ثالثًا: إكرامُه وعدَمُ إيذائِه
مِنَ الأدَبِ مَعَ اليَتيمِ: إكرامُه، وعَدَمُ إهانَتِه، أو إيذائِه بالقَولِ أوِ الفِعلِ أوِ الإشارةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:1- قال تعالى:
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر: 17 - 19] .
كَلَّا أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ الإنسانُ أنَّ إغناءَه إكرامٌ له مِنَ اللهِ، وإفقارَه إهانةٌ؛ فاللَّهُ يُغني مَن يَشاءُ ولو كان كافِرًا، ويُفقِرُ مَن يَشاءُ ولو كان مُؤمِنًا؛ ابتِلاءً مِنه لعِبادِه بالغِنى والفَقرِ، بمُقتَضى حِكمَتِه فيهم، وهو إنَّما يُكرِمُ بطاعَتِه، ويُهينُ بمَعصيَتِه.
بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أي: أنتُم -أيُّها النَّاسُ- مَن تَستَهينونَ بأمرِ اللَّهِ فتَعصونَه؛ فلا تُكرِمونَ اليَتيمَ الذي فقَدَ أباه دونَ سِنِّ البُلوغِ؛ فتَسُدُّوا حاجَتَه، وتُحسِنوا إليه، ولا تَظلِموه شيئًا،
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أي: ولا يَحُثُّ بَعضُكُم بَعضًا على إطعامِ المِسكينِ
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا أي: وتَأكُلونَ الميراثَ أكلًا شَديدًا لا تَترُكونَ مِنه شيئًا، فتَأخُذونَ مِنه نَصيبَ غيرِكُم مِنَ النِّساءِ والصِّغارِ
[2147] ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (43/ 271، 272). .
قال ابنُ عُثَيمين: (المِسكينُ حَظُّه الإطعامُ ودَفعُ حاجَتِه، أمَّا اليَتيمُ فالإكرامُ؛ فإن كان غَنيًّا فإنَّه يُكرِمُه ليُتمِه، ولا يُطعَمُ لغِناه، وإن كان فقيرًا فإنَّه يُكرَمُ ليُتمِه ويُطعَمُ لفَقرِه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُبالونَ بهذا الشَّيءِ.
واعلَمْ أنَّ الرِّفقَ بالضُّعَفاءِ واليَتامى والصِّغارِ يَجعَلُ في القَلبِ رَحمةً ولينًا وعَطفًا وإنابةً إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، لا يُدرِكُها إلَّا مَن جَرَّب ذلك؛ فالذي يَنبَغي لك أن تَرحَمَ الصِّغارَ وتَرحَمَ الأيتامَ وتَرحَمَ الفُقَراءَ؛ حتَّى يَكونَ في قَلبِك العَطفُ والحَنانُ والرَّحمةُ، و«إنَّما يَرحَمُ اللهُ مِن عِبادِه الرُّحَماءَ»
[2148] أخرجه البخاري (7448)، ومسلم (923) مِن حَديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. [2149] ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 89). .
2- قال تعالى:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 6 - 11] .
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى أي: ألم يَجِدْك رَبُّك -يا مُحَمَّدُ- يَتيمًا، فيَسَّر لك مَن يُؤويك ويَكفُلُك ويُرَبِّيك؟
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى أي: ووجَدَك ضالًّا عن مَعرِفةِ القُرآنِ والإيمانِ، فعَلَّمك القُرآنَ، وهداك إلى الإيمانِ، وعَرَّفك أحكامَ الإسلامِ، وقد كُنتَ غافِلًا عن ذلك وجاهلًا به قَبلَ النُّبوَّةِ، كما قال تعالى:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] ، وقال سُبحانَه:
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ [العنكبوت: 48] ، وقال عَزَّ وجَلَّ:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى أي: ووجَدَك فقيرًا فأغناك.
ولمَّا ذَكَّرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أنعَمَ عليه به مِن هذه النِّعَمِ الثَّلاثِ، طالبَه بشُكرِها، وأداءِ حَقِّها، فأوصاه بما يَفعَلُ في ثَلاثٍ مُقابلةً لها، فقال مُسَبِّبًا عَنه:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ أي: فأمَّا اليَتيمَ فلا تُهِنْه وتُذِلَّه، ولا تَظلِمْه بأخذِ حَقِّه وإساءةِ مُعامَلتِه،
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ أي: وأمَّا الذي يَسألُك شيئًا فلا تَنهَرْه وتَزجُرْه،
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي: وحَدِّثِ النَّاسَ بما أنعَمَ اللهُ به عليك
[2150] يُنظر: ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (43/ 448-452). .
وقال البَغَويُّ: (
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ قال مُجاهِدٌ: لا تَحقِرِ اليَتيمَ؛ فقَد كُنتَ يَتيمًا. وقال الفَرَّاءُ والزَّجَّاجُ: لا تَقهَرْه على مالِه؛ فتَذهَبَ بحَقِّه لضَعفِه، وكذا كانتِ العَرَبُ تَفعَلُ في أمرِ اليَتامى، تَأخُذُ أموالَهم وتَظلِمُهم حُقوقَهم)
[2151] ((معالم التنزيل)) (8/ 457). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/ 274)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 340). .
3- قال تعالى:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 1 - 3] .
يَدُعُّ اليَتيمَ يَدفَعُه بشِدَّةٍ وعُنفٍ، ويَقهَرُه ولا يُكرِمُه، ويَزجُرُه ولا يَرحَمُه
[2152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425، 540)، ((النكت الدالة على البيان)) للكرجي القَصَّاب (4/ 550)، ((معالم التنزيل)) للبغوي (8/ 549)، ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 42)، ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (44/ 303). ، (وإنَّما يَدُعُّ اليَتيمَ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قَد نَزَعَ الرَّحمةَ مِن قَلبِه، ولا تُنزَعُ الرَّحمةُ إلَّا مِن قَلبِ شَقيٍّ
[2153] عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ أبا القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا تُنزَعُ الرَّحمةُ إلَّا مِن شَقيٍّ)). أخرجه أبو داود (4942)، والترمذي (1923)، وأحمد (8001). صَحَّحَه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (466)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (6/117)، وحَسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4942). [2154] ((لطائف الإشارات)) للقشيري (3/ 773). .
فائِدةٌ:قال ابنُ عاشورٍ: (قَولُه:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ مُقابلًا لقَولِه:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضُّحى: 6] لا مَحالةَ، أي: فكما آواك رَبُّك وحَفِظَك مِن عَوارِضِ النَّقصِ المُعتادِ لليُتمِ، فكُنْ أنتَ مُكرِمًا للأيتامِ رَفيقًا بهم، فجَمَعَ ذلك في النَّهيِ عن قَهرِه؛ لأنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يَقهَرونَ الأيتامَ، ولأنَّه إذا نَهى عن قَهرِ اليَتيمِ مَعَ كثرةِ الأسبابِ لقَهرِه؛ لأنَّ القَهرَ قَد يَصدُرُ مِن جَرَّاءِ القَلَقِ مِن مَطالِبِ حاجاتِه؛ فإنَّ فَلَتاتِ اللِّسانِ سَريعةُ الحُصولِ، كما قال تعالى:
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، وقال:
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء: 28] .
والقَهرُ: الغَلَبةُ والإذلالُ، وهو المُناسِبُ هنا، وتَكونُ هذه المَعاني بالفِعلِ، كالدَّعِّ والتَّحقيرِ بالفِعلِ، وتَكونُ بالقَولِ؛ قال تعالى:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النِّساء: 5] ، وتَكونُ بالإشارةِ، مِثلُ عُبوسِ الوَجهِ، فالقَهرُ المَنهيُّ عَنه هو القَهرُ الذي لا يُعامَلُ به غيرُ اليَتيمِ في مِثلِ ذلك، فأمَّا القَهرُ لأجلِ الاستِصلاحِ كضَربِ التَّأديبِ فهو مِن حُقوقِ التَّربيةِ
[2155] قال السَّمَرقَنديُّ: (إن كان يَقدِرُ أن يُؤَدِّبَه بغيرِ ضَربٍ يَنبَغي له أن يَفعَلَ ذلك ولا يَضرِبَه، فإنَّ ضَربَ اليَتيمِ أمرٌ شَديدٌ). ((تنبيه الغافلين)) (ص: 351). ويُنظر: ((الأدب المفرد)) للبخاري (140، 142). ؛ قال تعالى:
وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة: 220] )
[2156] ((التحرير والتنوير)) (30/ 401، 402). .