تمهيدٌ في مكانةِ الصَّومِ في الإسلامِ، وبعضِ فضائلِه وحِكَمِه
الصَّومُ عِبادةٌ عظيمةٌ، وأجرُه كبيرٌ، وفوائِدُه وثَمَراتُه كثيرةٌ.
قال تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35] .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((قال اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ له إلَّا الصِّيامَ؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، والصِّيامُ جُنَّةٌ [1257] قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «الصِّيامُ جُنَّةٌ» يَحتَمِلُ أن يَكونَ أرادَ به جُنَّةً مِنَ النَّارِ، ووِقايةً للصَّائِمِ دونَها. ويَحتَمِلُ أن يَكونَ أرادَ أنَّه جُنَّةٌ مِنَ المَعاصي؛ لأنَّه يَكسِرُ الشَّهوةَ ويُضعِفُ القوَّةَ، فيَمتَنِعُ به الصَّائِمُ عن مواقَعةِ المَعاصي، فصارَ كَأنَّه جُنَّةٌ وسِترٌ دونَها). ((أعلام الحديث)) (2/ 939). ، وإذا كان يَومُ صَومِ أحَدِكُم فلا يَرفُثْ [1258] قال ابنُ حَجَرٍ: (والمُرادُ بالرَّفَثِ هنا:... الكَلامُ الفاحِشُ، وهو يُطلقُ على هذا، وعلى الجِماعِ، وعلى مُقدِّماتِه، وعلى ذِكرِه مَعَ النِّساءِ أو مُطلقًا، ويَحتَمِلُ أن يَكونَ لِما هو أعَمُّ مِنها). ((فتح الباري)) (4/104). ولا يَصخَبْ [1259] الصَّخَبُ: الخِصامُ والصِّياحُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/118). ، فإن سابَّه أحَدٌ أو قاتَلَه فليَقُلْ: إنِّي امرُؤٌ صائِمٌ، والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لخُلوفُ [1260] الخُلوفُ: تَغَيُّرُ طَعمِ الفَمِ ورائِحَتِه لإمساكِه عنِ الطَّعامِ والشَّرابِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 331)، ((الزاهر)) لأبي منصور الأزهري (ص: 115). فَمِ الصَّائِمِ أطيبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ، للصَّائِمِ فرحَتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ رَبَّه فَرِح بصَومِه)) [1261] أخرجه البخاري (1904) واللفظ له، ومسلم (1151). .
وفي رِوايةٍ:
((كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ يُضاعَفُ، الحَسَنةُ عَشرُ أمثالِها إلى سَبعِمِائةِ ضِعفٍ، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إلَّا الصَّومَ؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، يَدَعُ شَهوتَه وطَعامَه مِن أجلي، للصَّائِمِ فرحَتانِ: فرحةٌ عِندَ فِطرِه، وفرحةٌ عِندَ لقاءِ رَبِّه)) [1262] أخرجها مسلم (1151). .
وفي رِوايةٍ:
((إنَّ رَبَّكُم عَزَّ وجَلَّ يَقولُ: يا ابنَ آدَمَ، بكُلِّ حَسَنةٍ عَشرُ حَسَناتٍ إلى سَبعِمِائةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كَثيرةٍ، والصَّومُ لي وأنا أجزي به، والصَّومُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، ولخُلوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن ريحِ المِسكِ، وإن جَهِل على أحَدِكُم جاهِلٌ وهو صائِمٌ فليَقُلْ: إنِّي صائِمٌ)) [1263] أخرجها الترمذي (764)، وأحمد (9363) واللفظ له. صححها الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (764)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9363). .
وعنِ الحارِثِ الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللَّهَ أمَر يَحيى بنَ زَكَريَّا بخَمسِ كَلِماتٍ أن يَعمَلَ بهنَّ، وأن يَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بهنَّ، فكادَ أن يُبطِئَ، فقال له عيسى: إنَّك قد أُمِرتَ بخَمسِ كَلِماتٍ أن تَعمَلَ بهنَّ، وأن تَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بهنَّ، فإمَّا أن تُبَلِّغَهنَّ وإمَّا أُبَلِّغَهنَّ، فقال له: يا أخي، إنِّي أخشى إن سَبَقتَني أن أُعَذَّبَ، أو يُخسَفَ بي، قال: فجَمَعَ يَحيى بَني إسرائيلَ في بَيتِ المَقدِسِ، حَتَّى امتَلَأ المَسجِدُ، وقُعِدَ على الشُّرَفِ، فحَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ اللَّهَ أمَرَني بخَمسِ كَلِماتٍ أن أعمَلَ بهنَّ، وآمُرَكُم أن تَعمَلوا بهنَّ...)) وفيه:
((وآمُرُكُم بالصِّيامِ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رَجُلٍ مَعَه صُرَّةٌ مِن مِسكٍ في عِصابةٍ، كُلُّهم يَجِدُ ريحَ المِسكِ، وإنَّ خُلوفَ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ...)) الحديثَ
[1264] أخرجه الترمذي (2863)، وأحمد (17800) واللفظ له. صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (483)، وابن حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1554)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/6)، والعراقي في ((المستخرج على المستدرك)) (89). وقَولُه: ((وإنَّ خُلوفَ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ)) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. .
وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، مُرْني بأمرٍ يَنفعُني اللَّهُ به، قال: عليك بالصِّيامِ؛ فإنَّه لا مِثلَ له)) [1265] أخرجه من طرق النسائي (2221) واللفظ له، وأحمد (22276). صححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2221)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/416)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22276)، وصَحَّح إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (4/126). ورُوِيَ بلفظِ: عن أبي أُمامةَ، قال: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، مُرْني بعَمَلٍ، قال: عليك بالصَّومِ فإنَّه لا عِدْلَ له، قُلتُ: يا رَسول اللهِ، مُرْني بعَمَلٍ، قال: عليك بالصَّومِ فإنَّه لا عِدْلَ له)). أخرجه النسائي (2223) واللَّفظُ له، وأحمد (22149). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((صحيحه)) (3/345)، والألبانيّ في ((صحيح سنن النسائي)) (2223)، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (273)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22149)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (1553). .
وفي رِوايةٍ عن رَجاءِ بنِ حَيوةَ عن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((أنشَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَيشًا، فأتَيتُه، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ادعُ اللَّهَ لي بالشَّهادةِ. قال: اللهُمَّ سَلِّمْهم وغَنِّمْهم. فغَزَونا فسَلِمنا وغَنِمنا، حتَّى ذَكَرَ ذلك ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قال: ثُمَّ أتَيتُه، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أتَيتُك تَترى ثَلاثَ مَرَّاتٍ أسألُك أن تَدعوَ لي بالشَّهادةِ، فقُلتُ: اللهُمَّ سَلِّمْهم وغَنِّمْهم، فسَلِمنا وغَنِمنا يا رَسولَ اللهِ، فمُرْني بعَمَلٍ أدخُلُ به الجَنَّةَ، فقال: عليك بالصَّومِ؛ فإنَّه لا مِثلَ له. قال: فكان أبو أمامةَ لا يُرى في بَيتِه الدُّخانُ نَهارًا إلَّا إذا نَزَل بهم ضَيفٌ، فإذا رَأوا الدُّخانَ نَهارًا عَرَفوا أنَّه قدِ اعتَراهم ضَيفٌ)) [1266] أخرجها أحمد (22140)، وابن حبان (3425) واللفظ له، والطبراني (8/107) (7463). صححها الألباني في ((صحيح الموارد)) (769)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (488)، وصَحَّح إسنادَها على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في ((مسند أحمد)) (22140)، وذكر ابن حبان أن طريقها محفوظ. .
وعن أبي أُمامةَ الباهِليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَن صامَ يَومًا في سَبيلِ اللهِ جَعَل اللَّهُ بَينَه وبَينَ النَّارِ خَندَقًا كَما بَينَ السَّماءِ والأرضِ)) [1267] أخرجه الترمذي (1624)، والروياني في ((المسند)) (1198)، والطبراني (8/281) (7921). حسنه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (563)، وقال الهيتمي المكي في ((الزواجر)) (1/197): صحيح أو حسن. .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مَن صامَ يَومًا في سَبيلِ اللهِ بَعَّدَ اللهُ وجهَه عنِ النَّارِ سَبعينَ خَريفًا)) [1268] أخرجه البخاري (2840) واللفظ له، ومسلم (1153). .
وعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ في الجَنَّةِ بابًا يُقالُ له الرَّيَّانُ، يَدخُلُ مِنه الصَّائِمونَ يَومَ القيامةِ، لا يَدخُلُ مِنه أحَدٌ غَيرُهم، يُقالُ: أينَ الصَّائِمونَ؟ فيَقومونَ لا يَدخُلُ مِنه أحَدٌ غَيرُهم، فإذا دَخَلوا أُغلِقَ فلم يَدخُلْ مِنه أحَدٌ)) [1269] أخرجه البخاري (1896) واللفظ له، ومسلم (1152). .
وفي رِوايةٍ:
((للصَّائِمينَ بابٌ في الجَنَّةِ يُقالُ له الرَّيَّانُ، لا يَدخُلُ فيه أحَدٌ غَيرُهم، فإذا دَخَل آخِرُهم أُغلِقَ، مَن دَخَل فيه شَرِبَ، ومَن شَرِبَ لم يَظمَأْ أبَدًا)) [1270] أخرجها النسائي (2236) واللفظ له، وأحمد (22842). صَحَّحها ابنُ خزيمة، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/288)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2236)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22842). .
وعن عَلقَمةَ، قال: كُنتُ أمشي مَعَ عَبدِ اللَّهِ بمِنًى، فلقيَه عُثمانُ، فقامَ مَعَه يُحَدِّثُه، فقال له عُثمانُ: يا أبا عَبدِ الرَّحمَنِ، ألَا نُزَوِّجُك جاريةً شابَّةً، لعَلَّها تُذَكِّرُك بَعضَ ما مَضى مِن زَمانِك، قال: فقال عَبدُ اللَّهِ: لئِن قُلتَ ذاكَ، لقد قال لنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يا مَعشَر الشَّبابِ، مَنِ استَطاعَ مِنكُمُ الباءةَ فليَتَزَوَّجْ؛ فإنَّه أغَضُّ للبَصَرِ، وأحصَنُ للفَرجِ، ومَن لم يَستَطِعْ فعليه بالصَّومِ؛ فإنَّه له وِجاءٌ [1271] يُقالُ للفَحلِ إذا رُضَّت أُنثَياه: قد وُجِئَ وِجاءً فهو مَوجوءٌ، وقد وجَأتُه. فإن نُزِعَتِ الأُنثَيانِ نَزعًا فهو خَصيٌّ، وقد خَصَيتُه خِصاءً، فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فإنَّه له وِجاءٌ)) يَعني أنَّه يَقطَعُ النِّكاحَ؛ لأنَّ المَوجوءَ لا يَضرِبُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (4/ 15، 16). ) [1272] أخرجه البخاري (5065)، ومسلم (1400) واللفظ له. .
ومِمَّا ورَدَ في فَضلِ صيامِ شَهرِ رَمَضانَ: ما رَواه ابنُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((بُنيَ الإسلامُ على خَمسةٍ: على أن يوحَّدَ اللَّهُ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصيامِ رَمَضانَ، والحَجِّ)) [1273] أخرجه البخاري (8) بنحوه، ومسلم (16) واللفظ له. .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بارِزًا يَومًا للنَّاسِ، فأتاه جِبريلُ فقال: ما الإيمانُ؟ قال: الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه، وكُتُبِه، وبلقائِه، ورُسُلِه، وتُؤمِنَ بالبَعثِ. قال: ما الإسلامُ؟ قال: الإسلامُ: أن تَعبُدَ اللَّهَ ولا تُشرِكَ به شَيئًا، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكاةَ المَفروضةَ، وتَصومَ رَمَضانَ. قال: ما الإحسانُ؟ قال: أن تَعبُدَ اللَّهَ كَأنَّك تَراه، فإن لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراك)) [1274] أخرجه البخاري (50) واللَّفظُ له، ومسلم (9). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِه، ومَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفرَ له ما تَقدَّم مِن ذَنبِه)) [1275] أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ:
((الصَّلواتُ الخَمسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ: مُكَفِّراتٌ ما بَينَهنَّ إذا اجتَنَبَ الكَبائِرَ)) [1276] أخرجه مسلم (233). .
وعن عَمرِو بنِ مُرَّةَ الجُهنَيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ إن شَهِدتُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّك رَسولُ اللهِ، وصَلَّيتُ الصَّلواتِ الخَمسَ، وأدَّيتُ الزَّكاةَ، وصُمتُ رَمَضانَ وقُمتُه، فمِمَّن أنا؟ قال: مِنَ الصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ)) [1277] أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمَدُ (../81) بزيادة "ما لم يَعُقَّ والِدَيه"، وابن خُزَيمة (2212)، وابن حبان (3438) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ خُزَيمة، وابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2515)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1017)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (../81). .
وعن سَليمِ بنِ عامِرٍ، قال: سَمِعتُ أبا أمامةَ يَقولُ:
((سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ في حَجَّةِ الوداعِ، فقال: اتَّقوا اللَّهَ رَبَّكُم، وصَلُّوا خَمسَكم، وصوموا شَهرَكُم، وأدُّوا زَكاةَ أموالِكُم، وأطيعوا ذا أمرِكُم، تَدخُلوا جَنَّةَ رَبِّكُم. قال: فقُلتُ لأبي أُمامةَ: مُنذُ كَم سَمِعتَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحَديثَ؟ قال: سَمِعتُه وأنا ابنُ ثَلاثينَ سَنةً)) [1278] أخرجه الترمذي (616) واللفظ له، وأحمد (22161). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4563)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (19)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (616)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (2759)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. .
قال ابنُ القَيِّمِ: (لَمَّا كان المَقصودُ مِنَ الصِّيامِ حَبسَ النَّفسِ عنِ الشَّهَواتِ، وفِطامَها عنِ المَألوفاتِ، وتَعديلَ قوَّتِها الشَّهوانيَّةِ؛ لتَستَعِدَّ لطَلَبِ ما فيه غايةُ سَعادَتِها ونَعيمِها، وقَبولِ ما تَزكو به مِمَّا فيه حَياتُها الأبَديَّةُ، ويَكسِرُ الجوعُ والظَّمَأُ مِن حِدَّتِها وسَورتِها، ويُذَكِّرُها بحالِ الأكبادِ الجائِعةِ مِنَ المَساكينِ. وتَضيقُ مَجاري الشَّيطانِ مِنَ العَبدِ بتَضييقِ مَجاري الطَّعامِ والشَّرابِ، وتُحبَسُ قوى الأعضاءِ عنِ استِرسالِها لحُكمِ الطَّبيعةِ فيما يَضُرُّها في مَعاشِها ومَعادِها، ويَسكُنُ كُلُّ عُضوٍ مِنها وكُلُّ قوَّةٍ عن جِماحِه، وتُلجَمُ بلجامِه؛ فهو لجامُ المُتَّقينَ، وجُنَّةُ المُحارِبينَ، ورياضةُ الأبرارِ والمُقَرَّبينَ، وهو لرَبِّ العالمينَ مِن بَينِ سائِرِ الأعمالِ؛ فإنَّ الصَّائِمَ لا يَفعَلُ شَيئًا، وإنَّما يَترُكُ شَهوتَه وطَعامَه وشَرابَه مِن أجلِ مَعبودِه، فهو تَركُ مَحبوباتِ النَّفسِ وتلذُّذاتِها إيثارًا لمَحَبَّةِ اللهِ ومَرضاتِه، وهو سِرٌّ بَينَ العَبدِ ورَبِّه لا يَطَّلِعُ عليه سِواه، والعِبادُ قد يَطَّلِعونَ مِنه على تَركِ المُفطِراتِ الظَّاهرةِ، وأمَّا كَونُه تَركَ طَعامَه وشَرابَه وشَهوتَه مِن أجلِ مَعبودِه، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بشَرٌ، وذلك حَقيقةُ الصَّومِ.
وللصَّومِ تَأثيرٌ عَجيبٌ في حِفظِ الجَوارِحِ الظَّاهِرةِ والقوى الباطِنةِ، وحِميَتِها عنِ التَّخليطِ الجالِبِ لها المَوادَّ الفاسِدةَ التي إذا استَولت عليها أفسَدَتها، واستِفراغِ المَوادِّ الرَّديئةِ المانِعةِ لها مِن صِحَّتِها، فالصَّومُ يَحفَظُ على القَلبِ والجَوارِحِ صِحَّتَها، ويُعيدُ إليها ما استَلبَته مِنها أيدي الشَّهَواتِ، فهو مِن أكبَرِ العَونِ على التَّقوى، كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الصَّومُ جُنَّةٌ»
[1279] أخرجه البخاري (7492) واللفظ له، ومسلم (1151) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: الصَّومُ لي وأنا أجزِي به، يَدَعُ شَهوَتَهُ وأَكلَهُ وشُربَهُ مِن أجْلِي، والصَّومُ جُنَّةٌ، ولِلصَّائمِ فَرحَتانِ: فَرحةٌ حِينَ يُفطِرُ، وفَرحةٌ حِينَ يَلقَى رَبَّه، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسكِ)). .
وأمَرَ مَنِ اشتَدَّت عليه شَهوةُ النِّكاحِ ولا قُدرةَ له عليه، بالصِّيامِ، وجَعَله وِجاءَ هذه الشَّهوةِ
[1280] لفظُه: عن عَلقَمةَ، قال: بَيْنَا أنا أمشي مع عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال: ((كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: مَنِ استَطاعَ البَاءَةَ فَلْيَتزَوَّجْ؛ فإنَّه أغَضُّ لِلبَصَرِ، وأَحصَنُ لِلفَرجِ، ومَن لم يَستَطِعْ فعليه بالصَّومِ؛ فإنَّه له وِجَاءٌ)). أخرجه البخاري (1905) واللفظ له، ومسلم (1400). .
والمَقصودُ أنَّ مَصالحَ الصَّومِ لَمَّا كانت مَشهودةً بالعُقولِ السَّليمةِ والفِطَرِ المُستَقيمةِ، شَرَعَه اللهُ لعِبادِه رَحمةً بهم، وإحسانًا إليهم وحِميَةً لهم وجُنَّةٌ.
وكان هَديُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه أكمَلَ الهَديِ، وأعظَمَ تَحصيلٍ للمَقصودِ، وأسهَلَه على النُّفوسِ.
ولَمَّا كان فَطمُ النُّفوسِ عن مَألوفاتِها وشَهَواتِها مِن أشَقِّ الأُمورِ وأصعَبِها، تَأخَّرَ فَرضُه إلى وسَطِ الإسلامِ بَعدَ الهجرةِ، لمَّا تَوطَّنَتِ النُّفوسُ على التَّوحيدِ والصَّلاةِ، وألِفَت أوامِرَ القُرآنِ، فنُقِلَت إليه بالتَّدريجِ...
ولمَّا كان صَلاحُ القَلبِ واستِقامَتُه على طَريقِ سَيرِه إلى اللهِ تعالى مُتَوقِّفًا على جَمعيَّتِه على اللهِ، ولمِّ شَعَثِه بإقبالِه بالكُلِّيَّةِ على اللهِ تعالى، فإنَّ شَعَثَ القَلبِ لا يَلُمُّه إلَّا الإقبالُ على اللهِ تعالى، وكان فُضولُ الطَّعامِ والشَّرابِ، وفُضولُ مُخالطةِ الأنامِ، وفُضولُ الكَلامِ، وفُضولُ المَنامِ: مِمَّا يَزيدُه شَعَثًا، ويُشَتِّتُه في كُلِّ وادٍ، ويَقطَعُه عن سَيرِه إلى اللهِ تعالى، أو يُضعِفُه أو يَعوقُه ويوقِفُه- اقتَضَت رَحمةُ العَزيزِ الرَّحيمِ بعِبادِه أن شَرَعَ لهم مِنَ الصَّومِ ما يُذهِبُ فُضولَ الطَّعامِ والشَّرابِ، ويَستَفرِغُ مِنَ القَلبِ أخلاطَ الشَّهَواتِ المُعَوِّقة له عن سَيرِه إلى اللهِ تعالى، وشَرَعَه بقدرِ المَصلحةِ، بحَيثُ يَنتَفِعُ به العَبدُ في دُنياه وأُخراه، ولا يَضُرُّه ولا يَقطَعُه عن مَصالحِه العاجِلةِ والآجِلةِ)
[1281] ((زاد المعاد)) (2/ 27، 28، 82). .
هذا، وللصَّومِ آدابٌ يَنبَغي التَّأدُّبُ بها، وفيما يَلي نَذكُرُ أهَمَّ هذه الآدابِ: