ثامنَ عشرَ: الصَّبرُ والتَّحَمُّلُ والإغضاءُ عَنِ المَعايِبِ
مِن حُقوقِ الأخوَّةِ والصُّحبةِ وآدابِها: الصَّبرُ على الأخِ والصَّاحِبِ، والاحتِمالُ له، والإغضاءُ عَنِ المَعايِبِ، وألَّا يُعانَ الشَّيطانُ عليه
[1870] قال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (مَن عَرَف فَضلَ الأخوَّةِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعَلِم دَرَجةَ المَحَبَّةِ للهِ تعالى، صَبَر لأخيه وشَكَر له وحَلَم عَنه واحتَمَل له؛ ليَنالَ ما أمَّله مِن مؤمِّلِه فيه، ويَبلُغَ ما طَلبَه مِن طالبِه به؛ فإنَّ الصَّبرَ يُحتاجُ إليه ليَتِمَّ العَمَلُ والشُّكرُ، لا بُدَّ له مِنه لدَوامِ النِّعمةِ، ومَن طَلب نَفيسًا خاطَرَ بنَفيسٍ، ومَن رَغِبَ في رَغبةٍ بذَلَ لها مَرغوبًا، واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الموفِّقُ مَن يُحِبُّ لِما يُحِبُّ). ((قوت القلوب)) (2/ 364). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أنَس رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لمَّا انقَضَت عِدَّةُ زَينَبَ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لزَيدٍ: فاذكُرْها عَلَيَّ، قال: فانطَلَقَ زَيدٌ حَتَّى أتاها وهيَ تُخَمِّرُ عَجينَها، قال: فلَمَّا رَأيتُها عَظُمَت في صَدري، حَتَّى ما أستَطيعُ أن أنظُرَ إليها؛ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَرَها، فوَلَّيتُها ظَهري، ونَكَصتُ على عَقِبي، فقُلتُ: يا زَينَبُ، أرسَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَذكُرُكِ، قالت: ما أنا بصانِعةٍ شَيئًا حَتَّى أُوامِرَ رَبِّي، فقامَت إلى مَسجِدِها، ونَزَل القُرآنُ، وجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَل عليها بغيرِ إذنٍ، قال، فقال: ولقَد رَأيتُنا أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطعَمَنا الخُبزَ واللَّحمَ حينَ امتَدَّ النَّهارُ، فخَرَجَ النَّاسُ وبَقيَ رِجالٌ يَتَحَدَّثونَ في البيتِ بَعدَ الطَّعامِ، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واتَّبَعتُه، فجَعَل يَتَتَبَّعُ حُجَرَ نِسائِه يُسَلِّمُ عليهنَّ، ويَقُلنَ: يا رَسولَ اللهِ، كيف وجَدتَ أهلَك؟ قال: فما أدري أنا أخبَرتُه أنَّ القَومَ قَد خَرَجوا أو أخبَرَني، قال: فانطَلقَ حتَّى دَخَل البيتَ، فذَهَبتُ أدخُلُ مَعَه، فألقى السِّترَ بيني وبينَه، ونَزَل الحِجابُ، قال: ووُعِظَ القَومُ بما وُعِظوا به: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب: 53] إلى قوله وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] )) [1871] أخرجه مسلم (1428). .
وفي رِوايةٍ:
((لمَّا تَزَوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينَبَ بنتَ جَحشٍ دَعا القَومَ فطَعِموا، ثُمَّ جَلسوا يَتَحَدَّثونَ، قال: فأخَذَ كأنَّه يَتَهيَّأُ للقيامِ، فلم يَقوموا، فلمَّا رَأى ذلك قامَ، فلمَّا قامَ قامَ مَن قامَ مِنَ القَومِ، وإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ ليَدخُلَ، فإذا القَومُ جُلوسٌ، ثُمَّ إنَّهم قاموا فانطَلقوا، قال: فجِئتُ فأخبَرتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم قَدِ انطَلقوا، قال: فجاءَ حتَّى دَخَل، فذَهَبتُ أدخُلُ، فألقى الحِجابَ بيني وبينَه، قال: وأنزَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب: 53] إلى قَولِه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب: 53] )) [1872] أخرجها البخاري (6239)، ومسلم (1428) واللفظ له. .
وفي أخرى:
((...جَلسَ طَوائِفُ مِنهم يَتَحَدَّثونَ في بيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ وزَوجَتُه مُوَلِّيةٌ وَجْهَها إلى الحائِطِ، فثَقُلوا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ على نِسائِه ثُمَّ رَجَعَ، فلمَّا رَأوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد رَجَعَ ظَنُّوا أنَّهم قَد ثَقُلوا عليه، قال: فابتَدَروا البابَ، فخَرَجوا كُلُّهم، وجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى أرخى السِّترَ، ودَخل وأنا جالسٌ في الحُجرةِ، فلم يَلبَثْ إلَّا يَسيرًا حتَّى خَرَجَ علَيَّ، وأُنزِلَت هذه الآيةُ، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَرَأهنَّ على النَّاسِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب: 53] إلى آخِرِ الآيةِ)) [1873] أخرجه مسلم (1428). .
قال عِياضٌ: (في خُروجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَورانِه على نِسائِه حتَّى يَقومَ الجالسانِ عَنه حُسنُ الأدَبِ مَعَ الصَّاحِبِ، واحتِمالُ أذاه، وما كان عليه -عليه السَّلامُ- مِن حُسنِ الخُلُقِ والعِشرةِ، وأنَّه عليه السَّلامُ لمَّا كرِهَ جُلوسَهما لم يَأمُرْهما بالقيامِ، وتَلطَّف أوَّلًا بالتَّهيُّؤِ للقيامِ ليَقوما، فلمَّا لم يَقوما تَلطَّف بخُروجِه ورُجوعِه ليَفهَما فيَقوما كما كان.
وفيه كراهةُ التَّطويلِ والجُلوسِ عِندَ العَروسِ، ومَن يُعلَمُ أنَّ له شُغُلًا وتَفرُّغًا لأمرٍ مِن أمورِ نَفسِه أو أمورِ المُسلِمينَ)
[1874] ((إكمال المعلم)) (4/ 598، 599). .
2- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ رَجُلًا على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان اسمُه عَبدَ اللَّهِ، وكان يُلقَّبُ حِمارًا، وكان يُضحِكُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد جَلدَه في الشَّرابِ، فأُتِيَ به يَومًا فأمَرَ به فجُلِدَ، فقال رَجُلٌ مِنَ القَومِ: اللَّهُمَّ العَنْه! ما أكثَرَ ما يُؤتى به! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَلعَنوه؛ فواللهِ -ما عَلِمتُ- إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه)) [1875] أخرجه البخاري (6780). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((أُتيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَكرانَ، فأمَرَ بضَربِه؛ فمِنَّا مَن يَضرِبُه بيَدِه، ومِنَّا مَن يَضرِبُه بنَعلِه، ومِنَّا مَن يَضرِبُه بثَوبِه، فلمَّا انصَرَف قال رَجُلٌ: ما له؟ أخزاه اللهُ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَكونوا عَونَ الشَّيطانِ على أخيكُم)) [1876] أخرجه البخاري (6780). .
فَوائِدُ:1- عن أبي عُمَرَ بنِ نُجَيدٍ قال: (كنتُ أختَلِفُ إلى أبي عُثمانَ النَّيسابوريِّ مدَّةً في وَقتِ شبابي، وكنتُ قد حَظِيتُ عِندَه، فقُضيَ من القضاءِ أنِّي اشتغَلتُ مرَّةً بشيءٍ ممَّا يشتَغِلُ به الفِتيانُ، فنُقِلَ ذلك إلى أبي عُثمانَ، فانقطَعتُ عنه بعدَ ذلك، فافتقَدني، فأقمتُ على انقطاعي عنه، وكنتُ إذا رأيتُه في الطَّريقِ أو من بعيدٍ اختفيتُ في موضعٍ؛ حتَّى لا تقعَ عينُه علَيَّ. فدخلتُ يومًا سِكَّةً من السِّكَكِ، فخرج عليَّ أبو عثمانَ من عَطفةٍ في السِّكَّةِ، فلم أجِدْ عنه محيصًا! فتقدَّمتُ إليه وأنا دَهِشٌ متشَوِّشٌ، فلمَّا رأى ذلك قال لي: يا أبا عُمَرَ، لا تَثِقَنَّ بمودَّةِ مَن لا يحِبُّك إلَّا معصومًا!)
[1877] ((تاريخ بغداد)) للخطيب (10/ 145). .
2- عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ الكَريمِ الجيليِّ، قال: (مَن رَأيتَه يَطلُبُ العَثَراتِ على النَّاسِ فاعلَمْ أنَّه معيوبٌ، ومَن ذَكرَ عَوراتِ المُؤمِنينَ فقَد هَتَك سِترَ اللهِ المُرخَى على عِبادِه)
[1878] ((التوبيخ والتنبيه)) لأبي الشيخ (ص: 101). .
3- قال الجاحِظُ: (لا تُكونَنَّ لشيءٍ مِمَّا في يَدِك أشَدَّ ضَنًّا، ولا عليه أشَدَّ حَدَبًا، مِنك بالأخِ الذي قَد بَلوتَه في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فعَرَفتَ مَذاهِبَه، وخَبَرتَ شِيَمَه، وصَحَّ لك غَيبُه، وسلِمَت لك ناحيَتُه؛ فإنَّما هو شَقيقُ رُوحِك، وبابُ الرُّوحِ إلى حياتِك، ومُستَمَدُّ رَأيِك، وتَوأمُ عَقلِك. ولستَ مُنتَفِعًا بعيشٍ مَعَ الوَحدةِ. ولا بُدَّ مِنَ المُؤانَسةِ، وكثرةُ الاستِبدالِ تَهجُمُ بصاحِبِه على المَكروهِ. فإذا صَفا لك أخٌ فكُنْ به أشَدَّ ضَنًّا مِنك بنَفائِسِ أموالِك، ثُمَّ لا يُزهِدَنَّك فيه أن تَرى مِنه خُلُقًا أو خُلُقينِ تَكرَهُهما؛ فإنَّ نَفسَك التي هي أخَصُّ النُّفوسِ بك لا تُعطيك المقادةَ في كُلِّ ما تُريدُ! فكيف بنَفسِ غيرِك! وبحَسْبِك أن يَكونَ لك مِن أخيك أكثَرُه، وقد قالتِ الحُكماءُ: مَن لك بأخيك كُلِّه؟ وأيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟!
ثُمَّ لا يَمنَعْك ذلك مِنَ الاستِكثارِ مِنَ الأصدِقاءِ؛ فإنَّهم جُندٌ مُعَدُّونَ لك، يَنشُرونَ مَحاسِنَك، ويُحاجُّونَ عَنك، ولا يَحمِلنَّك استِطرافُ صَديقٍ ثانٍ على مَلالةٍ للصَّديقِ الأوَّلِ؛ فإنَّ ذلك سَبيلُ أهلِ الجَهالةِ، مَعَ ما فيها مِنَ الدَّناءةِ وسُوءِ التَّدبيرِ، وزُهدِ الأصدِقاءِ جَميعًا في إخائِك. واللهُ يوفِّقُك)
[1879] ((الرسائل)) (1/ 122، 123). .
4- قال الماوَرْديُّ: (كثرةُ العِتابِ سَبَبٌ للقَطيعةِ، واطِّراحُ جَميعِه دَليلٌ على قِلَّةِ الاكتِراثِ بأمرِ الصَّديقِ. وقد قيل: عِلَّةُ المُعاداةِ قِلَّةُ المُبالاةِ. بَل تَتَوسَّطُ حالتا تَركِه وعِتابِه، فيُسامَحُ بالمُتارَكةِ، ويُستَصلَحُ بالمُعاتَبةِ0 فإنَّ المُسامَحةَ والاستِصلاحَ إذا اجتَمَعا لم يَلبَثْ مَعَهما نُفورٌ، ولم يَبقَ مَعَهما وَجدٌ.
وقد قال بَعضُ الحُكَماءِ: لا تُكثِرنَّ مُعاتَبةَ إخوانِك؛ فيَهونَ عليهم سَخَطُك. وقال مَنصورٌ النَّمريُّ:
أقلِلْ عِتابَ مَنِ استَرَبتَ بوُدِّه
ليست تُنالُ مَودَّةٌ بعِتابِ
وقال بَشَّارُ بنُ بُردٍ:
إذا كُنتَ في كُلِّ الأمورِ مُعاتِبًا
صَديقَك لم تَلقَ الذي لا تُعاتِبُه
وإن أنتَ لم تَشرَبْ مِرارًا على القَذى
[1880] القَذى: ما يَسقُطُ في الشَّرابِ مِن ذُبابٍ أو غَيرِه. يُنظر: ((المحكم)) لابن سيده (6/ 495). ظَمِئتَ وأيُّ النَّاسِ تَصفو مَشارِبُه
فعِشْ واحِدًا أو صِلْ أخاك فإنَّه
مُقارِفُ ذَنبٍ مَرَّةً ومُجانِبُه
ثُمَّ إنَّ مِن حَقِّ الإخوانِ أن تَغفِرَ هَفوتَهم، وتَستُرَ زَلَّتَهم؛ لأنَّ مَن رامَ بَريئًا مِنَ الهَفواتِ، سَليمًا مِنَ الزَّلَّاتِ؛ رامَ أمرًا مُعوِزًا، واقتَرَحَ وصفًا مُعجِزًا. وقد قالتِ الحُكماءُ: أيُّ عالمٍ لا يَهفو
[1881] الهَفوةُ: الزَّلَّةُ، وقد هَفا يَهفو هَفوةً. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (6/ 236)، ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2535). ، وأيُّ صارِمٍ لا يَنبو
[1882] سَيفٌ صارِمٌ: أي قاطِعٌ ذو صَرامةٍ. ونَبا السَّيفُ عنِ الضَّريبةِ: إذا لم يَقطَعْ. يُنظر: ((العين)) للخليل (7/ 121) و(8/ 379). ، وأيُّ جَوادٍ لا يَكبو
[1883] كَبَا يكبو كَبْوًا: إذا عَثَر. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 378). ؟!
وقالوا: مَن حاول صَديقًا يَأمَنُ زَلَّتَه ويَدومُ اغتِباطُه به، كان كضالِّ الطَّريقِ الذي لا يَزدادُ لنَفسِه إتعابًا إلَّا ازدادَ مِن غايَتِه بُعدًا. وقيل لخالِدِ بنِ صَفوانَ: أيُّ إخوانِك أحَبُّ إليك؟ قال: مَن غَفرَ زَلَلي، وقَطَعَ عِلَلي، وبَلَّغَني أمَلي.
وحَكى الأصمَعيُّ عن بَعضِ الأعرابِ أنَّه قال: تَناسَ مَساوِئَ الإخوانِ يَدُمْ لك وُدُّهم.
ووصَّى بَعضُ الأدَباءِ أخًا له فقال: كُنْ للوُدِّ حافِظًا وإن لم تَجِدْ مُحافِظًا، وللخِلِّ واصِلًا وإن لم تَجِدْ مُواصِلًا.
حُكيَ عن بنتِ عبدِ اللهِ بنِ مُطيعٍ أنَّها قالت لزَوجِها طَلحةَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ الزُّهريِّ، وكان أجودَ قُريشٍ في زَمانِه: ما رَأيتُ قَومًا ألأمَ مِن إخوانِك! قال مَهْ
[1884] مَهْ: بفَتحِ ميمٍ وسكونِ هاءٍ: اسمُ فِعلٍ بمعنى اكفُفْ وامتَنِعْ عن ذلك، فهي كَلِمةُ زَجرٍ، قيل: أصلُه: ما هذا، ثمَّ حُذِف استِخفافًا، وتقالُ مكرَّرةً ومُفردةً. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 65)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). ! ولمَ ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسَرتَ لزِموك، وإذا أعسَرتَ تَرَكوك! قال: هذا واللَّهِ مِن كرَمِهم؛ يَأتونَنا في حالِ القوَّةِ بنا عليهم، ويَترُكونَنا في حالِ الضَّعفِ بنا عَنهم. فانظُرْ كيف تَأوَّل بكرَمِه هذا التَّأويلَ حتَّى جَعَل قَبيحَ فِعلِهم حَسَنًا، وظاهِرَ غَدرِهم وفاءً؟! وهذا مَحضُ الكرَمِ ولُبابُ الفَضلِ، وبمِثلِ هذا يَلزَمُ ذَوي الفَضلِ أن يتأوَّلوا الهَفَواتِ مِن إخوانِهم.
والدَّاعي إلى هذا التَّأويلِ شَيئانِ: التَّغافُلُ الحادِثُ عَنِ الفِطنةِ، والتَّألُّفُ الصَّادِرُ عَنِ الوفاءِ. وقال بَعضُ الحُكماءِ: وجَدتُ أكثَرَ أمورِ الدُّنيا لا تَجوزُ إلَّا بالتَّغافُلِ. وقال أكثَمُ بنُ صَيفيٍّ: مَن شَدَّدَ نَفَّرَ، ومَن تَراخى تَألَّف، والشَّرَفُ في التَّغافُلِ. وقال شَبيبُ بنُ شَيبةَ الأديبُ: العاقِلُ هو الفَطِنُ المُتَغافِلُ.
وقال الطَّائيُّ:
ليس الغَبيُّ بسيِّدٍ في قَومِه
لكِنَّ سيِّدَ قَومِه المُتَغابي
[1885] التَّغابي: بمَنزِلةِ التَّغافُلِ، وان لم يَكُن غافِلًا، والغَباوةُ الغَفلةُ. يُنظر: ((الزاهر)) لأبي منصور الأزهري (ص: 274)، ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2443). وقال أبو العَتاهيةِ:
إنَّ في صِحَّةِ الإخاءِ مِنَ النَّاسِ
وفي خَلَّةِ الوَفاءِ لقِلَّه
فالبَسِ النَّاسَ ما استطَعْتَ على
النَّقصِ وإلَّا لم تستَقِمْ لك خُلَّه
عِشْ وَحيدًا إن كنتَ لا تقبَلُ العُذرَ
وإن كنتَ لا تجاوِزْ زَلَّه
مِن أبٍ واحِدٍ وأمٍّ خُلِقْنا
غيرَ أنَّا في المالِ أولادُ عَلَّه)
[1886] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 178-180). .
5- وقال الماوَرْديُّ أيضًا: (أمَّا العَفوُ عَنِ الهَفَواتِ فلأنَّه لا مُبَرَّأَ مِن سَهوٍ وزَلَل، ولا سَليمَ مِن نَقصٍ أو خَلَل، ومَن رامَ سَليمًا مِن هَفوة، والتَمَسَ بَريئًا مِن نَبْوة؛ فقَد تَعَدَّى على الدَّهرِ بشَطَطِه، وخادَعَ نَفسَه بغَلَطِه، وكان مِن وُجودِ بُغيَتِه بَعيدًا، وصارَ باقتِراحِه فردًا وحيدًا. وقد قالتِ الحُكماءُ: لا صَديقَ لمَن أرادَ صَديقًا لا عَيبَ فيه. وقيل لأنوشِروانَ: هل مِن أحَدٍ لا عيبَ فيه؟ قال: مَن لا مَوتَ له.
وإذا كان الدَّهرُ لا يوجِدُه ما طَلبَ، ولا يُنيلُه ما أحَبَّ، وكان الوحيدُ في النَّاسِ مَرفوضًا قَصيًّا، والمُنقَطِعُ عَنهم وَحشيًّا، لزِمَه مُساعَدةُ زَمانِه في القَضاءِ، ومُياسَرةُ إخوانِه في الصَّفحِ والإغضاءِ.
وقال بَعضُ الأدَباءِ: ثَلاثُ خِصالٍ لا تَجتَمِعُ إلَّا في كِريمٍ: حُسنُ المَحضَرِ، واحتِمالُ الزَّلَّةِ، وقِلَّةُ المَلالِ)
[1887] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 336، 337). .
6- وقال الغزاليُّ في حُقوقِ الأخوَّةِ والصُّحبةِ: (الحَقُّ الثَّالِثُ: في اللِّسانِ؛ بالسُّكوتِ مَرَّةً، وبالنُّطقِ أخرى؛ أمَّا السُّكوتُ فهو أن يَسكُتَ عن ذِكرِ عُيوبِه في غَيبَتِه وحَضرَتِه، بَل يَتَجاهلُ عَنه ويَسكُتُ عَنِ الرَّدِّ عليه فيما يَتَكلَّمُ به، ولا يُماريه ولا يُناقِشُه، وأن يَسكُتَ عَنِ التَّجَسُّسِ والسُّؤالِ عن أحوالِه، وإذا رَآه في طَريقٍ أو حاجةٍ لم يُفاتِحْه بذِكرِ غَرَضِه مِن مَصدَرِه ومَورِدِه، ولا يَسألُه عَنه؛ فرُبَّما يَثقُلُ عليه ذِكرُه أو يَحتاجُ إلى أن يَكذِبَ فيه، ولْيسكُتْ عن أسرارِه التي بَثَّها إليه، ولا يَبُثَّها إلى غيرِه البَتَّةَ ولا إلى أخَصِّ أصدِقائِه، ولا يَكشِفْ شيئًا مِنها ولو بَعدَ القَطيعةِ والوحشةِ؛ فإنَّ ذلك مِن لُؤمِ الطَّبعِ، وخُبثِ الباطِنِ، وأن يَسكُتَ عَنِ القَدحِ في أحبابِه وأهلِه ووَلَدِه، وأن يَسكُتَ عن حِكايةِ قَدحِ غَيرِه فيه؛ فإنَّ الذي سَبَّك مَن بَلَّغَك، والتَّأذِّي يَحصُلُ أوَّلًا مِنَ المُبَلِّغِ، ثُمَّ مِنَ القائِلِ. نَعَم، لا يَنبَغي أن يُخفيَ ما يَسمَعُ مِنَ الثَّناءِ عليه؛ فإنَّ السُّرورَ به أوَّلًا يَحصُلُ مِنَ المُبَلِّغِ للمَدحِ، ثُمَّ مِنَ القائِلِ، وإخفاءُ ذلك مِنَ الحَسَدِ.
وبالجُملةِ، فليَسكُتْ عن كُلِّ كلامٍ يَكرَهُه جُملةً وتَفصيلًا، إلَّا إذا وجَبَ عليه النُّطقُ في أمرٍ بمَعروفٍ أو نَهيٍ عن مُنكرٍ، ولم يَجِدْ رُخصةً في السُّكوتِ، فإذ ذاك لا يُبالي بكراهَتِه؛ فإنَّ ذلك إحسانٌ إليه في التَّحقيقِ، وإن كان يَظُنُّ أنَّها إساءةٌ في الظَّاهرِ.
أمَّا ذِكرُ مَساويه وعُيوبِه ومَساوي أهلِه فهو مِنَ الغِيبةِ، وذلك حَرامٌ في حَقِّ كُلِّ مُسلمٍ، ويَزجُرُك عَنه أمرانِ:
أحَدُهما: أن تُطالِعَ أحوالَ نَفسِك، فإن وَجَدتَ فيها شيئًا واحِدًا مَذمومًا فهَوِّنْ على نَفسِك ما تَراه مِن أخيك، وقَدِّرْ أنَّه عاجِزٌ عن قَهرِ نَفسِه في تلك الخَصلةِ الواحِدةِ، كما أنَّك عاجِزٌ عَمَّا أنتَ مُبتَلًى به.
ولا تَستَثقِلْه بخَصلةٍ واحِدةٍ مَذمومةٍ، فأيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟ وكُلُّ ما لا تُصادِفُه مِن نَفسِك في حَقِّ اللهِ فلا تَنتَظِرْه مِن أخيك في حَقِّ نَفسِك؛ فليس حَقُّك عليه بأكثَرَ مِن حَقِّ اللهِ عليك.
والأمرُ الثَّاني: أنَّك تَعلَمُ أنَّك لو طَلبتَ مُنَزَّهًا عن كُلِّ عيبٍ اعتَزَلتَ عَنِ الخَلقِ كافَّةً، ولن تَجِدَ مَن تُصاحِبُه أصلًا، فما مِن أحَدٍ مِنَ النَّاسِ إلَّا وله مَحاسِنُ ومَساوٍ، فإذا غَلبَتِ المَحاسِنُ المُساويَ فهو الغايةُ والمُنتَهى، فالمُؤمِنُ الكريمُ أبَدًا يُحضِرُ في نَفسِه مَحاسِنَ أخيه؛ ليَنبَعِثَ مِن قَلبِه التَّوقيرُ والوُدُّ والاحتِرامُ، وأمَّا المُنافِقُ اللَّئيمُ فإنَّه أبَدًا يُلاحِظُ المَساويَ والعُيوبَ؛ قال ابنُ المُبارَكِ: المُؤمِنُ يَطلُبُ المَعاذيرَ، والمُنافِقُ يَطلُبُ العَثَراتِ. وقال الفُضَيلُ: الفُتوَّةُ العَفوُ عن زَلَّاتِ الإخوانِ.
وما مِن شَخصٍ إلَّا ويُمكِنُ تَحسينُ حالِه بخِصالٍ فيه، ويُمكِنُ تَقبيحُه أيضًا؛ فمَن كانت طاعَتُه أغلبَ مِن مَعاصيه فهو عَدلٌ، وإذا جُعِل مِثلُ هذا عَدلًا في حَقِّ اللهِ فبأن تَراه عَدلًا في حَقِّ نَفسِك ومُقتَضى أخوَّتِك أَولى.
وكما يَجِبُ عليك السُّكوتُ بلسانِك عن مَساويه يَجِبُ عليك السُّكوتُ بقَلبِك، وذلك بتَركِ إساءةِ الظَّنِّ؛ فسوءُ الظَّنِّ غِيبةٌ بالقَلبِ، وهو مَنهيٌّ عَنه أيضًا، وحَدُّه: أن لا تَحمِلَ فِعلَه على وَجهٍ فاسِدٍ ما أمكنَ أن تَحمِلَه على وجهٍ حَسَنٍ)
[1888] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 176، 177). .
7- قال الضِّياءُ بنُ الأثيرِ: (ليس الصَّديقُ مَن عَدَّ سَقَطاتِ قَرينِه، وجازاه بغَثِّه وسَمينِه، بَل الصَّديقُ مَن ماشى أخاه على عَرَجِه، واستَقامَ له على عِوَجِه، فذلك الذي إن رَأى سيِّئةً وطِئَها بالقَدَم، وإن رَأى حَسَنةً رَفعَها على عَلَم)
[1889] ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) (1/ 125). .