موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: كفالتُه والإنفاقُ عليه


تُستَحَبُّ كفالةُ اليَتيمِ [2119] قال ابنُ قُرقُولٍ: (الكفالةُ بمَعنى الحِياطةِ، وكافِلُ اليَتيمِ: حائِطُه وحاضِنُه القائِمُ بأمرِه). ((مطالع الأنوار)) (3/ 380). قال ابنُ الجَوزيِّ: (كفالةُ اليَتيمِ مَعناها القيامُ بأمرِه وتَربيَتُه). ((كشف المشكل)) (2/ 282). وقال النَّوويُّ: (كافِلُ اليَتيمِ القائِمُ بأمورِه مِن نَفَقةٍ وكِسوةٍ وتَأديبٍ وتَربيةٍ وغيرِ ذلك). ((شرح مسلم)) (18/ 113). وقال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (كفالةُ الأولادِ والأيتامِ واللُّقَطاءِ إحسانٌ إليهم، بحِفظِ أبدانِهم، وتَعليمُ مراشِدِهم في الدِّينِ). ((شجرة المعارف)) (ص: 164). ، والإنفاقُ عليه، وإطعامُه.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ:
1- قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 215] .
2- قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] .
(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ، أي: ومِنَ الأعمالِ الدَّاخِلةِ في مُسَمَّى البِرِّ: أن يُعطيَ العَبدُ المالَ وهو مُحِبٌّ له وراغِبٌ فيه، فيَدفَعُه صَدَقةً لأقارِبِه، وللصِّغارِ الذينَ فقَدوا آباءَهم وهم دونَ البُلوغِ ولا كاسِبَ لهم، وللمَساكينِ الذينَ لا يَجِدونَ ما يَكفيهم ويُغنيهم، وللمُسافِرِ المُجتازِ يُريدُ نَفقةً تُوصِلُه لمَوطِنِه، وللطَّالبينَ حاجةً مِمَّا يَعرِضُ لهم مِن سوءٍ، ولعِتقِ الرِّقابِ ونَحوِها... أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، أي: إنَّ أولئِك المُتَّصِفينَ بما سَبَقَ ذِكرُه مِن عَقائِدَ وأعمالٍ وأخلاقٍ، همُ الصَّادِقونَ في إيمانِهم؛ لأنَّ أعمالَهم قَد صَدَّقَت إيمانَهم، وهمُ المُتَّقونَ؛ لأنَّهم فعَلوا ما أمِرُوا به، واجتَنَبوا ما نُهُوا عنه) [2120] ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (1/ 492، 493). .
3- قال تعالى عَنِ الأبرارِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 8 - 12] .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ أي: وهم في حالٍ يُحِبُّونَ فيها المالَ والطَّعامَ، لكِنَّهم قَدَّموا محَبَّةَ اللَّهِ على مَحَبَّةِ نُفوسِهم، ويَتَحَرَّونَ في إطعامِهم أولى النَّاسِ وأحوجَهم مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، ويَقصِدونَ بإنفاقِهم وإطعامِهم وجهَ اللهِ تعالى، ويَقولونَ بلسانِ الحالِ: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا أي: لا جَزاءً ماليًّا ولا ثَناءً قَوليًّا، إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا أي: شَديدَ الجهْمةِ والشَّرِّ قَمْطَرِيرًا أي: ضَنكًا ضيِّقًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ فلا يَحزُنُهمُ الفزَعُ الأكبَرُ، وتَتَلقَّاهمُ المَلائِكةُ هذا يَومُكمُ الذي كُنتُم توعَدونَ وَلَقَّاهُمْ أي: أكرَمَهم وأعطاهم نَضْرَةً في وُجوهِهم وَسُرُورًا في قُلوبِهم، فجَمَعَ لهم بينَ نَعيمِ الظَّاهِرِ والباطِنِ [2121] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 901). .
4- قال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11 - 18] .
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي: فلم يَقطَعِ الغَنيُّ العَقَبةَ الشَّديدةَ، ويَتَكلَّفْ صُعودَها، ويَتَجاوزْها بمُجاهَدةِ النَّفسِ ومُخالَفةِ الهَوى والشَّيطانِ، بإنفاقِ مالِه في أوجُهِ البِرِّ والخَيرِ والإحسانِ.
ولمَّا بيَّن أنَّه لا خَلاصَ مِنَ النَّكَدِ إلَّا بهذا الاقتِحامِ شَرَعَ في تَفسيرِ العَقَبةِ بادِئًا بتَهويلِ أمرِها؛ لعَظيمِ قَدرِها، فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ أي: وما أدراك أيُّ شيءٍ تلك العَقَبةُ العَظيمةُ التي حَثَّ اللهُ على اقتِحامِها؟ فَكُّ رَقَبَةٍ أي: تَخليصُ إنسانٍ مِن رِقّ العُبوديَّةِ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي: أو تَقديمُ الطَّعامِ في زَمَنِ مَجاعةٍ شَديدةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أي: ليَتيمٍ مِن أقارِبِه أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ أي: أو لمِسكينٍ لا شيءَ له، كأنَّه لصِقَ بالتُّرابِ لفَقرِه، وليس له مَأوًى إلَّا التُّرابُ.
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ثُمَّ إنَّ المُنفِقَ مالَه في فكِّ الرِّقابِ، أو إطعامِ اليَتيمِ القَريبِ، أو إطعامِ المِسكينِ المُحتاجِ: يَنبَغي أن يَكونَ مَعَ ذلك مِن جُملةِ الذينَ آمَنوا بما وجَبَ عليهمُ الإيمانُ به؛ فتلك القُرُباتُ إنَّما تَنفعُ مَعَ الإيمانِ وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ أي: ويَكونُ مِمَّن أوصى بَعضُهم بَعضًا بالتَّحَلِّي بالصَّبرِ، وَتَوَاصَوْا بالْمَرْحَمَةِ أي: ويَكونُ مِمَّن أوصى بَعضُهم بَعضًا بالرَّحمةِ بالمَساكينِ واليَتامى والضُّعَفاءِ، وسائِرِ الخَلقِ.
عَنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المُؤمِنينَ في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم مَثَلُ الجَسَدِ: إذا اشتَكى مِنه عُضوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)) [2122] أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللَّفظ له. .
وعَن جَريرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَرحَمُ اللهُ مَن لا يَرحَمُ النَّاسَ)) [2123] أخرجه البخاري (7376) واللَّفظ له، ومسلم (2319). .
ولمَّا نَوَّهَ بالذينِ آمَنوا أعقبَ التَّنويهَ بالثَّناءِ عليهم وبشارَتِهم، فقال: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ أي: أولئِك المُتَّصِفونَ بما تقَدَّم ذِكرُه مِنَ الصِّفاتِ هم أصحابُ اليَمينِ [2124] يُنظر: ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (43/ 337-341). .
وفي الآياتِ فَضلُ الإطعامِ، خُصوصًا عِندَ الحاجةِ إليه في زَمَنِ الجوعِ، وفيها فَضلُ إطعامِ اليَتيمِ، خُصوصًا القَريبَ، وإطعامِ المِسكينِ، والتَّواصي بالصَّبرِ على الفرائِضِ، وعَنِ المُحَرَّماتِ، وبرَحمةِ النَّاسِ كُلِّهم [2125] ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسُّيوطي (ص: 289). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا وكافِلُ اليَتيمِ في الجَنَّةِ هَكذا، وأشارَ بالسَّبَّابةِ [2126] السَّبَّابةُ مِنَ الأصابعِ: التي تَلي الإبهامَ، وإنَّما سُمِّيَت سَبَّابةً؛ لأنَّه يُشارُ بها عِندَ السَّبِّ والدُّعاءِ والطَّلَبِ. يُنظر: ((التقفية)) لابنِ أبي اليَمانِ (ص: 198). والوُسطى، وفرَّج بينَهما شيئًا)) [2127] أخرجه البخاري (5304). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (حقٌّ على كُلِّ مُؤمِنٍ يَسمَعُ هذا الحديثَ أن يرغَبَ في العَمَلِ به؛ ليكونَ في الجنَّةِ رفيقًا للنَّبيِّ عليه السَّلامُ ولجماعةِ النَّبيِّينَ والمُرسَلين -صلواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ-، ولا منزلةَ عِندَ اللهِ في الآخِرةِ أفضَلُ من مرافقةِ الأنبياءِ) [2128] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 217). .
وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وهذه فضيلةٌ عَظيمةٌ إلى كُلِّ مَن ضَمَّ يَتيمًا إلى مائِدَتِه وأنفقَ عليه مِن طَولِه، فإذا كان مَعَ ذلك مِنَ الذينَ قالوا: رَبُّنا اللَّهُ، ثُمَّ استَقاموا، نال ذلك، وحَسْبُك بها فضيلةً وقُربةً مِن مَنزِلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجَنَّةِ! وليس بينَ السَّبَّابةِ والوُسطى في الطُّولِ ولا في اللُّصوقِ كثيرٌ، وإن كان نِسبةُ ذلك مِن سَعةِ الجَنَّةِ كَثيرًا) [2129] ((الاستذكار)) (8/ 434). .
2- عن مالِكٍ، عن ثَورِ بنِ زَيدٍ الدِّيليِّ، قال: سَمِعتُ أبا الغيثِ يُحَدِّثُ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كافِلُ اليَتيمِ له أو لغيرِه: أنا وهو كهاتينِ في الجَنَّةِ))، وأشارَ مالكٌ بالسَّبَّابةِ والوُسطى [2130] أخرجه مسلم (2983). .
قال أبو الوليدِ الباجيُّ: (كافِلُ اليَتيمِ هو الذي يَكفُلُه ويَقومُ بأمرِه ويَنظُرُ له. وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «له أو لغيرِه» يَحتَمِلُ -واللهُ أعلمُ- أن يَكونَ الكافِلُ امرَأةً، فتَكفُلُ اليَتيمَ وهو ابنُها، ويَحتَمِلُ أن يُريدَ الرَّجُلَ يَكفُلُ يَتيمًا مِن أقارِبِه؛ لأنَّ اليَتيمَ في بَني آدَمَ بمَوتِ الأبِ دونَ مَوتِ الأمِّ. وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أو لغيرِه» يُريدُ ألَّا يَكونَ مِن عَشيرَتِه، واللهُ أعلمُ وأحكمُ) [2131] ((المنتقى)) (7/ 268). .
وقال النَّوويُّ: (كافِلُ اليَتيمِ: القائِمُ بأمورِه مِن نَفَقةٍ وكِسوةٍ وتَأديبٍ وتَربيةٍ وغيرِ ذلك.
وهذه الفَضيلةُ تَحصُلُ لمَن كفَلَه من مالِ نَفسِه أو مِن مالِ اليَتيمِ بوِلايةٍ شَرعيَّةٍ.
وأمَّا قَولُه: «له أو لغيرِه» فالذي له: أن يَكونَ قَريبًا له؛ كجَدِّه وأمِّه وجَدَّتِه، وأخيه وأختِه، وعَمِّه وخالِه، وعَمَّتِه وخالتِه، وغيرِهم من أقارِبِه. والذي لغيرِه: أن يَكونَ أجنَبيًّا) [2132] ((شرح مسلم)) (18/ 113). .
3- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَلسَ ذاتَ يَومٍ على المِنبَرِ وجَلَسنا حَولَه، فقال: إنِّي مِمَّا أخافُ عليكُم مِن بَعدي ما يُفتَحُ عليكُم مِن زَهرةِ الدُّنيا وزينَتِها. فقال رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أويَأتي الخيرُ بالشَّرِّ؟ فسَكتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقيل له: ما شَأنُك؟ تُكَلِّمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا يُكلِّمُك؟ فرَأينا أنَّه يُنزَلُ عليه، قال: فمَسَحَ عَنه الرُّحَضاءَ [2133] الرُّحَضاءُ: العَرَقُ الكثيرُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 502). ، فقال: أينَ السَّائِلُ؟ وكأنَّه حَمِدَه، فقال: إنَّه لا يَأتي الخيرُ بالشَّرِّ، وإنَّ مِمَّا يُنبِتُ الرَّبيعُ يَقتُلُ أو يُلِمُّ [2134] ألمَّ به يُلِمُّ: إذا قارَبَه ودَنا مِنه، يَعني: أو يَقرُبُ مِنَ الهَلاكِ. وقَولُه: ((إنَّ مِمَّا يُنبِتُ الرَّبيعُ يَقتُلُ أو يُلمُّ)) وفي رِوايةٍ: ((إنَّ مِمَّا يُنبِتُ الرَّبيعُ ما يَقتُلُ حَبَطًا أو يُلمُّ)) مَثَلٌ للمُفْرِطِ الذي يَأخُذُ الدُّنيا بغَيرِ حَقِّها؛ وذلك أنَّ الرَّبيعَ يُنبِتُ أحرارَ البُقولِ فتَستَكثِرُ الماشيةُ مِنه لاستَطابَتِها إيَّاه، حتَّى تَنتَفِخَ بُطونُها عِندَ مُجاوزَتِها حَدَّ الاحتِمالِ، فتَنشَقُّ أمعاؤُها مِن ذلك، فتَهلِكُ أو تُقارِبُ الهَلاكَ، فهذا مَعنى: ((يَقتُلُ حَبَطًا أو يُلمُّ)) فالحَبَطُ: الهَلاكُ، وحَبِطَ بَطنُه: إذا انتَفخَ فهَلَكَ، ويُلمُّ: يَقرُبُ. وكذلك الذي يَجمَعُ الدُّنيا مِن غَيرِ حِلِّها ويَمنَعُها مُستَحِقَّها قد تَعَرَّض للهَلاكِ في الآخِرةِ بدُخولِ النَّارِ، وفي الدُّنيا بأذى النَّاسِ له وحَسَدِهم إيَّاه، وغَيرِ ذلك مِن أنواعِ الأذى. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 503)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 40). ، إلَّا آكِلةَ الخَضراءِ [2135] الخَضراء، وفي رِوايةٍ الخَضِر: نَوعٌ مِنَ البُقولِ، ليسَ مِن أحرارِها وجَيِّدها. وقَولُه: ((إلَّا آكِلةَ الخَضِر)) مَثَلٌ للمُقتَصِدِ، وذلك أنَّ الخَضِرَ ليسَ مِن أحرارِ البُقولِ وجَيِّدها التي يُنبتُها الرَّبيعُ بتَوالي أمطارِه، فتَحسُنُ وتَنعُمُ، ولكِنَّه مِنَ البُقولِ التي تَرعاها المَواشي بَعد هَيجِ البُقولِ ويُبسِها حَيثُ لا تَجِدُ سِواها، وتُسَمِّيها العَرَبُ الجَنَبةَ، فلا تَرى الماشيةَ تُكثِرُ مِن أكلِها ولا تَستَمرِئُها، فضَرَب آكِلةَ الخَضِرِ مِنَ المَواشي مَثَلًا لمَن يَقتَصِدُ في أخذِ الدُّنيا وجَمعِها، ولا يَحمِلُه الحِرصُ على أخذِها بغَيرِ حَقِّها، فهو يَنجو مِن وَبالها كَما نَجَت آكِلةُ الخَضِرِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 40)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 503، 504). ، أكلت حتَّى إذا امتَدَّت خاصِرَتاها [2136] امتَدَّت خاصِرَتاها، أي: جَنباها، أيِ: امتَلأت شِبَعًا وعَظُم جَنباها، ثُمَّ أقلعَت عنه سَريعًا. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/ 54). استَقبَلت عينَ الشَّمسِ [2137] أي: أنَّها إذا شَبِعَت بَرَكَت مُستَقبِلةً عَينَ الشَّمسِ، تَستَمرِئُ بذلك ما أكَلت، وتَجتَرُّ وتَثلِطُ، فإذا ثَلَطَت فقد زال عنها الحَبَطُ، وإنَّما تَحبَطُ الماشيةُ لأنَّها تَمتَلئُ بُطونُها ولا تَثلِطُ ولا تَبولُ، فتَنتَفِخُ أجوافُها، فيَعرِضُ لها المَرَضُ فتَهلِكُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 41)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 504). ، فثَلَطَت [2138] ثَلَطَ البَعيرُ يَثلِطُ: إذا ألقى رَجيعَه سَهلًا رَقيقًا عَفوًا مِن غَيرِ مَشَقَّةٍ؛ لاستِرخاءِ ذاتِ بَطنِه، فيَبقى نَفعُه ويَخرُجُ فُضولُه ولا يَتَأذَّى به. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 503)، ((عمدة القاري)) للعيني (9/ 40). وبالت، ورَتَعَت [2139] رَتَعَت: أي: رَعَت، وأرتَعَ إبِلَه، أي: رَعاها في الرَّبيعِ، وأرتَعَ الفرَسُ وتَرَبَّعَ: أكَلَ الرَّبيعَ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (9/ 40). ، وإنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، فنِعمَ صاحِبُ المُسلِمِ ما أعطى مِنه المِسكينَ واليَتيمَ وابنَ السَّبيلِ -أو كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، وإنَّه مَن يَأخُذُه بغيرِ حَقِّه كالذي يَأكُلُ ولا يَشبَعُ، ويَكونُ شَهيدًا عليه يَومَ القيامةِ)) [2140] أخرجه البخاري (1465) واللَّفظ له، ومسلم (1052). .
4- عن زينَبَ امرَأةِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَصَدَّقْنَ يا مَعشَرَ النِّساءِ ولو مِن حُلِيِّكُنَّ. قالت: فرَجَعتُ إلى عَبدِ اللَّهِ، فقُلتُ: إنَّك رَجُلٌ خَفيفُ ذاتِ اليَدِ، وإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَرَنا بالصَّدَقةِ، فأْتِه فاسأَلْه، فإن كان ذلك يُجزي عَنِّي وإلَّا صَرَفتُها إلى غيرِكُم، قالت: فقال لي عَبدُ اللَّهِ: بَل ائتِيه أنتِ، قالت: فانطَلقتُ، فإذا امرَأةٌ مِنَ الأنصارِ ببابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حاجَتي حاجَتُها، قالت: وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُلقِيَت عليه المَهابةُ، قالت: فخَرَجَ علينا بلالٌ فقُلْنا له: ائتِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبِرْه أنَّ امرَأتينِ بالبابِ تَسألانِك: أتُجزئُ الصَّدَقةُ عَنهما على أزواجِهما وعلى أيتامٍ في حُجورِهما؟ ولا تُخبرْه مَن نَحنُ، قالت: فدَخَل بلالٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَأله، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن هما؟ فقال: امرَأةٌ مِنَ الأنصارِ وزينَبُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الزَّيانِبِ؟ قال: امرَأةُ عَبدِ اللَّهِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لهما أجرانِ: أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ)) [2141] أخرجه البخاري (1466)، ومسلم (1000) واللفظ له. .
5- عن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هل لي أجرٌ في بَني أبي سَلمةَ؟ أُنفِقُ عليهم، ولستُ بتاركتِهم هَكذا وهَكذا، إنَّما هم بَنيَّ! فقال: نَعَمْ، لكِ فيهم أجرُ ما أنفَقتِ عليهم)) [2142] أخرجه مسلم (1001). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُها: «بَني أبي سَلَمةَ» أي: ابنِ عَبدِ الأسَدِ، وكان زَوجَ أُمِّ سَلَمةَ قَبلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتزَوَّجها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولها مِن أبي سَلمةَ عُمَرُ ومُحَمَّدٌ وزَينَبُ ودُرَّةُ، وليسَ في حَديثِ أمِّ سَلَمةَ تَصريحٌ بأنَّ الذي كانت تُنفِقُه عليهم مِنَ الزَّكاةِ، فكان القَدْرُ المُشتَرَكُ مِنَ الحَديثِ حُصولَ الإنفاقِ على الأيتامِ) [2143] ((فتح الباري)) (3/ 331). والحَديثُ أورَدَه البخاريُّ في كِتابِ الزَّكاةِ تَحتَ باب: (الزَّكاةُ على الزَّوجِ والأيتامِ في الحِجرِ). يُنظر: ((صحيح البخاري)) (2/ 121). .
فَوائِدُ:
1- عن أبي بَكرِ بنِ حَفصِ بنِ عِمرانَ (أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما كان لا يَأكُلُ طَعامًا إلَّا وعلى خِوانِه [2144] الخِوانُ: المائِدةُ أو ما يقومُ مَقامَها. يُنظر: ((العين)) للخليل (4/ 309)، ((الإفصاح)) لابن هبيرة (5/ 297). يَتيمٌ) [2145] أخرجه عبد الله بن أحمد في ((زوائد الزهد)) (1049)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (136)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 299). صَحَّحَه إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (102). .
2- قال الحَسَنُ: (أربَعٌ مَن كُنَّ فيه ألقى اللهُ عليه مَحَبَّتَه، ونَشَرَ عليه رَحمَتَه: مَن بَرَّ والِدَيه، ورَفَقَ بمَملوكِه، وكَفَل اليَتيمَ، وأغاثَ الضَّعيفَ) [2146] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (2/ 131). .

انظر أيضا: