موسوعة الآداب الشرعية

سابعَ عشرَ: إعذارُهم وقَبولُ العُذرِ مِنهم وحُسنُ الظَّنِّ بهم


مِنَ الآدابِ مَعَ الإخوةِ والأصحابِ: التِماسُ الأعذارِ لهم، مَعَ حُسنِ الظَّنِّ بهم، وقَبولُ العُذرِ مِنهم إنِ اعتَذَروا.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المِسْوَرِ بنِ مَخرَمةَ ومَروانَ يُصَدِّقُ كُلُّ واحدٍ منهما حديثَ صاحِبِه، قال: ((خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَمَن الحُدَيبيةِ حتَّى إذا كانوا ببَعضِ الطَّريقِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغميمِ [1836] موضعٌ قريبٌ من مكَّةَ بَيْنَ رابغٍ والجُحفةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 443). في خَيلٍ لقُرَيشٍ طليعةٌ [1837] طليعةٌ: هي مُقَدِّمةُ الجَيشِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 443). ، فخُذوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ ما شَعَر بهم خالدٌ حتَّى إذا هم بقَتَرةِ [1838] أي: غبارِه الأسوَدِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 443). الجيشِ، فانطلق يركُضُ نذيرًا لقريشٍ، وسار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان بالثَّنيَّةِ [1839] هي طريقٌ في الجَبَلِ تُشرِفُ على الحُدَيبيَةِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 335). التي يهبِطُ عليهم منها بركَت به راحلتُه، فقال النَّاسُ: حَلْ حَلْ [1840] زجرٌ للرَّاحِلةِ إذا حملها على السَّيرِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 443). فألحَّت [1841] أي: تمادت في البُروكِ فلم تبرَحْ من مكانِها. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 443). ، فقالوا: خلَأتِ [1842] أي: امتنعَت من المشيِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 113). القَصواءُ [1843] اسمُ ناقةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 335). ، خلأتِ القَصواءُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما خلأتِ القصواءُ، وما ذاك لها بخُلُقٍ [1844] أي: ما هو من عادتِها. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 51). ، ولكن حبَسَها حابِسُ الفيلِ [1845] أي: حبسها اللهُ عن دخولِ مكَّةَ كما حبَس الفيلَ عن مكَّةَ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 444). ...)) الحديثَ [1846] أخرجه البخاري (2731، 2732). .
قال ابنُ بَطَّالٍ في فوائِدِ الحَديثِ: (فيه دَليلٌ على أنَّ الأخلاقَ المَعروفةَ مِنَ الحيَوانِ كُلُّها يُحكَمُ بها على الطَّارِئِ الشَّاذِّ مِنها، وكذلك في النَّاسِ إذا نُسِبَ إنسانٌ إلى غيرِ خَلُقِه المَعلومِ في هَفوةٍ كانت مِنه، لم يُحكَمْ بها) [1847] ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 126). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (فيه جَوازُ الحُكمِ على الشَّيءِ بما عُرِف مِن عادَتِه، وإن جازَ أن يَطرَأَ عليه غيرُه، فإذا وقَعَ مِن شَخصٍ هَفوةٌ لا يُعهَدُ مِنه مِثلُها، لا يُنسَبُ إليها، ويُرَدُّ على مَن نَسَبه إليها. ومَعذِرةُ مَن نَسَبَه إليها مِمَّن لا يَعرِفُ صورةَ حالِه؛ لأنَّ خَلاءَ القَصواءِ لولا خارِقُ العادةِ لكان ما ظَنَّه الصَّحابةُ صَحيحًا، ولم يُعاتِبْهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك لعُذرِهم في ظَنِّهم) [1848] ((فتح الباري)) (5/ 335، 336). .
(فقَد أعذَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غيرَ المُكلَّفِ مِنَ الدَّوابِّ باستِصحابِ الأصلِ، ومِن قياسِ الأَولى إذا رَأينا عالِمًا عامِلًا، ثُمَّ وقَعَت مِنه هَنةٌ أو هَفوةٌ، فهو أَولى بالإعذارِ، وعَدَمِ نِسبَتِه إليها والتَّشنيعِ عليه بها؛ استِصحابًا للأصلِ، وغَمْرِ ما بَدَرَ مِنه في بَحرِ عِلمِه وفَضلِه، وإلَّا كان المُعَنِّفُ قاطِعًا للطَّريقِ، رِدءًا للنَّفسِ اللَّوَّامةِ، وسَبَبًا في حِرمانِ العالمِ مِن عِلمِه، وقد نُهينا أن يَكونَ أحَدُنا عَونًا للشَّيطانِ على أخيه) [1849] ((تصنيف الناس بين الظن واليقين)) (ص: 80، 81). .
2- عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (بعثني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا والزُّبَيرُ، والمقدادُ بنُ الأسوَدِ، قال: انطَلِقوا حتى تأتوا روضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظَعينةً [1850] الظَّعينةُ: الهَودَجُ، وسُمِّيَتِ المَرأةُ ظَعينةً؛ لأنَّها تَكونُ فيه. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 536). ، ومعها كتابٌ فخُذوه منها، فانطلَقْنا تَعادى [1851]تَعادى بنا خَيلُنا: أي: تَتَعادى، والمَعنى: تَجري وتَتَسابَقُ، والعاديةُ: الخَيلُ تَعدو عَدْوًا، أي: تَجري. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 536)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/ 141). بنا خيلُنا حتى انتَهَينا إلى الرَّوضةِ، فإذا نحن بالظَّعينةِ، فقُلْنا: أخرجي الكتابَ، فقالت: ما معي من كتابٍ، فقُلْنا: لتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لنُلقِيَنَّ الثيابَ، فأخرجَتْه من عِقاصِها [1852] عِقاصِها: أي: ضَفيرِ رَأسِها، والعِقاصُ: الشَّعرُ المَعقوصُ، أي: المَضفورُ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 537)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 439). ، فأتينا به رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا فيه: مِن حاطِبِ بنِ أبي بَلتعةَ إلى أُناسٍ من المشركين مِن أهلِ مكَّةَ يخبِرُهم ببعضِ أمرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا حاطِبُ، ما هذا؟! قال: يا رَسولَ اللهِ، لا تعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرَأً مُلصَقًا [1853] المُلصَقُ في القَومِ: هو الذي لا نَسَبَ له فيهم، وهو الحَليفُ والنَّزيلُ والدَّخيلُ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 439). في قريشٍ، ولم أكُنْ من أنفُسِها، وكان مَن معك من المهاجِرين لهم قراباتٌ بمكَّةَ يحمون بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذْ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أتخِذَ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلتُ كُفرًا ولا ارتدادًا، ولا رِضًا بالكُفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لقد صدَقَكم، قال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافِقِ! قال: إنَّه قد شهد بدرًا، وما يُدريك لعلَّ اللهَ أن يكونَ قد اطَّلع على أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلوا ما شئتمُ، فقد غفرتُ لكم!)) [1854] أخرجه البخاري (3007) واللفظ له، ومسلم (2494). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: بعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُمَرَ على الصَّدقةِ فقيل: منَع ابنُ جَميلٍ، وخالِدُ بنُ الوليدِ، والعبَّاسُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما يَنقِمُ ابنُ جميلٍ إلَّا أنَّه كان فقيرًا فأغناه اللهُ، وأمَّا خالِدٌ فإنَّكم تَظلِمون خالِدًا، قد احتَبس أدراعَه وأعتادَه [1855] الأدراعُ: جَمعُ دِرعٍ، وهيَ الزَّرَديَّةُ. والأعتُدُ والأعتادُ: جَمعُ عَتادٍ، وهو: ما أعَدَّه الرَّجُلُ مِنَ السِّلاحِ والدَّوابِّ والآلةِ للحَربِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 571)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 176). في سبيلِ اللهِ، وأمَّا العبَّاسُ فهي عَلَيَّ ومِثلُها معها، ثمَّ قال: يا عُمَرُ، أمَا شَعَرْتَ أنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ [1856] الصِّنوُ: المِثلُ، وأصلُه: الشَّجَرةُ يَكونُ أصلُها واحِدًا ولها فرعانِ يَفتَرِقانِ عنِ الأصلِ الواحِدِ، فكُلٌّ مِنهما صِنوٌ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (3/ 475)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 572). أبيه؟!)) [1857] أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983) واللفظ له. .
4- عن المِقدادِ بنِ الأسوَدِ رضِي اللهُ عنه قال: ((أقبلْتُ أنا وصاحِبانِ لي، وقد ذهبَت أسماعُنا وأبصارُنا مِن الجَهدِ [1858] الجَهدُ: المشَقَّةُ. والمرادُ: ما لَقُوا من الجُوعِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 27). ، فجعلْنا نعرِضُ أنفُسَنا على أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليس أحدٌ منهم يقبَلُنا، فأتَينا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فانطلَق بنا إلى أهلِه، فإذا ثلاثةُ أعنُزٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: احتلِبوا هذا اللَّبنَ بَينَنا، قال: فكنَّا نحتلِبُ، فيشرَبُ كُلُّ إنسانٍ منَّا نَصيبَه، ونرفَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصيبَه، قال: فيجيءُ مِن اللَّيلِ، فيُسلِّمُ تسليمًا لا يوقِظُ نائِمًا، ويُسمِعُ اليَقظانَ، قال: ثُمَّ يأتي المسجِدَ، فيُصلِّي، ثُمَّ يأتي شرابَه فيشرَبُ، فأتاني الشَّيطانُ ذاتَ ليلةٍ وقد شرِبْتُ نَصيبي، فقال: مُحمَّدٌ يأتي الأنصارَ فيُتحِفونَه [1859] التُّحفةُ: الهَدِيَّةُ والبِرُّ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 77). ، ويُصيبُ عندَهم، ما به حاجةٌ إلى هذه الجُرعةِ، فأتَيتُها فشرِبْتُها، فلمَّا أن وغَلَت [1860] وغَلَت: أي: دَخَلت، والوُغولُ: الدُّخولُ في الشَّيءِ وإن لم يَتَعَدَّ فيه، وكُلُّ داخِلٍ في شَيءٍ فهو واغِلٌ فيه. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (6/ 545)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 332). في بَطني، وعلِمْتُ أنَّه ليس إليها سبيلٌ، قال: ندَّمني الشَّيطانُ، فقال: وَيحَك، ما صنَعْتَ؟! أشرِبْتَ شرابَ مُحمَّدٍ؟! فيجيءُ فلا يجِدُه، فيدعو عليك، فتَهلِكُ، فتذهَبُ دُنياك وآخِرتُك، وعَلَيَّ شَمْلةٌ [1861] الشَّملةُ: كِساءٌ صَغيرٌ يُشتَمَلُ به، أي: يُلتَحَفُ به على كَيفيَّةٍ مَخصوصةٍ، وقيل: الشَّملةُ: كُلُّ مِئزَرٍ مِن مَآزِرِ الأعرابِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 77)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 333). إذا وضعْتُها على قَدَمَيَّ خرَج رأسي، وإذا وضعْتُها على رأسي خرَج قَدَماي، وجعَل لا يجيئُني النَّومُ، وأمَّا صاحباي فناما، ولم يصنَعا ما صنعْتُ، قال: فجاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسلَّم كما كان يُسلِّمُ، ثُمَّ أتى المسجِدَ فصلَّى، ثُمَّ أتى شرابَه، فكشَف عنه، فلم يجِدْ فيه شيئًا، فرفَع رأسَه إلى السَّماءِ، فقُلتُ: الآنَ يدعو عليَّ فأهلِكُ! فقال: اللَّهمَّ أطعِمْ مَن أطعَمني، وأسْقِ مَن أسقاني، قال: فعَمَدتُ إلى الشَّملةِ فشَدَدتُها عليَّ، وأخَذتُ الشَّفرةَ فانطَلقتُ إلى الأعنُزِ أيُّها أسمَنُ، فأذبَحُها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا هي حافِلةٌ، وإذا هُنَّ حُفَّلٌ [1862] الحُفَّلُ: جَمعُ حافِلٍ: وهيَ الشَّاةُ التي امتَلأ ضَرعُها لبَنًا، وضَرعٌ حافِلٌ، أي: مُمتَلِئٌ لبَنًا، والمُحَفَّلةُ: التي حَفَلت: أي: جُمِعَ اللَّبَنُ في ضَرعِها ولم يُحلَبْ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 27)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 77). كُلُّهنَّ، فعَمَدتُ إلى إناءٍ لآلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كانوا يَطمَعونَ أن يَحتَلِبوا فيه، قال: فحَلبتُ فيه حتَّى عَلَته رِغوةٌ، فجِئتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أشرِبتُم شَرابَكُمُ اللَّيلةَ، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشرَبْ، فشَرِبَ، ثُمَّ ناوَلَني، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشرَبْ، فشَرِبَ، ثُمَّ ناوَلَني، فلمَّا عَرَفتُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد رَوِيَ وأصَبتُ دَعوتَه، ضَحِكتُ حتَّى أُلقيتُ إلى الأرضِ! قال: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إحدى سَوآتِك [1863] إحدى سَوآتِك: أي: إنَّ ضَحِكَك هذا وما صَنَعتَ: مِن إحدى فَعلاتِك السَّيِّئةِ، وما أضحَكَك إلَّا بَعضُ ما يَسوءُ ظُهورُه، أو إنَّك فعَلتَ سوءةً مِنَ الفَعلاتِ، ما هيَ ؟ يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (6/ 546)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (1/ 207)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 28)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 334، 335)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 15). يا مِقدادُ! فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كان مِن أمري كذا وكذا وفعَلتُ كذا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما هذه إلَّا رَحمةٌ مِنَ اللهِ، أفلا كُنتَ آذَنْتَني فنوقِظُ صاحِبَينا فيُصيبانِ مِنها! قال: فقُلتُ: والذي بَعَثَك بالحَقِّ ما أُبالي إذا أصَبتَها وأصَبتُها مَعَك مَن أصابَها مِنَ النَّاسِ)) [1864] أخرجه مسلم (2055). .
ب- مِنَ الآثارِ
1- كَتَب عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى ابنِه مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ: (... مِن خيرِ حَظِّ الدُّنيا القَرينُ الصَّالحُ؛ فقارِنْ أهلَ الخيرِ تَكُنْ مِنهم، وبايِنْ أهلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنهم، ولا يَغلبَنَّ عليك سوءُ الظَّنِّ؛ فإنَّه لن يَدَعَ بينَك وبينَ خَليلٍ صُلحًا... لا تَصرِمْ أخاك على ارتيابٍ، ولا تَقطَعْه دونَ استِعتابٍ، وليس جَزاءُ مَن سَرَّك أن تَسوءَه... وخيرُ المُقالِ ما صَدَّقَته الفِعالُ، سَلْ عَنِ الرَّفيقِ قَبلَ الطَّريقِ، وعَنِ الجارِ قَبلَ الدَّارِ، واحمِلْ لصَديقِك عليك، واقبَلْ عُذرَ مَنِ اعتَذَرَ إليك، وأخِّرِ الشَّرَّ ما استَطَعتَ؛ فإنَّك إذا شِئتَ تَعَجَّلتَه. لا يكُنْ أخوك على قَطيعَتِك أقوى مِنك على صِلتِه، وعلى الإساءةِ أقوى مِنك على الإحسانِ) [1865] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 101، 102). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (أحَبُّ إخواني إليَّ الذي إذا أتيتُه قَبِلَني، وإذا غِبتُ عَنه عَذَرَني) [1866] رواه ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) (63). .
فَوائِدُ:
1- قال الماوَرْديُّ: (حُكيَ عن بنتِ عبدِ اللهِ بنِ مُطيعٍ أنَّها قالت لزَوجِها طَلحةَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ الزُّهريِّ، وكان أجودَ قُريشٍ في زَمانِه: ما رَأيتُ قَومًا ألأمَ مِن إخوانِك! قال مَهْ! ولمَ ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسَرتَ لزِموك، وإذا أعسَرتَ تَرَكوك!
قال: هذا واللَّهِ مِن كرَمِهم؛ يَأتونَنا في حالِ القوَّةِ بنا عليهم، ويَترُكونَنا في حالِ الضَّعفِ بنا عَنهم.
فانظُرْ كيف تَأوَّل بكرَمِه هذا التَّأويلَ حتَّى جَعَل قَبيحَ فِعلِهم حَسَنًا، وظاهِرَ غَدرِهم وفاءً؟! وهذا مَحضُ الكرَمِ ولُبابُ الفَضلِ، وبمِثلِ هذا يَلزَمُ ذَوي الفَضلِ أن يتأوَّلوا الهَفَواتِ مِن إخوانِهم) [1867] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 180). .
2- قال أبو العَبَّاسِ بنُ قُدامةَ: (ينبغي أن تَترُكَ إساءةَ الظَّنِّ بأخيك، وأن تَحمِلَ فِعلَه على الحَسَنِ مَهما أمكنَ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((إيَّاكُم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَديثِ)) [1868] أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
واعلَمْ أنَّ سوءَ الظَّنِّ يَدعو إلى التَّجَسُّسِ المُنهيِّ عَنه، وأنَّ سَترَ العُيوبِ والتَّغافُلَ عَنها شيمةُ أهلِ الدِّينِ.
واعلَمْ أنَّه لا يَكمُلُ إيمانُ المَرءِ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه، وأقَلُّ دَرَجاتِ الأخوَّةِ أن يُعامِلَ أخاه بما يُحِبُّ أن يُعامِلَه به، ولا شَكَّ أنَّك تَنتَظِرُ مِن أخيك أن يَستُرَ عَورَتَك، وأن يَسكُتَ عن مَساويك، فلو ظَهَرَ لك مِنه ضِدُّ ذلك اشتَدَّ عليك، فكيف تَنتَظِرُ مِنه ما لا تَعزِمُ عليه له؟
ومَتى التَمَستَ مِنَ الإنصافِ ما لا تَسمَحُ به، دَخَلتَ في قَولِ اللهِ تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1 - 3] . ومَنشَأُ التَّقصيرِ في سَترِ العَورةِ والمُغري بكَشفِها الحِقدُ والحَسَدُ.
واعلَمْ: أنَّ مِن أشَدِّ الأسبابِ لإثارةِ الحِقدِ والحَسَدِ بينَ الإخوانِ المُماراةَ، ولا يَبعَثُ عليها إلَّا إظهارُ التَّميُّزِ بزيادةِ الفَضلِ والعَقلِ، واحتِقارُ المَردودِ عليه، ومَن مارى أخاه فقَد نَسَبَه إلى الجَهلِ والحُمقِ، أو إلى الغَفلةِ والسَّهوِ عن فهمِ الشَّيءِ على ما هو عليه. وكُلُّ ذلك استِحقارٌ، وهو يوغِرُ الصَّدرَ ويوجِبُ المُعاداةَ، وهو ضِدُّ الأخوَّةِ) [1869] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 101). .

انظر أيضا: