٍ في اللهِ، يَدعو لهم في الصَّلاةِ، قالت أمُّ الدَّرداءِ: فقُلتُ له في ذلك، فقال: إنَّه ليس رَجُلٌ يَدعو لأخيه في الغَيبِ إلَّا وكَّلَ اللهُ به مَلكَينِ يَقولانِ: ولك بمِثلٍ، أفلا أرغَبُ أن تَدعوَ لي المَلائِكةُ؟) [1816] أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/189). .
3- وقال أبو حَفصٍ عَمرُو بنُ عَليٍّ: سَمِعتُ رَجُلًا مِن أصحابِنا ثِقةً، يَقولُ: (سَمِعتُ يَحيى بنَ سَعيدٍ يَقولُ في سُجودِه: اللَّهمَّ اغفِرْ لخالِدِ بنِ الحارِثِ، ولمُعاذِ بنِ مُعاذٍ، فذَكرتُ ذلك ليَحيى فلم يُنكِرْه، وقال: حَدَّثَنا شُعبةُ، عن مُعاويةَ بنِ قُرَّةَ، قال: قال أبو الدَّرداءِ: إنِّي لأستَغفِرُ لسَبعينَ مِن إخواني في سُجودي، أسَمِّيهم بأسمائِهم، وأسماءِ آبائِهم) [1817] رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (15/ 167). وقال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (نَظَرَ أبو الدَّرداءِ إلى ثَورينِ يَحرُثانِ في فَدَّانٍ، فوقَف أحَدُهما يَحُكُّ جَسَدَه فوقَف الآخَرُ، فبَكى أبو الدَّرداءِ، وقال: هَكذا الإخوانُ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ يَعمَلانِ للهِ تَبارَك وتعالى ويَتَعاونانِ على أمرِ اللهِ، فإذا وقَف أحَدُهما وقَف الآخَرُ لوُقوفِه!... وكان يَقولُ: إنِّي لأدعو لأربَعينَ مِن إخواني في سُجودي أسَمِّيهم بأسمائِهم). ((قوت القلوب)) (2/ 382). ويُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (47/ 188). .
فائِدةٌ:
قال أبو طالبٍ المَكِّيُّ: (مِن واجِبِ الأخوَّةِ تَخصيصُه وإفرادُه بالدُّعاءِ، والاستِغفارُ له في الغيبِ، فلو لم يكُنْ مِن بَرَكةِ الأخوَّةِ إلَّا هذا كان كثيرًا.
وكان مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ الأصبَهانيُّ يَقولُ: وأينَ مِثلُ الأخِ الصَّالحِ؟! أهلُك يَقتَسِمونَ ميراثَك، وهو مُنفرِدٌ بحَسرَتِك، مُهتَمٌّ بما قَدَّمتَ، يَدعو لك في ظُلمةِ اللَّيلِ وأنتَ تَحتَ أطباقِ الثَّرى.
وقال بَعضُ العُلماءِ: لو لم يكُنْ في اتِّخاذِ الإخوانِ إلَّا أنَّ أحَدَهم يَبلُغُه مَوتُ أخيه فيَتَرَحَّمُ عليه ويَدعو له، فلعَلَّه يُغفَرُ له بحُسنِ نيَّتِه له.
وقد كان الإخوانُ يوصونَ إخوانَهم بَعدَهم بدَوامِ الدُّعاءِ لهم، ويَرغَبونَ في ذلك؛ لحُسنِ يَقينِهم وصِدقِ نيَّاتِهم، وإنَّ أعظَمَ الحَسرةِ مَن خَرَجَ مِنَ الدُّنيا ولم يُؤاخِ أخًا في اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ فيُدرِكَ بذلك فضائِلَ المُؤاخاةِ، ويَنالَ به مَنازِلَ المُحِبِّينَ عِندَ اللهِ تعالى، ومِن أشَدِّ النَّاسِ وَحشةً في الدُّنيا مَن لم يكُنْ له خَليلٌ يَأنَسُ به، وصَديقُ صِدقٍ يَسكُنُ إليه، كما قال عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: وغَريبٌ مَن لم يكُنْ له حَبيبٌ، ولا يوحِشَنَّك مِن صَديقٍ سُوءُ ظَنٍّ) [1818] ((قوت القلوب)) (2/ 382، 383). .

انظر أيضا: