موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: صِلةُ الوالدَينِ الكافِرَينِ ومُصاحَبَتُهما بالمَعروفِ


مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالدَينِ الكافِرَينِ: صِلتُهما، ومُصاحَبَتُهما بالمَعروفِ بالبرِّ والإحسانِ، في غَيرِ مَعصيةٍ ولا ضَرَرٍ [2516] فمِن حُقوقِ الوالِدَينِ على الأولادِ: برُّهما ولو كانا فاسِقَينِ أو كافِرَينِ، في غَيرِ مَعصيةٍ ولا ضَرَرٍ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (2/46)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/290)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/446)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386). .
الدَّليلُ على ذلك من الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14-15] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا دَليلٌ على وُجوبِ بِرِّهما ولو كانا كافِرَينِ [2517] ((موقع الشيخ ابن باز الرسمي)). .
وعَن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، عَن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه نَزَلَت فيه آياتٌ مِنَ القُرآنِ، قال: ((حَلَفَت أمُّ سَعدٍ ألَّا تُكَلِّمَه أبَدًا حَتَّى يَكفُرَ بدِينِه، ولا تَأكُلَ ولا تَشرَبَ، قالت: زَعَمْتَ أنَّ اللهَ وصَّاكَ بوالِدَيك، وأنا أمُّكَ، وأنا آمُرُكَ بهَذا، قال: مَكَثَت ثَلاثًا حَتَّى غُشِيَ عليها مِنَ الجَهدِ، فقامَ ابنٌ لها يُقالُ له: عُمارةُ، فسقاها، فجَعَلَت تَدعو عَلى سَعدٍ، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في القُرآنِ هَذِه الآيةَ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي [العنكبوت: 8] ، وفيها وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] )) الحديثَ [2518] أخرجه مسلم (1748). .
وفي هذا دَلالةٌ (على عِظَم حَقِّ الوالدَينِ على الولَدِ؛ فإنَّ اللَّهَ يَأمُرُه بها أن يُصاحِبَ والدَيه المُشرِكَينِ في الدُّنيا بالمَعروفِ مِنَ البرِّ والإحسانِ إلَّا في شِركِهما وما يَلزَمُه مِن مَعاصي اللهِ تعالى، فإن جاهَداه على أن يُشرِكَ باللهِ تعالى فلا يُطِعْهما؛ لأنَّ حَقَّ اللهِ تعالى عليه أكبَرُ مِن حَقِّهما، وتَوحيدَه وطاعَتَه هيَ الوسيلةُ إلى سَعادَتِه ونَعيمِه الذي لا نِهايةَ له.
وقَولُه: واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ أي: واتَّبِعْ في الدِّينِ سَبيلَ مَن أنابَ إليَّ مِنَ النَّبيِّينَ والمُرسَلينَ، ومَنِ اهتَدى بهم مِنَ المُؤمِنينَ، دونَ تَقليدِ الآباءِ الكافِرينَ. قال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي: مَرجِعُك ومَرجِعُ والدَيك فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عِندَ حِسابكُم، وأُجازي كُلًّا بما يَستَحِقُّ؛ فعلَيَّ حِسابُ والدَيك وجَزاؤُهم، لا عليك. والآيةُ نَصٌّ في البرِّ والشُّكرِ للوالدَينِ الكافِرَينِ فيما عَدا الكُفرَ ولَوازِمَه) [2519] ((حقوق النساء في الإسلام)) لمحمد رشيد رضا (ص: 361-363). .
2- قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] .
3- قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة: 272] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ استِحقاقَ الطَّاعةِ والعَطيَّةِ إنَّما هو لِوَجهِ اللهِ؛ فليس للمَعصِيةِ كالفِسقِ أو الكُفرِ تأثيرٌ [2520] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (4/250). .
4- قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ عامَّةٌ، فلم تُفَرِّقْ بين العَدلِ والفاسِقِ [2521] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((قَدِمَت عليَّ أمِّي وهي مُشرِكةٌ في عَهدِ قُرَيشٍ -إذ عاهَدوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ومُدَّتِهم، مع أبيها -واسمه الحارث-، فاستفْتَت رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أمي قَدِمَت عليَّ وهي راغِبةٌ [2522] قال ابنُ عُثيمين: (قَولُها: "وهيَ راغِبةٌ" قال بَعضُ العُلماءِ: مَعناه: وهيَ راغِبةٌ في الإسلامِ، فيَكونُ الأمرُ بصِلتِها مِن أجلِ تَأليفِها على الإسلامِ، وقيل: بَل مَعنى قَولِها: "وهيَ راغِبةٌ" أي: راغِبةٌ في أن أصِلَها ومُتَطَلِّعةٌ إلى ذلك، فأمَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تَصِلَها، وهذا هو الأقرَبُ أنَّها جاءَت تَتَشَوَّقُ وتَتَطَلَّعُ إلى أن تُعطيَها ابنَتُها ما شاءَ اللهُ؛ ففي هذا دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ يَصِلُ أقارِبَه ولو كانوا على غَيرِ الإسلامِ؛ لأنَّ لهم حَقَّ القَرابةِ). ((شرح رياض الصالحين)) (3/193). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 234). ، أفأصِلُها؟ قال: نعَمْ، صِلِيها)) [2523] أخرجه البخاري (2620)، ومسلم (1003). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحديثِ جَوازُ صِلةِ الأبوَينِ المُشرِكَينِ وبِرِّهما [2524] يُنظر: ((إكمال المُعْلِم)) لعياض (3/523)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/245). .

انظر أيضا: