فوائِدُ ومَسائِلُ
مُكثُ الحائِضِ في المَسجِدِلا يجوزُ للحائِضِ الـمُكثُ في المسجِدِ
[509] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/180)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/551)، ((المجموع)) للنووي (2/385)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/347). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكتابِقولُ الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الجنُبَ لا يجوزُ له قِربانُ محلِّ الصَّلاة، وهي المساجِدُ، إلَّا مرورًا فقط من غيرِ مُكثٍ، وكذلك الحائِضُ؛ لأنَّها في معنى الجنُبِ
[510] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/308)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (79/237)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (7/344). .
ب- مِن السُّنَّةِ1- عن أمِّ عطيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((أُمِرْنا أن نُخرِج الحُيَّضَ [511] الحُيَّضُ: جَمعُ حائِضٍ، أي: البالغاتُ مِنَ البَناتِ، أوِ المُباشراتُ بالحَيضِ، مَعَ أنَّهنَّ غَيرُ طاهراتٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/ 1063). يومَ العيدينِ وذواتَ الخُدورِ [512] ذَواتُ الخُدورِ: أي: التي قَلَّ خُروجُهنَّ مِن بُيوتِهنَّ، والخُدورُ: جَمعُ خِدرٍ، وهو المَوضِعُ الذي تُصانُ فيه المَرأةُ، والخِدرُ: السِّترُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 152)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/ 1063، 1064). ؛ فيشهدْنَ جماعةَ المُسلمين ودَعْوتَهم، ويعتَزِلُ الحُيَّضُ عن مُصلَّاهنَّ، قالت امرأةٌ: يا رسولَ الله، إحدانا ليس لها جِلبابٌ، قال: لِتُلْبسْها صاحِبَتُها مِن جِلبابِها)) [513] رواه البخاري (351) واللفظ له، ومسلم (890). .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّها كانت تُرجِّلُ [514] تُرَجِّلُ: أي: تُسَرِّحُ، وترجيلُ الشَّعرِ: تسريحُه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 288)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (1/ 342) و (7/ 349). النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهي حائِضٌ، وهو معتكِفٌ في المسجِدِ، وهي في حُجرَتِها، يُناوِلُها رأسَه)) [515] رواه البخاري (2046) واللفظ له، ومسلم (297). .
مرورُ الحائِضِ في المسجِدِ:يجوز مرورُ الحائِضِ في المسجِدِ إذا أمِنَت التَّلويثَ
[516] وهذا مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ، والحنابِلةِ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلَفِ، واختاره ابنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابنُ حَزمٍ، وابنُ القيِّم، وابنُ كثيرٍ، وابنُ باز، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (1/135)، (9) ((الإنصاف)) للمرداوي (1/347)، ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (1/400)، ((أعلام الموقعين)) لابن القيم (3/23)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/313)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/221)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/273). .
الدَّليلُ على ذلك من الكتابِ:قولُ الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الاستثناءَ مِن المنهيِّ عنه إباحةٌ، والمعنى: لا تقربوا مواضِعَ الصَّلاة -أي: المساجِدَ- وأنتم سكارى، حتَّى تُفيقوا من سُكركم، ولا تقربوها وأنتم جُنُب، حتَّى تغتَسِلوا من الجنابة، إلَّا إذا كان دخولُكم إيَّاها على وجهِ الاجتيازِ والمرورِ، فلا بأسَ به، والحائِضُ حُكمُها حُكمُ الجنُبِ في ذلك
[517] ((المغني)) لابن قدامة (1/107)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/311)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (4/110، 7/342)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (79/237). .
مُكثُ الجُنبِ في المسجِدِيحرُم على الجنُب المُكثُ في المسجِدِ
[518] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي)) (1/56)، ((منح الجليل)) لعليش (1/131)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/85)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/82). على أنَّ الحَنابلةَ استَثنَوا ما إذا تَوضَّأ الجُنُبُ، فيَجوزُ له المُكثُ في المَسجِدِ. وقال ابنُ تَيميَّةَ: (ليسَ للجُنُبِ أن يَلبَثَ في المَسجِدِ، لكِن إذا تَوضَّأ جازَ له اللُّبثُ فيه عِندَ أحمَدَ وغَيرِه، واستَدَلَّ بما ذَكَرَه بإسنادِه، عن هشامِ بنِ سَعدٍ: أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يتوضَّؤون وهم جُنُبٌ، ثُمَّ يَجلِسونَ في المَسجِدِ ويَتَحَدَّثونَ). ((الفتاوى الكبرى)) (2/148، 149). .
الدَّليلُ على ذلك من الكتابِ:قَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43] .
وَجهُ الدَّلالة: أنَّ الجُنُب لا يجوزُ له قِربانُ محلِّ الصَّلاةِ، وهي المساجِدُ، إلَّا مرورًا فقط من غيرِ مُكثٍ
[519] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/308)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (79/237)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (7/344). .
أمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ المساجِدَ بيوتُ الله عزَّ وجلَّ، ومحلُّ ذِكرِه، وعبادَتِه، ومأوًى لملائكَتِه، وإذا كان آكِلُ البَصَلِ والأشياءِ المكروهةِ ممنوعًا من البقاءِ في المسجد، فالجُنُب الَّذي تحرُمُ عليه الصَّلاةُ مِن باب أوْلى
[520] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/351). .
عُبورُ الجُنُبِ المسجِدَ:يجوز للجُنُب عُبورُ المسجِدِ
[521] وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّةِ، والحنابِلةِ، وبه قالت طائفةٌ مِن السَّلَفِ، واختاره ابنُ تيميَّةَ، وابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (2/156)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/148)، ((المغني)) لابن قدامة (1/107)، ((الأوسط)) لابن المنذر (2/229)، ((شرح عمدة الفقه لابن تيميَّة- من كتاب الطهارة والحج)) (1/388)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/220)، ((فتاوى نور على الدرب للعثيمين)). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ:قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه استثنى عابِرَ السَّبيلِ مِن نهي الجُنُبِ عن قِربانِ مواضِعِ الصَّلاة، والاستثناءُ من المنهيِّ عنه إباحةٌ
[522] ((المغني)) لابن قدامة (1/107). .
جملةٌ ممَّا يجوزُ في المسجِدِ:الاجتماعُ والأكلُ فيه:لا بَأسَ بالاجتِماعِ في المَسجِدِ، والأكلِ فيه
[523] قال الزَّركَشيُّ: (يَجوزُ أكلُ الخُبزِ والفاكِهةِ والبطِّيخِ وغَيرِ ذلك في المَسجِدِ، وقد رَوى ابنُ ماجه عن عبدِ اللهِ بنِ الحَرثِ بنِ جَزءٍ الزُّبَيديِّ، قال: «كُنَّا نَأكُلُ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ الخُبزَ واللَّحمَ». وقال مالكٌ: يُكرَهُ الأكلُ في المَسجِدِ إلَّا اللُّقمةَ واللُّقمَتَينِ، ولا يُعجِبُه الأكلُ في رِحابِه؛ لأنَّها مِنَ المَسجِدِ. ويَنبَغي أن يَبسُطَ شَيئًا ويَحتَرِزَ خَوفًا مِنَ التَّلوُّثِ، ولئَلَّا يَتَناثَرَ شَيءٌ مِنَ الطَّعامِ فتَجتَمِعَ عليه الهَوامُّ، هذا إذا لم يَكُنْ له رائِحةٌ كَريهةٌ، فإن كانت كالثُّومِ والبَصَلِ والكُرَّاثِ ونَحوِه فيُكرَهُ أكلُه فيه، ويُمنَعُ آكِلُه مِنَ المَسجِدِ حتَّى يَذهَبَ ريحُه). ((إعلام الساجد بأحكام المساجد)) (ص: 329). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:عن عبدِ اللهِ بنِ الحارِثِ بنِ جَزءٍ الزُّبَيديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا نَأكُلُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ الخُبزَ واللَّحمَ)) [524] أخرجه ابن ماجه (3300)، وابن حبان (1657). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3300)، وصَحَّحَ إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (1657)، وجَوَّدَه ابن رجب في ((فتح الباري)) (2/369). .
الاستِلقاءُ والنَّومُ:يَجوزُ الاستِلقاءُ والنَّومُ في المَسجِدِ
[525] قال النَّوويُّ: (يَجوزُ النَّومُ في المَسجِدِ ولا كَراهةَ فيه عِندَنا، نَصَّ عليه الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللهُ في "الأُمِّ"، واتَّفقَ عليه الأصحابُ، قال ابنُ المُنذِرِ في "الإشرافِ" رَخَّصَ في النَّومِ في المَسجِدِ ابنُ المُسَيِّبِ وعَطاءٌ والحَسَنُ والشَّافِعيُّ، وقال ابنُ عبَّاسٍ: لا تَتَّخِذوه مَرقَدًا، ورُويَ عنه: إن كُنتَ تَنامُ للصَّلاةِ فلا بَأسَ، وقال الأوزاعيُّ: يُكرَهُ النَّومُ في المَسجِدِ، وقال مالِكٌ: لا بَأسَ بذلك للغُرَباءِ، ولا أرى ذلك للحاضِرِ، وقال أحمَدُ وإسحاقُ: إن كان مُسافِرًا أو شِبهَه فلا بَأسَ، وإنِ اتَّخَذَه مَقيلًا ومَبيتًا فلا. قال البَيهَقيُّ في "السنن الكبير": رُوِّينا عن ابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ ما يَدُلُّ على كَراهَتِهمُ النَّومَ في المَسجِدِ، قال: فكَأنَّهمُ استَحَبُّوا لمَن وجَدَ مَسكَنًا أن لا يَقصِدَ النَّومَ في المَسجِدِ. واحتَجَّ الشَّافِعيُّ ثُمَّ أصحابُنا لعَدَمِ الكَراهةِ بما ثَبَتَ في الصَّحيحينِ عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: كُنتُ أنامُ في المَسجِدِ وأنا شابٌّ أعزَبُ. وثَبَتَ أنَّ أصحابَ الصُّفَّةِ كانوا يَنامونَ في المَسجِدِ، وأنَّ العُرَنيِّينَ كانوا يَنامونَ في المَسجِدِ، وثَبَتَ في الصَّحيحينِ أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه نامَ فيه، وأنَّ صَفوانَ بنَ أُميَّةَ نامَ فيه، وأنَّ المَرأةَ صاحِبةَ الوِشاحِ كانت تَنامُ فيه، وجَماعاتٍ آخَرينَ مِنَ الصَّحابةِ، وأنَّ ثُمامةَ بنَ أُثالٍ كان يَبيتُ فيه قَبلَ إسلامِه، وكُلُّ هذا في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال الشَّافِعيُّ في "الأُمِّ": وإذا باتَ المُشرِكُ في المَسجِدِ فكَذا المُسلِمُ، واحتَجَّ بنومِ ابنِ عُمَرَ وأصحابِ الصُّفَّةِ. ورَوى البَيهَقيُّ عن ابنِ المُسَيِّبِ عنِ النَّومِ في المَسجِدِ، فقال: أينَ كان أصحابُ الصُّفَّةِ يَنامونَ؟ يَعني: لا كَراهةَ؛ فإنَّهم كانوا يَنامونَ فيه). ((المجموع)) (2/ 173، 174). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن ابنِ شِهابٍ، عن عَبَّادِ بنِ تَميمٍ، عن عَمِّه
((أنَّه رَأى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستَلقيًا في المَسجِدِ، واضِعًا إحدى رِجلَيه على الأُخرى)). وعن ابنِ شِهابٍ، عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، قال: (كان عُمَرُ وعُثمانُ يَفعَلانِ ذلك)
[526] أخرجه البخاري (475) واللَّفظُ له، ومسلم (2100). .
قال الخَطَّابيُّ: (فيه بَيانُ جَوازِ هذا الفِعلِ ودَلالةٌ أنَّ خَبَرَ النَّهيِ عنه
[527] عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ اشتِمالِ الصَّمَّاءِ، والاحتِباءِ في ثَوبٍ واحِدٍ، وأن يَرفعَ الرَّجُلُ إحدى رِجلَيه على الأُخرى وهو مُستَلقٍ على ظَهرِه)). [أخرجه مسلم (2091)]. إمَّا مَنسوخٌ، وإمَّا أن تَكونَ عِلَّةُ النَّهيِ عنه أن تَبدوَ عَورةُ الفاعِلِ لذلك
[528] قال الخَطَّابيُّ أيضًا: (يُشبِهُ أن يَكونَ إنَّما نَهى عن ذلك مِن أجلِ انكِشافِ العَورةِ؛ إذ كان لباسُهمُ الأُزُرَ دونَ السَّراويلاتِ، والغالِبُ أنَّ أُزُرَهم غَيرُ سابغةٍ، والمُستَلقي إذا رَفعَ إحدى رِجلَيه على الأُخرى مَعَ ضيقِ الإزارِ لم يَسلَمْ أن يَنكَشِفَ شَيءٌ مِن فَخِذِه، والفَخِذُ عَورةٌ، فأمَّا إذا كان الإزارُ سابغًا أو كان لابِسُه عنِ التَّكَشُّفِ مُتَوقِّيًا فلا بَأسَ به، وهو وَجهُ الجَمعِ بَينَ الخَبَرَينِ. واللهُ أعلمُ). ((معالم السنن)) (4/ 120). وقال النَّوويُّ: (قال العُلماءُ: أحاديثُ النَّهيِ عنِ الاستِلقاءِ رافِعًا إحدى رِجلَيه على الأُخرى مَحمولةٌ على حالةٍ تَظهَرُ فيها العَورةُ أو شَيءٌ مِنها، وأمَّا فِعلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكان على وجهٍ لا يَظهَرُ مِنها شَيءٌ، وهذا لا بَأسَ به ولا كَراهةَ فيه على هذه الصِّفةِ). ((شرح مسلم)) (14/ 77، 78). ؛ فإنَّ الإزارَ رُبَّما ضاقَ، فإذا شال لابِسُه إحدى رِجلَيه فوقَ الأُخرى بَقيَت هناكَ فُرجةٌ تَظهَرُ مِنها عَورةٌ.
وفيه دَليلٌ على جَوازِ الاتِّكاءِ في المَسجِدِ والاضطِجاعِ وأنواعِ الاستِراحةِ والاتِّداعِ فيه، كَجَوازِها في المَنازِلِ والبُيوتِ...)
[529] ((أعلام الحديث)) (1/ 409). .
وقال النَّوويُّ: (في هذا الحَديثِ جَوازُ الاتِّكاءِ في المَسجِدِ والاستِلقاءِ فيه.
قال القاضي: لعَلَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَعَل هذا لضَرورةٍ أو حاجةٍ مِن تَعَبٍ أو طَلَبِ راحةٍ أو نَحوِ ذلك، قال: وإلَّا فقد عُلِم أنَّ جُلوسَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَجامِعِ على خِلافِ هذا، بَل كان يَجلسُ مُتَرَبِّعًا أو مُحتَبيًا، وهو كان أكثَرَ جُلوسِه، أوِ القُرفُصاءَ أو مُقعيًا وشِبهَها مِن جِلساتِ الوَقارِ والتَّواضُعِ
[530] يُنظر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (6/ 620، 621). .
قُلتُ: ويُحتَمَلُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَله لبَيانِ الجَوازِ، وأنَّكُم إذا أرَدتُمُ الاستِلقاءَ فليَكُنْ هَكَذا، وأنَّ النَّهيَ الذي نَهَيتُكُم عنِ الاستِلقاءِ ليسَ هو على الإطلاقِ، بَل المُرادُ به مَن يَنكَشِفُ شَيءٌ مِن عَورَتِه، أو يُقارِبُ انكِشافُها، واللَّهُ أعلمُ)
[531] ((شرح مسلم)) (14/ 78). .
2- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((كان الرَّجُلُ في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا رَأى رُؤيا قَصَّها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَمَنَّيتُ أن أرى رُؤيا فأقُصَّها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُنتُ غُلامًا شابًّا، وكُنتُ أنامُ في المَسجِدِ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...)) الحَديث
[532] أخرجه البخاري (1121) واللَّفظُ له، ومسلم (2479). .
3- عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيتَ فاطِمةَ، فلم يَجِدْ عَليًّا في البَيتِ، فقال: أينَ ابنُ عَمِّك؟ قالت: كان بَيني وبَينَه شَيءٌ، فغاضَبَني، فخَرَجَ، فلم يَقِلْ [533] قال يَقيلُ قَيلًا وقَيلولةً: نامَ نِصفَ النَّهارِ، والقائِلةُ: وقتُ القَيلولةِ، وقد تُطلقُ على القَيلولةِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 521). عِندي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لإنسانٍ: انظُرْ أينَ هو؟ فجاءَ فقال: يا رَسولَ اللهِ، هو في المَسجِدِ راقِدٌ، فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُضطَجِعٌ، قد سَقَطَ رِداؤُه عن شِقِّه، وأصابَه تُرابٌ، فجَعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمسَحُه عنه، ويَقولُ: قُمْ أبا تُرابٍ، قُم أبا تُرابٍ)) [534] أخرجه البخاري (441) واللَّفظُ له، ومسلم (2409). .
التَّحَدُّثُ بالمُباحِ مِن أُمورِ الدُّنيا وإنشادُ الشِّعرِمِمَّا يَجوزُ في المَسجِدِ: التَّحَدُّثُ بالمُباحِ مِن أُمورِ الدُّنيا
[535] قال ابنُ عُثَيمين: (الكَلامُ في المَسجِدِ يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: القِسمُ الأوَّلُ: أن يَكونَ فيه تَشويشٌ على المُصَلِّين والقارِئينَ والدَّارِسينَ، فهذا لا يَجوزُ وليسَ لأحَدٍ أن يَفعَلَ ما يُشَوِّشُ على المُصَلِّينِ والقارِئينَ والدَّارِسينَ. القِسمُ الثَّاني: أن لا يَكونَ فيه تَشويشٌ على أحَدٍ، فهذا إن كان في أُمورِ الخَيرِ فهو خَيرٌ، وإن كان في أُمورِ الدُّنيا فإنَّ مِنه ما هو مَمنوعٌ، ومِنه ما هو جائِزٌ: فمِنَ المَمنوعِ البَيعُ والشِّراءُ والإجارةُ فلا يَجوزُ للإنسانِ أن يَبيعَ أو يَشتَريَ في المَسجِدِ أو يَستَأجِرَ أو يُؤَجِّرَ في المَسجِدِ، وكذلك إنشادُ الضَّالَّةِ؛ فإنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: «إذا سَمِعتُم مَن يَنشُدُ الضَّالَّةَ فقولوا: لا رَدَّها اللَّهُ عليك؛ فإنَّ المَساجِدَ لم تُبنَ لهذا». ومِنَ الجائِزِ أن يَتَحَدَّثَ النَّاسُ في أُمورِ الدُّنيا بالحَديثِ الصِّدقِ الذي ليسَ فيه شَيءٌ مُحَرَّمٌ). ((فتاوى نور على الدرب)). ، وإنشادُ ما يَحِلُّ مِنَ الشِّعرِ ويَجمُلُ
[536] قال النَّوويُّ: (يَجوزُ التَّحَدُّثُ بالحَديثِ المُباحِ في المَسجِدِ وبأُمورِ الدُّنيا وغَيرِها مِنَ المُباحاتِ، وإن حَصَل فيه ضَحِكٌ ونَحوُه ما دامَ مُباحًا... لا بَأسَ بإنشادِ الشِّعرِ في المَسجِدِ إذا كان مَدحًا للنُّبوَّةِ أوِ الإسلامِ أو كان حِكمةً أو في مَكارِمِ الأخلاقِ أوِ الزُّهدِ ونَحوِ ذلك مِن أنواعِ الخَيرِ. فأمَّا ما فيه شَيءٌ مَذمومٌ، كهَجوِ مُسلمٍ، أو صِفةِ الخَمرِ، أو ذِكرِ النِّساءِ أوِ المُردِ، أو مَدحِ ظالمٍ، أوِ افتِخارٍ مَنهيٍّ عنه، أو غَيرِ ذلك، فحَرامٌ؛ لحَديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إنَّ هذه المَساجِدَ لا تَصلُحُ لشَيءٍ مِن هذا البَولِ ولا القَذَرِ، إنَّما هيَ لذِكرِ اللهِ وقِراءةِ القُرآنِ» أو كَما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. رواه مسلم. [أخرجه مسلم (285) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((إنَّ هذه المَساجِدَ لا تَصلُحُ لشَيءٍ مِن هذا البَولِ ولا القَذَرِ، إنَّما هيَ لذِكرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والصَّلاةِ وقِراءةِ القُرآنِ))] فمِمَّا يُحتَجُّ به للنَّوعِ الأوَّلِ حَديثُ سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، قال: مَرَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في المَسجِدِ وحَسَّانٌ يُنشِدُ الشِّعرَ فلحَظَ إليه، فقال: كُنتُ أنشِدُ فيه، وفيه مَن هو خَيرٌ مِنك، ثُمَّ التَفَت إلى أبي هرَيرةَ فقال: أنشُدُك باللهِ أسَمِعتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «أجِبْ عنِّي، اللهُمَّ أيِّدْه برُوحِ القُدُسِ»؟ قال: نَعَم. رواه البخاري ومسلم. [أخرجه البخاري (3212)، ومسلم (2485) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ قال: مَرَّ عُمَرُ في المَسجِدِ وحَسَّانٌ يُنشِدُ، فقال: كُنتُ أُنشِدُ فيه، وفيه مَن هو خَيرٌ مِنكَ، ثُمَّ التَفتَ إلى أبي هرَيرةَ، فقال: أنشُدُكَ باللهِ، أسَمِعتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: أجِبْ عنِّي، اللهُمَّ أيِّدْه بروحِ القُدُسِ؟ قال: نَعَم] ومِمَّا يُحتَجُّ به للنَّوعِ الثَّاني حَديثُ عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن تَناشُدِ الأشعارِ في المَسجِدِ» حَديثٌ حَسَنٌ، رَواه النَّسائيُّ بإسنادٍ حَسَنٍ [أخرجه أبو داود (1079)، والترمذي (322) مُطوَّلًا، والنسائي (715) واللَّفظُ له. حَسَّنه الترمذي، والنووي في ((المَجموع)) (2/177)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/297)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1079). وذهب إلى تصحيحه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/453)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/354). ((المجموع)) (2/ 177). وقال ابنُ حَجَرٍ: (أمَّا ما رَواه ابنُ خُزَيمةَ في "صحيحه" والترمذيُّ وحَسَّنه مِن طَريقِ عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، قال: «نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن تَناشُدِ الأشعارِ في المَساجِدِ» وإسنادُه صحيحٌ إلى عَمرٍو، فمَن يُصَحِّحُ نُسخَتَه يُصَحِّحُه، وفي المَعنى عِدَّةُ أحاديثَ، لكِنْ في أسانيدِها مَقالٌ، فالجَمعُ بَينَها وبَينَ حَديثِ البابِ: أن يُحمَلَ النَّهيُ على تَناشُدِ أشعارِ الجاهليَّةِ والمُبطِلينَ، والمَأذونُ فيه ما سَلِمَ مِن ذلك، وقيل: المَنهيُّ عنه ما إذا كان التَّناشُدُ غالبًا على المَسجِدِ حتَّى يَتَشاغَلَ به مَن فيه، وأبعَدَ أبو عَبدِ المَلِكِ البونيُّ، فأعمَل أحاديثَ النَّهيِ، وادَّعى النَّسخَ في حَديثِ الإذنِ، ولم يوافَقْ على ذلك). ((فتح الباري)) (1/ 549). ما لم يُؤَدِّ ذلك إلى مَحظورٍ أو إيذاءٍ، أو تَشويشٍ على مُصَلٍّ وذاكِرٍ ونَحوِ ذلك.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن سِماكِ بنِ حَربٍ، قال: قُلتُ لجابِرِ بنِ سَمُرةَ:
((أكُنتَ تُجالِسُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: نَعَم كَثيرًا، كان لا يَقومُ مِن مُصَلَّاه الذي يُصَلِّي فيه الصُّبحَ أوِ الغَداةَ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ، فإذا طَلعَتِ الشَّمسُ قامَ، وكانوا يَتَحَدَّثونَ فيَأخُذونَ في أمرِ الجاهليَّةِ، فيَضحَكونَ ويَتَبَسَّمُ)) [537] أخرجه مسلم (670). .
2- عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، قال: (مَرَّ عُمَرُ في المَسجِدِ وحَسَّانُ يُنشِدُ، فقال: كُنتُ أُنشِدُ فيه، وفيه مَن هو خَيرٌ مِنك، ثُمَّ التَفتَ إلى أبي هرَيرةَ، فقال: أنشُدُك
[538] نَشَدتُ فُلانًا أَنشُدُه نَشدًا: إذا قُلتَ له: نَشَدتُك اللَّهَ، أي: سَألتُك باللهِ، كَأنَّك ذَكَّرتَه إيَّاه فنَشَدَ، أي: تَذَكَّر. ويُقالُ: نَشَدتُك اللَّهَ، وأَنشُدُك اللَّهَ وباللهِ، وناشَدتُك اللَّهَ وباللهِ: أي: ذَكَّرتُك به واستَعطَفتُك، أو سَألتُك به مُقسِمًا عليك. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 543)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 53)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 605). باللهِ، أسمِعتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «أجِبْ عنِّي، اللهُمَّ أيِّدْه بروحِ القُدُسِ»؟ قال: نَعَم)
[539] أخرجه البخاري (3212) واللَّفظُ له، ومسلم (2485). .