موسوعة الآداب الشرعية

اثنانِ وعِشرونَ: أن يَكتُمَ سِرَّهم وألَّا يُفشيَه


مِن حُقوقِ الأُخوَّةِ والصُّحبةِ وآدابِها المُتَعَيِّنةِ: كِتمانُ الأسرارِ، وعَدَمُ إفشائِها [1926] قال أبو عَبدِ الرَّحمَنِ السُّلَميُّ في آدابِ الصُّحبةِ: (مِن آدابِها: حِفظُ أسرارِ الإخوانِ... قال بَعضُ الحُكَماءِ: "قُلوبُ الأحرارِ قُبورُ الأسرارِ". وسَمِعتُ مُحَمَّدَ بنَ طاهرٍ الوزيريَّ يَقولُ: سَمِعتُ أبا عليٍّ الحَكيمَ يَقولُ: سَمِعتُ أبي يَقولُ: "أفشى رَجُلٌ إلى صَديقٍ له سِرًّا مِن أسرارِه، فلمَّا فرَغَ قال: حَفِظتَه. قال: لا، بَل نَسيتُه". أنشَدَني مُحَمَّدُ بنُ طاهرٍ، قال: أنشَدَني المطرفي لبَعضِهم: ليسَ الكَريمُ الذي إن زَلَّ صاحِبُه ... بَثَّ الذي كان مِن أسرارِه عَلِما إنَّ الكَريمَ الذي تبقى مَودَّتُه ... ويَحفظُ السِّرَّ إن صافى وإن صَرمَا). ((آداب الصحبة)) (ص: 70، 71). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ:
1- قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] ، أي: قائِمونَ بالحِفظِ والإصلاحِ، وأصلُ (رعي): يَدُلُّ على مُراقَبةٍ وحِفظٍ، وهذا عامٌّ في جَميعِ الأماناتِ التي هيَ حَقٌّ للَّهِ، والتي هيَ حَقٌّ للعِبادِ؛ فجَميعُ ما أوجَبَه اللهُ على عَبدِه أمانةٌ على العَبدِ حِفظُها بالقيامِ التَّامِّ بها، وكذلك يَدخُلُ في ذلك أماناتُ الآدَميِّينَ، كَأماناتِ الأموالِ والأسرارِ ونَحوِهما؛ فعلى العَبدِ مُراعاةُ الأمرَينِ، وأداءُ الأمانَتَينِ، وكذلك العَهدُ يَشمَلُ العَهدَ الذي بَينَهم وبَينَ رَبِّهم، والذي بَينَهم وبَينَ العِبادِ، وهيَ الالتِزاماتُ والعُقودُ التي يَعقِدُها العَبدُ؛ فعليه مُراعاتُها والوفاءُ بها، ويَحرُمُ عليه التَّفريطُ فيها وإهمالُها [1927] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (17/ 13)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 408)، ((المفردات)) للراغب (ص: 357)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 547). .
2- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] .
قال الرَّازيُّ: (يَدخُلُ فيه جَميعُ أنواعِ الأماناتِ، واعلَمْ أنَّ مُعامَلةَ الإنسانِ إمَّا أن تَكونَ مَعَ رَبِّه أو مَعَ سائِرِ العِبادِ، أو مَعَ نَفسِه، ولا بُدَّ مِن رِعايةِ الأمانةِ في جَميعِ هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ.
أمَّا رِعايةُ الأمانةِ مَعَ الرَّبِّ: فهيَ في فِعلِ المَأموراتِ وتَركِ المَنهيَّاتِ، وهذا بحرٌ لا ساحِلَ له...
وأمَّا القِسمُ الثَّاني: وهو رِعايةُ الأمانةِ مَعَ سائِرِ الخَلقِ، فيَدخُلُ فيها رَدُّ الودائِعِ، ويَدخُلُ فيه تَركُ التَّطفيفِ في الكَيلِ والوزنِ، ويَدخُلُ فيه أن لا يُفشيَ على النَّاسِ عُيوبَهم... ويَدخُلُ فيه أمانةُ الزَّوجةِ للزَّوجِ في حِفظِ فَرجِها، وفي أن لا تُلحِقَ بالزَّوجِ ولدًا يولَدُ مِن غَيرِه. وفي إخبارِها عنِ انقِضاءِ عِدَّتِها.
وأمَّا القِسمُ الثَّالثُ: وهو أمانةُ الإنسانِ مَعَ نَفسِه، فهو أن لا يَختارَ لنَفسِه إلَّا ما هو الأنفعُ والأصلحُ له في الدِّينِ والدُّنيا، وأن لا يُقدِمَ بسَبَبِ الشَّهوةِ والغَضَبِ على ما يَضُرُّه في الآخِرةِ؛ ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعيَّتِه» [1928] أخرجه البخاري (5200)، ومسلم (1829) مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
فقَولُه: يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا يَدخُلُ فيه الكُلُّ) [1929] ((مفاتيح الغيب)) (10/ 109). .
والسِّرُّ أمانةٌ عِندَ المُحَدَّثِ أودَعَه إيَّاها، فإن حَدَّث بها غَيرَه فقد خالف أمرَ اللهِ؛ حَيثُ أدَّى الأمانةَ إلى غَيرِ أهلِها، فيَكونُ مِنَ الظَّالِمينَ، فيَجِبُ عليه كَتمُها [1930] يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 329). .
3-قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
قَولُه تعالى: وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ أي: ولا تَخونوا أماناتِكُم فيما بينَكُم وبينَ أولياءِ أمورِكُم مِنَ الشُّؤونِ السِّياسيَّةِ، ولا سيَّما الحَربيَّةِ، وفيما بينَكُم بَعضِكُم مَعَ بَعضٍ مِنَ المُعامَلاتِ الماليَّةِ وغيرِها حتَّى الاجتِماعيَّةِ والأدَبيَّةِ؛ فإفشاءُ السِّرِّ خيانةٌ مُحَرَّمةٌ، ويَكفي في العِلمِ بكونِه سِرًّا القَرينةُ القَوليَّةُ، كقَولِ مُحَدِّثِك: هل يَسمَعُنا أحَدٌ؟ أو للفِعليَّةِ، كالالتِفاتِ لرُؤيةِ مَن عَساه يَجيءُ.
والخيانةُ مِن صِفاتِ المُنافِقينَ، والأمانةُ مِن صِفاتِ المُؤمِنينَ، ورَوى الشّيخانِ وغيرُهما عن أبي هُرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذَب، وإذا وعَدَ أخلَف، وإذا اؤتُمِنَ خانَ)) [1931] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59). ، زادَ مُسلِمٌ: ((وإن صامَ وصَلَّى، وزَعَمَ أنَّه مُسلِمٌ)) [1932] أخرجه مسلم (59). . وقد ورَدَ في الأحاديثِ إطلاقُ الأمانةِ على الطَّاعةِ والعِبادةِ والوديعةِ والثِّقةِ والأمانِ، وليس المُرادُ بهذا الحَصرَ، بَل كُلُّ ما يَجِبُ حِفظُه فهو أمانةٌ، وكُلُّ حَقٍّ مادِّيٍّ أو مَعنَويٍّ يَجِبُ عليك أداؤُه إلى أهلِه فهو أمانةٌ؛ قال اللهُ تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283] ، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] .
والأمانةُ مِنَ الصِّفاتِ الدِّينيَّةِ التي قامَ عليها بناءُ المَدَنيَّةِ، وبها حِفظُ العُمرانِ، وإصلاحُ حالِ الأمَّةِ، ولا بَقاءَ لدَولةٍ بدونِها؛ لأنَّ عليها مَدارَ الثِّقةِ في جَميعِ المُعامَلاتِ. وناهيك بما عَظَّمَ اللهُ مِن أمرِ الأمانةِ في قَولِه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] .
وأمَّا قَولُه: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] ، فمَعناه: والحالُ أنَّكُم تَعلمونَ مَفاسِدَ الخيانةِ، وتَحريمَ اللهِ تعالى إيَّاها، وسوءَ عاقِبةِ تلك المَفاسِدِ في الدُّنيا والآخِرةِ، أو تَعلمونَ أنَّ ما فعَلتُموه خيانةٌ؛ لظُهورِه، وأمَّا ما خَفِي عَنكُم حُكمُه فالجَهلُ له عُذرٌ إذا لم يَكُنْ مِمَّا عُلمَ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، أو مِمَّا يُعلَمُ ببَداهةِ العَقلِ، أوِ استِفتاءِ القَلبِ [1933] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/ 534-536). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذَب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ)) [1934] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59). .
2- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصلةٌ مِنهنَّ كانت فيه خَصلةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها: إذا اؤتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كذَب، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَرَ)) [1935] أخرجه البخاري (34) واللَّفظ له، ومسلم (58). .
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا اؤتُمِنَ خانَ)) يَعني: إذا ائتَمَنَه النَّاسُ على أموالِهم أو على أسرارِهم أو على أولادِهم، أو على أيِّ شيءٍ مِن هذه الأشياءِ؛ فإنَّه يَخونُ، والعياذُ باللهِ [1936] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 48). .
كِتمانُ السِّرِّ عِندَ الصَّحابةِ:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ حينَ تَأيَّمَت حَفصةُ بنتُ عُمَرُ من خُنَيسِ بنِ حُذافةَ السَّهميِّ، وكان من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد شَهِدَ بَدرًا، توفِّيَ بالمدينةِ، قال عُمَرُ: ((فلَقِيتُ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ فعَرَضتُ عليه حَفصةَ، فقُلتُ: إنْ شِئتَ أنكَحتُك حَفصةَ بنتَ عُمَرَ، قال: سأنظُرُ في أمري، فلَبِثتُ لياليَ، فقال: قد بدا لي ألَّا أتزوَّجَ يومي هذا! قال عُمَرُ: فلَقِيتُ أبا بكرٍ، فقُلتُ: إنْ شِئتَ أنكَحتُك حَفصةَ بنتَ عُمَرَ، فصَمَت أبو بكرٍ فلم يرجِعْ إليَّ شَيئًا! فكُنتُ عليه أوجَدَ مِنِّي على عُثمانَ، فلَبِثتُ لياليَ ثمَّ خطَبَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنكَحتُها إيَّاه، فلَقِيَني أبو بكرٍ فقال: لعَلَّك وجَدْتَ عَلَيَّ حينَ عَرَضتَ عَلَيَّ حَفصةَ فلم أرجِعْ إليك؟ قُلتُ: نعَم، قال: فإنَّه لم يمنَعْني أن أرجِعَ إليك فيما عَرَضْتَ إلَّا أنِّي قد عَلِمتُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد ذكَرَها، فلم أكُنْ لأُفشيَ سِرَّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو تَرَكها لقَبِلْتُها)) [1937] أخرجه البخاري (4005). .
2-عن ثابتٍ، عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى عليَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا ألعَبُ مَعَ الغِلمانِ. قال: فسَلَّمَ علينا، فبَعَثَني إلى حاجةٍ، فأبطَأتُ على أُمِّي، فلمَّا جِئتُ قالت: ما حَبَسَك؟ قُلتُ: بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحاجةٍ. قالت: ما حاجَتُه؟ قُلتُ: إنَّها سِرٌّ. قالت: لا تُحَدِّثنَّ بسِرِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَدًا. قال أنَسٌ: واللهِ لو حَدَّثتُ به أحَدًا لحَدَّثتُك يا ثابتُ)) [1938] أخرجه مسلم (2482). .
3-عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أردَفني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَلفَه ذاتَ يَومٍ، فأسَرَّ إليَّ حَديثًا لا أُحَدِّثُ به أحَدًا مِنَ النَّاسِ...)) [1939] أخرجه أبو داود (2549) واللفظ له، وأحمد (1745). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (1412)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2549)، والوادعي على شرط مسلم في ((صحيح دلائل النبوة)) (559)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (2485)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/189)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1745). والحَديثُ أصلُه في صحيح مسلم (342) مُختَصَرًا. .
وفي رِوايةٍ عنِ الحَسَنِ بنِ سَعدٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ، قال: ((رَكِب رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَغلتَه، وأردَفَني خَلفَه... ثُمَّ تَوضَّأ، ثُمَّ جاءَ والماءُ يَقطُرُ مِن لحيَتِه على صَدرِه، فأسَرَّ إليَّ شَيئًا لا أُحَدِّثُ به أحَدًا. فحَرَّجنا عليه أن يُحَدِّثَنا، فقال: لا أُفشي على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِرَّه حتَّى ألقى اللهَ) [1940] أخرجها أحمد (1754)، والضياء في ((الأحاديث المُختارة)) (135). صَحَّحها الوادِعي على شرط مسلم في ((صحيح دلائل النبوة)) (116)، وصَحَّحَ إسنادها أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/195)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (1754). .

انظر أيضا: