تاسعًا: مَودَّةُ أهلِ بَيتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَوقيرُهم
مِنَ الأدَبِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَودَّةُ أهلِ بيتِه وتَوقيرُهم والإحسانُ إليهم
[530] قال البَغويُّ: (مَودَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكفُّ الأذى عنه، ومَودَّةُ أقارِبِه... مِن فرائِضِ الدِّينِ). ((معالم التنزيل)) (7/ 192). وقال ابنُ تيميَّةَ في بيانِ اعتِقادِ الفِرقةِ النَّاجيةِ المَنصورةِ إلى قيامِ السَّاعةِ؛ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: (ويُحِبُّونَ أهلَ بَيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَتَولَّونَهم، ويَحفَظونَ فيهم وصيَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ قال يَومَ غَديرِ خُمٍّ: «أذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أهلِ بيتي، أذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أهلِ بيتي»)). ((العقيدة الواسطية)) (ص: 118). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23] .
فقَولُه:
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: لا تُؤذوا قَرابَتي وعِترَتي
[531] العِترةُ: نَسلُ الإنسانِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/391). ، واحفَظوني فيهم. وهذا على قَولٍ في التَّفسيرِ
[532] والقَولُ الثَّاني في تَفسيرِ قَولِه تعالى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى: 23] : لكِنِّي أطلُبُ مِنكُم أن تَوَدُّوني في قَرابَتي مِنكُم، وتَصِلوا الرَّحِمَ التي بيني وبينَكُم، فتَكُفُّوا عنِّي أذاكُم، وتَمنَعوني مِن أذى النَّاسِ. وهذا تَفسيرُ ابنِ عَبَّاسٍ والأكثَرينَ. قال ابنُ كثيرٍ: (والحَقُّ تَفسيرُ الآيةِ بما فسَّرَها به الإمامُ حَبرُ الأمَّةِ، وتُرجُمانُ القُرآنِ عَبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ... ولا تُنكَرُ الوَصاةُ بأهلِ البيتِ، والأمرُ بالإحسانِ إليهم، واحتِرامُهم وإكرامُهم؛ فإنَّهم مِن ذُرِّيَّةٍ طاهرةٍ، مِن أشرَفِ بيتٍ وُجِدَ على وَجهِ الأرضِ؛ فَخرًا وحَسَبًا ونَسَبًا، ولا سيَّما إذا كانوا مُتَّبِعينَ للسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ الصَّحيحةِ الواضِحةِ الجَليَّةِ، كما كان عليه سَلَفُهم، كالعَبَّاسِ وبَنيه، وعليٍّ وأهلِ بيتِه وذُرِّيَّتِه، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ). ((تفسير القرآن العظيم)) (7/ 201). ويُنظر: ((النكت والعيون)) للماوردي (5/ 202)، ((معالم التنزيل)) للبغوي (7/ 191). .
قال السُّيوطيُّ: (قَولُه تعالى:
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فيه وُجوبُ مَحَبَّةِ قَرابَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فمَحَبَّتُه أَولى)
[533] ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 230). ويُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (27/ 596). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن يَزيدَ بنِ حيَّانَ، قال: انطَلقتُ أنا وحُصَينُ بنُ سَبرةَ، وعُمَرُ بنُ مُسلِمٍ، إلى زيدِ بنِ أرقَمَ، فلمَّا جَلَسنا إليه قال له حُصَينٌ: لقَد لَقِيتَ يا زيدُ خيرًا كثيرًا؛ رَأيتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسَمِعتَ حَديثَه، وغَزَوتَ مَعَه، وصَلَّيتَ خَلفَه، لقَد لَقِيتَ يا زيدُ خَيرًا كثيرًا! حَدِّثْنا يا زيدُ ما سَمِعتَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: يا ابنَ أخي، واللهِ لقَد كَبِرَت سِنِّي، وقَدُمَ عَهدي، ونَسيتُ بَعضَ الذي كُنتُ أعي مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما حَدَّثتُكُم فاقبَلوا، وما لا فلا تُكلِّفونيه، ثُمَّ قال:
((قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا فينا خَطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا بينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ووعَظَ وذَكَّرَ، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، ألَا أيُّها النَّاسُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ يوشِكُ أن يَأتيَ رَسولُ رَبِّي فأُجيبَ! وأنا تارِكٌ فيكُم ثَقَلَينِ [534] قال النَّوويُّ: (قال العُلَماءُ: سُمِّيا ثَقَلينِ؛ لعِظَمِهما، وكَبيرِ شَأنِهما. وقيل: لثِقَلِ العَمَلِ بهما). ((شرح مسلم)) (15/ 180). : أوَّلُهما كِتابُ اللهِ، فيه الهدى والنُّورُ؛ فخُذوا بكِتابِ اللهِ، واستَمسِكوا به. فحَثَّ على كِتابِ اللهِ ورَغَّبَ فيه، ثُمَّ قال: وأهلُ بيتي أذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أهلِ بَيتي، أذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أهلِ بيتي، أذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أهلِ بيتي. فقال له حُصَينٌ: ومَن أهلُ بيتِه؟ يا زيدُ أليس نِساؤُه مِن أهلِ بيتِه؟ قال: نِساؤُه مِن أهلِ بيتِه، ولكِنْ أهلُ بيتِه مَن حُرِمَ الصَّدَقةَ بَعدَه، قال: ومَن هم؟ قال: هم آلُ عَليٍّ، وآلُ عَقيلٍ، وآلُ جَعفَرٍ، وآلُ عَبَّاسٍ، قال: كُلُّ هؤلاء حُرِمَ الصَّدَقةَ؟ قال: نَعَم)) [535] أخرجه مسلم (2408). .
2- عنِ المِسوَرِ بنِ مَخرَمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((فاطِمةُ بَضعةٌ [536] بَضعةٌ مني: أي: قِطعةٌ، وأصلُه في اللَّحمِ، أي: أنَّها جُزءٌ مِنِّي، كَما أنَّ القِطعةَ مِنَ اللَّحمِ جُزءٌ مِنَ اللَّحمِ. يُنظر: ((المجموع المغيث)) لأبي موسى المديني (1/ 165)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 133). مِنِّي، فمَن أغضَبَها أغضَبَني)) [537] أخرجه البخاري (3714). .
وفي لَفظٍ:
((إنَّما فاطِمةُ بَضعةٌ مِنِّي، يُؤذيني ما آذاها)) [538] أخرجه مسلم (2449). .
3- عن زِرٍّ، قال: قال عليٌّ:
((والذي فلَقَ [539] الفَلْقُ، بالسُّكونِ: الشَّقُّ، ومِنه الحَديثُ: ((فالِقُ الحَبِّ والنَّوى)) [أخرجه مسلم (2713) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((اللهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ ورَبَّ الأرضِ ورَبَّ العَرشِ العَظيمِ، رَبَّنا ورَبَّ كُلِّ شَيءٍ، فالِقَ الحَبِّ والنَّوى...))]، أي: الذي يَشُقُّ حَبَّةَ الطَّعامِ ونَوى التَّمرِ للإنباتِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 471). الحَبَّةَ، وبَرَأ النَّسَمةَ [540] البارِئُ مَعناه في كَلامِ العَرَبِ: الخالقُ؛ يُقالُ: بَرَأ اللهُ عِبادَه يَبْرَؤهم برءًا: إذا خَلقَهم. والنَّسَمةُ: النَّفسُ، فكُلُّ دابَّةٍ فيها روحٌ فهيَ نَسَمةٌ، والنَّسَمُ: الرُّوحُ، فبَرَأ النَّسَمةَ، أي: خَلَق ذاتَ الرُّوحِ. يُنظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 37)، ((الزاهر)) لابن الأنباري (1/ 87)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/ 1833)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 49). ، إنَّه لعَهدُ النَّبيِّ الأمِّيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليَّ: أن لا يُحِبَّني إلَّا مُؤمِنٌ، ولا يُبغِضَني إلَّا مُنافِقٌ)) [541] أخرجه مسلم (78). .
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَعَه حَسَنٌ وحُسَينٌ، هذا على عاتِقِه، وهذا على عاتِقِه، وهو يَلثِمُ [542] يَلثِمُ: يُقَبِّلُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2027). هذا مَرَّةً، وهذا مَرَّةً، حتَّى انتَهى إلينا، فقال له رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّك تُحِبُّهما! فقال: مَن أحَبَّهما فقَد أحَبَّني، ومَن أبغَضَهما فقَد أبغَضَني)) [543] أخرجه أحمد (9673) واللفظ له، والبزار (9410)، والحاكم (4841). حسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9673)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، ووثَّق رجالَ إسنادِه الشوكاني في ((در السحابة)) (239). .
5- عن زُهيرِ بنِ الأقمَرِ، قال: بينَما الحَسَنُ بنُ عَليٍّ يَخطُبُ بَعدَما قُتِل عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه إذ قامَ رَجُلٌ مِنَ الأزدِ آدَمُ طُوالٌ، فقال:
((لقَد رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واضِعَه في حَبوتِه [544]الاحتِباءُ: هو أن يَضُمَّ الإنسانُ رِجلَيه إلى بَطنِه بثَوبٍ يَجمَعُهما به مَعَ ظَهرِه، ويَشُدُّه عليها. وقد يَكونُ الاحتِباءُ باليَدَينِ عِوَضَ الثَّوبِ، يُقالُ: احتَبى يَحتَبي احتِباءً، والاسمُ الحبْوةُ، بالكَسرِ والضَّمِّ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 335، 336). يَقولُ: مَن أحَبَّني فليُحِبَّه، فليُبلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ)). ولولا عَزمةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[545]عَزمةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: قَولُه: ((فليُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ)). والعَزمةُ: الحَقُّ والواجِبُ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (2/ 92)، ((الفتح الرباني ومعه بلوغ الأماني)) للساعاتي (23/ 165). ما حَدَّثتُكُم
[546] أخرجه أحمد (23106) واللفظ له، وابن أبي شيبة (32852)، والحاكم (4874). صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1480)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23106). .
6- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((والذي نَفسي بيَدِه لا يُبغِضُنا -أهلَ البيتِ- رَجُلٌ إلَّا أدخَله اللهُ النَّارَ)) [547] أخرجه من طُرُقٍ: البزَّارُ كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (3348)، وابن حبان (6978) واللفظ له، والحاكم (4717). صحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط مسلم، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2488)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (6978). .
ج- مِن الآثارِ1- قال أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (ارقُبوا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أهلِ بَيتِه)
[548] أخرجه البخاري (3713). .
2- وقال أبو بكرٍ أيضًا: (والذي نَفسي بيَدِه لقَرابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إليَّ أن أصِلَ مِن قَرابَتي)
[549] أخرجه البخاري (3712)، ومسلم (1759). .
فَوائِدُ:إحسانُ القولِ في الصحابةِ وأمَّهاتِ المؤمنينَ براءةٌ مِن النِّفاقِقال أبو جَعفَرٍ الطَّحاويُّ في بيانِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: (مَن أحسَنَ القَولَ في أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأزواجِه الطَّاهِراتِ مِن كُلِّ دَنَسٍ، وذُرِّيَّاتِه المُقَدَّسينَ مِن كُلِّ رِجسٍ؛ فقَد بَرِئَ مِنَ النِّفاقِ)
[550] ((متن الطحاوية)) (ص: 82). .
زَوجاتُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أهلِ بيتِه قال ابنُ عُثَيمين في قَولِه تعالى:
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت: 32]: (الزَّوجةُ داخِلةٌ في الأهلِ؛ لقَولِ المَلائِكةِ:
لِنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ استَثنَوا مِن ذلك امرَأتَه... والأصلُ في الاستِثناءِ الاتِّصالُ؛ لأنَّه لولا أنَّه مِنَ المُستَثنى ما احتيجَ إلى إخراجِه.
ويَنبَني على هذه الفائِدةِ أنَّ أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ بيتِه ولا شَكَّ، خِلافًا للرَّافِضةِ الذينَ يُخرِجونَ زَوجاتِه مِن أهلِ بيتِه، وفي القُرآنِ ما يَدُلُّ على ذلك صَريحًا؛ قال تعالى:
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] )
[551] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 162). .