موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: الإحسانُ إليه


مِنَ الأدَبِ مَعَ اليَتيمِ: الإحسانُ إليه بجَميعِ وُجوهِ الإحسانِ القَوليَّةِ والفِعليَّةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ:
1- قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [النساء: 36] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يأمُرُ تَبارَك وتعالى بعِبادَتِه وحدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّه هو الخالقُ الرَّازِقُ المُنعِمُ المُتَفضِّلُ على خَلقِه في جَميعِ الآناتِ والحالاتِ؛ فهو المُستَحِقُّ مِنهم أن يوحِّدوه، ولا يُشرِكوا به شيئًا مِن مَخلوقاتِه.
ثُمَّ أوصَى بالإحسانِ إلى الوالِدَينِ؛ فإنَّ اللَّهَ سُبحانَه جَعَلَهما سَبَبًا لخُروجِك مِنَ العَدَمِ إلى الوُجودِ، وكثيرًا ما يَقرِنُ اللَّهُ سُبحانَه بينَ عِبادَتِه والإحسانِ إلى الوالِدَينِ.
ثُمَّ عَطَف على الإحسانِ إلى الوالِدَينِ الإحسانَ إلى القَراباتِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ.
ثُمَّ قال: وَالْيَتَامَى؛ وذلك لأنَّهم قَد فقَدوا مَن يَقومُ بمَصالِحِهم، ومَن يُنفِقُ عليهم؛ فأمَر اللهُ بالإحسانِ إليهم والحُنوِّ عليهم) [2114] ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 297، 298). وقال الماتُريديُّ: (الأمرُ بالإحسانِ إلى اليَتامى يَحتَمِلُ وجهَينِ: يَحتَمِلُ لِما ليس لهم والِدٌ يَقومُ بكِفايَتِهم على ما يَقومُ له والِدُه. وأمَرَ بذلك لِما يَبَرُّ الرَّجُلُ وَلَدَ آخَرَ لمَكانِ والِدَيه، فإذا ماتَ والدُه يَمتَنِعُ عن ذلك، فأمَرَ أن يُحسِنوا إليه بَعدَ مَوتِ والدِه على ما كانوا يُحسِنونَ في حياتِه؛ لأنَّه في ذلك الوقتِ أحوجُ إليه؛ إذ لا شَفقةَ لأحَدٍ عليه، وشَفَقةُ والدِه مَعدومةٌ، واللهُ أعلمُ). ((تأويلات أهل السنة)) (3/ 172). وقال اليافِعيُّ: (الإحسانُ إليهم بإطعامِهم، وإكرامِهم في مَصالِحِهم، وقَضاءِ حَوائِجِهم. والمرأةُ الأرمَلةُ هي مِن جُملةِ المَساكينِ الذين يَستَحِقُّونَ الإكرامَ كالأيتامِ). ((الترغيب والترهيب)) (ص: 122). .
2- قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 83] .
والتَّعَبُّدُ بهذه الخِصالِ حاصِلٌ لنا في شَرعِنا، وأوَّلُها التَّوحيدُ، وهو إفرادُ اللَّهِ بالعِبادةِ والطَّاعةِ، ثُمَّ رَدَّك إلى مُراعاةِ حَقِّ مِثلِك؛ إظهارًا أنَّ مَن لا يَصلُحُ لصُحبةِ شَخصٍ مِثلِه، كيف يَقومُ بحَقِّ مَعبودٍ ليس كمِثلِه شيءٌ؟! فإذا كانتِ التَّربيةُ المُتَضَمِّنةُ حُقوقَ الوالِدَينِ توجِبُ عَظيمَ هذا الحَقِّ، فما حَقُّ تَربيةِ سيِّدِك لك؟ كيف تُؤَدِّي شُكرَه؟ ثُمَّ ذَكرَ عُمومَ رَحمَتِه لذي القُربى واليَتامى والمَساكينِ، وأن يَقولَ للنَّاسِ حُسنًا، وحَقيقةُ العُبوديَّةِ الصِّدقُ مَعَ الحَقِّ، والرِّفقُ مَعَ الخَلقِ.
والأسبابُ المُتَقَرَّبُ بها إلى اللهِ تعالى: اعتِقادٌ وقَولٌ وعَمَلٌ ونيَّةٌ؛ فنَبَّهَ بقَولِه: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ على مَقامِ التَّوحيدِ، واعتِقادِ ما يَجِبُ له على عِبادِه مِنَ الطَّاعاتِ والخُضوعِ مُنفرِدًا بذلك، وماليَّةٌ مَحضةٌ، وهي: الزَّكاةُ، وبَدَنيَّةٌ مَحضةٌ، وهي: الصَّلاةُ، وبَدَنيَّةٌ وماليَّةٌ، وهو: برُّ الوالِدَينِ والإحسانُ إلى اليَتيمِ والمِسكينِ [2115] يُنظر: ((البحر المحيط)) لأبي حيان (1/ 464، 465). .
وجاءَتِ الوصيَّةُ باليَتيمِ بَعدَ رِعايةِ حُقوقِ الأقارِبِ؛ وذلك لأنَّه لصِغَرِه لا يَنتَفِعُ به، وليُتمِه وخُلوِّه عَمَّن يَقومُ به يَحتاجُ إلى مَن يَنفَعُه، والإنسانُ قَلَّما يَرغَبُ في صُحبةِ مِثلِ هذا، وإذا كان هذا التَّكليفُ شاقًّا على النَّفسِ، لا جَرَمَ كانت دَرَجَتُه عَظيمةً في الدِّينِ [2116] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (3/ 587، 588). .
3- قال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 8 - 10] .
لمَّا ذَكرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في قَولِه: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء: 7] أنَّ النِّساءَ كالرِّجالِ في أنَّ لهنَّ حَظًّا مِنَ الميراثِ، وعَلِمَ تعالى أنَّ في الأقارِبِ مَن يَرِثُ ومَن لا يَرِثُ، وأنَّ الذينَ لا يَرِثونَ إذا حَضَروا وقتَ القِسمةِ، فإن تُرِكوا مَحرومينَ بالكُلِّيَّةِ ثَقُل ذلك عليهم؛ فلا جَرَمَ أمَر اللهُ تعالى -على سَبيلِ النَّدبِ- أن يُدفَعَ إليهم شيءٌ عِندَ القِسمةِ؛ حتَّى يَحصُل الأدَبُ الجَميلُ، وحُسنُ العِشرةِ، فقال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أَولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ أي: إذا حَضَرَ تَوزيعَ الميراثِ الأقارِبُ غيرُ الوارِثينَ، والأيتامُ، والمُحتاجونَ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: فأعطوهم شيئًا مِمَّا تيَسَّرَ مِن هذه التَّرِكةِ؛ برًّا بهم، وإحسانًا إليهم، وجَبرًا لخَواطِرِهم بما لا يَضُرُّكُم؛ فإنَّ نُفوسَهم مُتَشَوِّفةٌ إليه.
ولمَّا أمَرَ تعالى بالإحسانِ إليهم بالفِعلِ أمر بَعدَ ذلك بالإحسانِ إليهم بالقَولِ، فقال سُبحانَه: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أي: فلتَقولوا لهم قَولًا حَسَنًا جَميلًا، تَطيبُ به نُفوسُهم.
ولمَّا أعادَ اللهُ تعالى الوصيَّةَ باليَتامى مَرَّةً بَعد أخرى، وخَتم بالأمرِ بإلانةِ القَولِ، وكان للتَّصويرِ في التَّأثيرِ في النَّفسِ ما ليس لغَيرِه أعادَ الوصيَّةَ بهم؛ لضَعفِهم، مُصَوِّرًا لحالِهم، فقال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء: 9] قيل: المَعنى: مَن سَمِعَ مُحتَضَرًا قَد ظَلمَ في وصيَّتِه أو أضَرَّ بسَبَبها بورَثَتِه، فعليه أن يَتَّقيَ اللَّهَ تعالى، ويَأمُرَه بالعَدلِ فيها، ويُسَدِّدَه للصَّوابِ، كما يُحِبُّ أن يُصنَعَ بورَثَتِه إذا خَشيَ عليهمُ الضَّيعةَ.
وقيل: المُرادُ: أنَّ على أولياءِ اليَتامى مُعامَلتَهم في مَصالِحِهمُ الدِّينيَّةِ والدُّنيَويَّةِ بما يُحِبُّونَ أن يُعامَلَ به ذُرِّيَّتُهمُ الضِّعافُ مِن بَعدِهم؛ فليَتَّقوا اللَّهَ تعالى في وِلايَتِهم لهم، فكما تُحِبُّ أن تُعامَلَ ذُرِّيَّتُك مِن بَعدِك، فعامِلِ النَّاسَ في ذُرِّيَّاتِهم إذا وَلِيتَهم [2117] يُنظر: ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (3/ 58-60). .
ب- مِنَ الآثارِ
عَن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قامَ في النَّاسِ خَطيبًا، فقال بَعدَ حَمدِ اللهِ والثَّناءِ عليه والصَّلاةِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (... ألا وقولوا الحَقَّ تُعرَفوا به، واعمَلوا به تَكونوا مِن أهلِه، وأدُّوا الأمانةَ إلى مَنِ ائتَمَنَكُم، وصِلوا أرحامَ مَن قَطَعَكُم، وعُودوا بالفَضلِ على مَن حَرَمَكُم، وإذا عاهَدتُم فأوفوا، وإذا حَكمتُم فاعدِلوا، ولا تَفاخَروا بالآباءِ، ولا تَنابَزوا بالألقابِ، ولا تَمازَحوا، ولا يَغتَبْ بَعضُكُم بَعضًا، وأعينوا الضَّعيفَ والمَظلومَ والغارِمينَ، وفي سَبيلِ اللهِ وابنِ السَّبيلِ والسَّائِلينِ وفي الرِّقابِ، وارحَموا الأرمَلةَ واليَتيمَ...) [2118] ذَكرَه الهيثَمُ بنُ عَديٍّ كما في ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/340) واللَّفظُ له عن عيسى بنِ دآب. قال ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (7/318): له شَواهِدُ مِن وُجوهٍ أُخَرَ مُتَّصِلةٍ. أخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ مُختَصَرًا البيهَقيُّ في ((شعب الإيمان)) (10614)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (42/494). وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ أبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (1/76) مُختَصَرًا. ويُنظر: ((البداية والنِّهاية)) لابن كثير (10/ 638-643). .

انظر أيضا: