واحدٌ وعشرونَ: مُراعاةُ حُقوقِهم في أهليهم
يَنبَغي مُراعاةُ حَقِّ الأخِ والصَّديقِ في أهلِه المُتَّصِلينَ به في المَشهَدِ والمَغيبِ، وفي حالِ الحياةِ وبَعدَ المَماتِ
[1916] يُنظر: ((لطائف الإشارات)) للقشيري (3/ 441). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ، والمُؤمِنُ أخو المُؤمِنِ، يَكُفُّ عليه ضيعَتَه، ويَحوطُه مِن ورائِه)) [1917] أخرجه أبو داود (4918) واللفظ له، والبزار (8109)، والبيهقي (17126) حَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4918)، وحَسَّن إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/227)، وابن حجر في ((بلوغ المرام)) (451)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي دواد)) (4918) .
قال ابنُ رَسلانَ: (المُؤمِنُ المُؤاخى في اللهِ تعالى "أخو المُؤمِنِ"، أي: مِثلُ أخيه في القَرابةِ، وهو الأخُ مِنَ الأبَوينِ، أو مِنَ الأبِ، أو مِنَ الرَّضاعِ. ومَعنى الحَديثِ: أنَّ المُؤمِنَ يَنبَغي أن يُحافِظَ على المُؤمِنِ مُحافظَتَه على أخيه شَقيقِه، فيُسَرَّ بسُرورِه، ويَهتَمَّ لهَمِّه، ويَعُدَّ جَميعَ أحوالِه كأخيه المُناسِبِ. "يَكُفُّ عليه"، أي: يَجمَعُ عليه مَعيشَتَه ويَضُمُّها إليه "ضَيعَتَه" بفتحِ الضَّادِ المُعجَمةِ وسُكونِ المُثَنَّاةِ تَحتَ، وهي ما يَكونُ مِنه مَعاشُه مِن صِناعةٍ أو تِجارةٍ أو زِراعةٍ ونَحوِ ذلك. "ويحوطُه"، أي: يَحفظُه ويَصونُه ويَذُبُّ عَنه، ويُحدِقُ به "مِن ورائِه"، أي: مِن جَميعِ جَوانِبِه، ويَتَوفَّرُ مَصالِحَه في حياتِه وأهلِه مِن بَعدِه.
وكان في السَّلَفِ مَن يَتَفقَّدُ عيالَ أخيه وأولادَه بَعدَ مَوتِه أربَعينَ سَنةً، يَقومُ لحاجاتِهم ومَصالحِهم، ويَتَرَدَّدُ كُلَّ يَومٍ إليهم، فكانوا لا يَفقِدونَ مِنَ الميِّتِ إلَّا عينَه، وكان الواحِدُ مِنهم يَتَرَدَّدُ إلى بابِ أخيه في غَيبَتِه وحُضورِه، ويَسألُ فيَقولُ: هل لكُم زيتٌ؟ هل لكُم مِلحٌ؟ هل لكمَ حاجةٌ؟ فيَقومُ بها مِن حيثُ لا يَعرِفُ أخوه)
[1918] ((شرح سنن أبي داود)) (18/ 678، 679). .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت:
((جاءت عجوزٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عندي، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من أنتِ؟ قالت: أنا جثَّامةُ المُزَنيَّةُ، فقال: بل أنتِ حسَّانةُ المُزَنيَّةُ. كيف أنتم؟ كيف حالُكم؟ كيف كُنتُم بَعدَنا؟ قالت: بخيرٍ، بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ! فلمَّا خرجَت قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، تُقبِلُ على هذه العجوزِ هذا الإقبالَ؟! فقال: إنَّها كانت تأتينا زَمَنَ خديجةَ، وإنَّ حُسنَ العَهدِ من الإيمانِ)) [1919] أخرجه ابن الأعرابي في ((المعجم)) (774)، والحاكم (40) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9122). صحَّحه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/424). .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((ما غِرتُ على أحَدٍ مِن نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرتُ على خَديجةَ، وما رَأيتُها! ولكِنْ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ ذِكرَها، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُها أعضاءً، ثُمَّ يَبعَثُها في صدائِقِ خَديجةَ...)) الحَديثَ
[1920] أخرجه البخاري (3818) واللفظ له، ومسلم (2435). .
حالُ السَّلفِ في مُراعاةِ حقوقِ إخوانِهم في أهْليهم1- قال أبو طالبٍ المَكِّيُّ: (قال يَحيى بنُ مُعاذٍ رَحِمَه اللهُ: ثَلاثةٌ عَزيزةٌ في وَقتِنا هذا، ذَكَر مِنها: حُسنُ الإخاءِ مَعَ الوفاءِ.
يَعني بالوفاءِ أن يَكونَ له في غَيبَتِه ومِن حيثُ لا يَعلَمُ ولا يَبلُغُه مِثلَ ما كان له في شُهودِه ومُعاشَرَتِه، ويَكونَ له بَعدَ مَوتِه ولأهلِه مِن بَعدِه كما كان له في حياتِه، فهذا هو الوَفاءُ، وهو الذي شَرَطَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُؤاخاةِ في قَولِه:
((اجتَمَعا على ذلك أو تَفرَّقا)) [1921] أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031) من مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: ((ورَجُلانِ تَحابَّا في اللهِ اجتَمَعا عليه وتَفرَّقا عليه)). ، وجَعَل جَزاءَه إظلالَ العَرشِ يَومَ القيامةِ.
وكذلك قال بَعضُ الأدَباءِ: قَليلُ الوفاءِ بَعدَ الوفاةِ خيرٌ مِن كثيرِه في حالِ الحياةِ.
وكذلك كان السَّلفُ فيما ذَكرَه الحَسَنُ وغيرُه، قالوا: كان أحَدُهم يَخلُفُ أخاه في عِيالِه بَعدَ مَوتِه أربَعينَ سَنةً
[1922] رواه ابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (310) عَنِ الحَسَنِ، قال: (إن كان الرَّجُلُ ليَخلُفُ أخاه في أهلِه بَعدَ مَوتِه أربَعينَ سَنةً). ، لا يَفقِدونَ إلَّا وَجهَه)
[1923] ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 365، 366). .
2- عَنِ الصَّلتِ بن بسِطامٍ التَّيميِّ، عن أبيه، قال: (رَأيتُ طَلحةَ بنَ مُصَرِّفٍ يَخرُجُ مِن زُقاقٍ ضيِّقٍ في التَّيمِ، فقُلتُ: من أينَ يَجيءُ طَلحةُ؟ قالوا: يَأتي أمَّ عُمارةَ بنِ عُميرٍ يَبَرُّها بالنَّفقةِ والكِسوةِ والصِّلةِ، قال: وذاك بَعدَ مَوتِ عُمارةَ ببِضعَ عَشرةَ سَنةً! قال: وكانت أمُّ عُمارةَ أعجَميَّةً)
[1924] رواه ابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (312). .
3- عن هُرَيمِ بنِ سُفيانَ، قال: (كان عَمرُو بنُ قَيسٍ المُلائيُّ يَمُرُّ بنا في كُلِّ جُمعةٍ ومَعَه هَديَّةٌ قَد حَمَلها، يَأتي بها مَنزِلَ مَنصورِ بنِ المُعتَمِرِ، قال: وذاك بَعدَ مَوتِ مَنصورٍ بما شاءَ اللهُ، فلم يَزَلْ على ذلك حتَّى ماتَ، قال: فبَلغَني أنَّ أهلَه كانت تَعاهَدُهم بنَحوٍ من ذلك بَعدَما ماتَ عَمرٌو)
[1925] رواه ابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (311). .