موسوعة الآداب الشرعية

عاشرًا: الصَّلاةُ والسَّلامُ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما ذُكِرَ اسمُه


مِنَ الأدَبِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاةُ والسَّلامُ عليه حالَ ذِكرِ اسمِه الشَّريفِ أو سَماعِ المَرءِ له مِن غَيرِه [552] قال عِياضٌ: (اعلَمْ أنَّ الصَّلاةَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرضٌ على الجُملةِ غيرُ مُحَدَّدٍ بوَقتٍ؛ لأمرِ اللهِ تعالى بالصَّلاةِ عليه، وحَملِ الأئِمَّةِ والعُلماءِ له على الوُجوبِ، وأجمَعوا عليه. وحَكى أبو جَعفَرٍ الطَّبَريُّ أنَّ مَحمَلَ الآيةِ عِندَه على النَّدبِ، وادَّعى فيه الإجماعَ، ولعَلَّه فيما زادَ على مَرَّةٍ. والواجِبُ مِنه الذي يَسقُطُ به الجَرحُ ومَأثَمُ تَركِ الفَرضِ: مَرَّةٌ، كالشَّهادةِ له بالنُّبوَّةِ، وما عَدا ذلك فمَندوبٌ مُرَغَّبٌ فيه، مِن سُنَنِ الإسلامِ وشِعارِ أهلِه). ((الشفا)) (2/ 61). ويُنظر: ((تهذيب الآثار- الجزء المفقود)) للطبري (ص: 224-230)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 382). ويُنظَرُ لمَواطِنِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي يَتَأكَّدُ طَلبُها إمَّا وُجوبًا وإمَّا استِحبابًا مُؤَكَّدًا: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 327)، ((القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع)) للسخاوي (ص: 175). وسيأتي ذكرُ أهمِّ هذه المواطنِ في الفوائدِ والمسائلِ. .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
-قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] .
عن أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في مجلِسِ سَعدِ بنِ عُبادةَ، فقال له بَشيرُ بنُ سَعدٍ: أمَرَنا اللهُ تعالى أن نُصَلِّيَ عليك يا رَسولَ اللهِ، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: فسَكَت رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى تمنَّينا أنَّه لم يسأَلْه! ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ في العالَمينَ؛ إنَّك حميدٌ مَجيدٌ. والسَّلامُ كما قد عَلِمْتُم)) [553] أخرجه مسلم (405). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، هذا التَّسليمُ فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبدِك ورَسولِك، كما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كما بارَكتَ على إبراهيمَ)) [554] أخرجه البخاري (4798). .
وعن أبي حَميدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّهم قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كيف نُصَلِّي عليك؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه، كما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه، كما بارَكتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ)) [555] أخرجه البخاري (3369) واللفظ له، ومسلم (407). .
وعنِ ابنِ أبي ليلى، قال: لقيَني كَعبُ بنُ عُجرةَ، فقال: ألَا أُهدي لك هَديَّةً؟ خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلْنا: قَد عَرَفنا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: ((قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، اللَّهُمَّ بارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كما بارَكتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ)) [556] أخرجه البخاري (4797)، ومسلم (406) واللفظ له. .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن ذُكِرتُ عِندَه فليُصَلِّ عليَّ، ومَن صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صلَّى اللهُ عليه عَشرًا)) [557] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9889)، والطيالسي (2236) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2767). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6246)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (7/383)، وصحَّح إسناده ابن القيم في ((جلاء الأفهام)) (543)، والصنعاني في ((العدة على الأحكام)) (2/406)، وجوده النووي في ((الأذكار)) (155)، والزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/132). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا سَمِعتُمُ المُؤَذِّنَ فقُولُوا مِثلَ ما يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فإنَّه مَن صَلَّى علَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عليه بها عَشرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ ليَ الوسيلةَ؛ فإنَّها مَنزِلةٌ في الجَنَّةِ لا تَنبَغي إلَّا لِعَبدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمَن سَألَ ليَ الوَسيلةَ حَلَّت له الشَّفاعةُ)) [558] أخرجه مسلم (384). .
3- عن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكثِروا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ في كُلِّ يَومِ جُمُعةٍ؛ فإنَّ صَلاةَ أُمَّتي تُعرَضُ عليَّ في كُلِّ يَومِ جُمُعةٍ، فمَن كان أكثَرَهم عليَّ صَلاةً كان أقرَبَهم مِنِّي مَنزِلةً)) [559] أخرجه البيهقي (6208). حسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1673)، وجود إسناده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/190)، وحسنه الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (57)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/172): لا بأسَ بسَنَدِه. .
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَجعَلوا بُيوتَكُم قُبورًا، ولا تَجعَلوا قَبري عيدًا [560] العيدُ: اسمٌ لِما يعودُ مِنَ الاجتِماعِ العامِّ على وجهٍ مُعتادٍ، عائِدًا إمَّا بعَودِ السَّنةِ أو بعَودِ الأُسبوعِ أوِ الشَّهرِ ونَحوِ ذلك، فهو ما يَعتادُ مَجيئُه وقَصدُه مِن زَمانٍ ومَكانٍ، مَأخوذٌ مِنَ المُعاودةِ والاعتيادِ، فإذا كان اسمًا للمَكانِ فهو المَكانُ الذي يُقصَدُ الاجتِماعُ فيه وانتيابُه للعِبادةِ أو لغَيرِها، كَما أنَّ المَسجِدَ الحَرامَ ومِنًى ومُزدَلِفةَ وعَرَفةَ والمَشاعِرَ جَعَلها اللهُ تعالى عيدًا للحُنَفاءِ ومَثابةً، كَما جَعَل أيَّامَ التَّعَبُّدِ فيها عيدًا، والمَعنى: لا تَجعَلوا زيارةَ قَبري عيدًا، أي: لا تَتَرَدَّدوا على قَبري وتَعتادوا ذلك، سَواءٌ قُيِّدَ ذلك بالسَّنةِ أو بالشَّهرِ أو بالأُسبوعِ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن ذلك، وإنَّما يُزارُ لسَبَبٍ، كَما لو قدِمَ الإنسانُ مِن سَفَرٍ، فذَهَبَ إلى قَبرِه فزارَه، أو زارَه ليَتَذَكَّرَ الآخِرةَ كَغَيرِه مِنَ القُبورِ، أو مَعناه: النَّهيُ عنِ الاجتِماعِ لزيارَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اجتِماعَهم للعيدِ مِنَ الأيَّامِ، وقد كانتِ اليَهودُ والنَّصارى يَجتَمِعونَ لزيارةِ قُبورِ أنبيائِهم ويَشتَغِلونَ باللَّهوِ والطَّرَبِ مَعَ آبائِهم وأبنائِهم ونِسائِهم، فنَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه عن ذلك تَحذيرًا لهم عَمَّا يَقَعُ مِنَ الفسادِ هنالك. يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 496)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 190)، ((شرح الشفا)) للقاري (2/ 144)، ((القول المفيد)) لابن عثيمين (1/ 447). ، وصَلُّوا عَلَيَّ؛ فإنَّ صَلاتَكم تَبلُغُني حيثُ كُنتُم)) [561] أخرجه أبو داود (2042) واللفظ له، وأحمد (8804). صحَّحه لغيره الألباني في ((هداية الرواة)) (886)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2042)، وحسَّنه ابنُ تيمية في ((الإخنائية)) (265)، ومحمد ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (207)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (3/314) .
5- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ للَّهِ مَلائِكةً سيَّاحينَ [562] سَيَّاحينَ، أي: ذاهبينَ وسيَّارينَ بكَثرةٍ في ساحةِ الأرضِ، مِنَ السِّياحةِ، وهيَ السَّيرُ، يُقالُ: ساحَ يَسيحُ سياحةً: إذا ذَهَبَ على وَجهِ الأرضِ، وأصلُه مِنَ السَّيحِ، وهو الماءُ الجاري المُنبَسِطُ على الأرضِ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (2/ 162)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (3/ 1043)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/ 743)، ((التيسير)) للمناوي (1/ 329). في الأرضِ يُبَلِّغوني مِن أمَّتي السَّلامَ)) [563] أخرجه النسائي (1282)، وأحمد (4320). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (914)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (4/179)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1282)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (866). .
6- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن أحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللهُ علَيَّ رُوحي حتَّى أرُدَّ عليه السَّلامَ)) [564] أخرجه أبو داود (2041) واللفظ له، وأحمد (10815). جوده ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (27/116)، وحسَّنه ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/31)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2041) (5/31)، وجود إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/299)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/409)، وحسنه السخاوي في ((القول البديع)) (229). .
7- عن حُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((البَخيلُ الذي مِن ذُكِرتُ عِندَه فلم يُصَلِّ علَيَّ)) [565] أخرجه الترمذي (3546) واللفظ له، وأحمد (1736). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (909)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3546)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/172): لا يقصُرُ على دَرجةِ الحَسَنِ، قال السخاوي في ((القول البديع)) (215): له شاهِدٌ في الجملةِ فلا يقصُرُ هذا الحديثُ عن درجةِ الحَسَنِ. .
8-عن كَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((احضُروا المِنبَرَ فحَضَرنا، فلمَّا ارتَقى دَرَجةً قال: آمينَ، فلمَّا ارتَقى الدَّرَجةَ الثَّانيةَ قال: آمينَ، فلمَّا ارتَقى الدَّرَجةَ الثَّالثةَ قال: آمينَ، فلمَّا نَزَل قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، لقَد سَمِعنا مِنك اليَومَ شيئًا ما كُنَّا نَسمَعُه، قال: إنَّ جِبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَرَضَ لي فقال: بُعدًا لمَن أدرَك رَمَضانَ فلم يُغفَرْ له! قُلتُ: آمينَ، فلمَّا رَقِيتُ الثَّانيةَ قال: بُعدًا لمَن ذُكِرتَ عِندَه فلم يُصَلِّ عليك! قُلتُ: آمينَ، فلمَّا رَقِيتُ الثَّالثةَ قال: بُعدًا لمَن أدرَك أبَواه الكِبَرَ عِندَه أو أحَدُهما فلم يُدخِلاه الجَنَّةَ! قُلتُ: آمينَ)) [566] أخرجه الطبراني (19/144) (315)، والحاكم (7256) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1572). صحَّحه بشواهده الألباني في ((فضل الصلاة)) (19)، وصحَّح إسناده الحاكم، ووثَّق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/169)، والسخاوي في ((القول البديع)) (207)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/323). .
9- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ارتَقى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المِنبَرِ دَرَجةً فقال: آمينَ، ثُمَّ ارتَقى الثَّانيةَ فقال: آمينَ، ثُمَّ ارتَقى الثَّالثةَ فقال: آمينَ، ثُمَّ استَوى فجَلسَ، فقال أصحابُه: عَلامَ أمَّنتَ؟ قال: أتاني جِبريلُ فقال: رَغِمَ أنفُ [567] رَغِمَ يَرغَمُ رَغمًا ورِغمًا ورُغمًا، وأرغَمَ اللهُ أنفَه: أي ألصَقَه بالرَّغامِ، وهو التُّرابُ، وقيل: هو الرَّملُ ليسَ بدَقيقٍ جِدًّا، فليسَ هو بالذي يَسيلُ مِنَ اليَدِ. هذا هو الأصلُ، ثُمَّ استُعمِل في الذُّلِّ والعَجزِ عنِ الانتِصافِ، والانقيادِ على كُرهٍ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لإبراهيم الحربي (3/ 1077)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/ 130)، ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1934)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 238). امرِئٍ ذُكِرتَ عِندَه فلم يُصَلِّ عليك! فقُلتُ: آمينَ، فقال: رَغِمَ أنفُ امرِئٍ أدرَك أبَويه فلم يَدخُلِ الجَنَّةَ! فقُلتُ: آمينَ، فقال: رَغِمَ أنفُ امرِئٍ أدرَك رَمَضانَ فلم يُغفَرْ له! فقُلتُ: آمينَ)) [568] أخرجه ابن أبي شيبة كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (6/495)، والبزار (6252)، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1362). صحَّحه بشواهده الألباني في ((فضل الصلاة)) (19)، وحسَّنه العراقي في ((الأربعون العشارية)) (195)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (129). .
فَوائِدُ ومَسائِلُ:
كتابةُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليه عِندَ كِتابةِ اسمِه
قال الخَطيبُ البَغداديُّ في رَسمِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الكِتابِ: (يَنبَغي إذا كتَبَ اسمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَكتُبَ مَعَه الصَّلاةَ عليه) [569] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 270). .
وقال ابنُ الصَّلاحِ: (يَنبَغي له أن يُحافِظَ على كِتْبةِ الصَّلاةِ والتَّسليمِ على رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم عِندَ ذِكرِه، ولا يَسأمَ مِن تَكريرِ ذلك عِندَ تَكرُّرِه؛ فإنَّ ذلك مِن أكبَرِ الفوائِدِ التي يَتَعَجَّلُها طَلَبةُ الحَديثِ وكَتَبتُه، ومَن أغفَل ذلك حُرِمَ حَظًّا عَظيمًا، وقد رُوِّينا لأهلِ ذلك مَناماتٍ صالحةً) [570] ((معرفة أنواع علوم الحديث)) (ص: 188). .
وقال السَّخاويُّ: (أمَّا الصَّلاةُ عليه عِندَ كِتابةِ اسمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما فيه مِنَ الثَّوابِ، وذَمُّ مَن أغفَلَه؛ فاعلَمْ أنَّه كما تُصَلِّي عليه بلسانِك فكذلك خُطَّ الصَّلاةَ عليه ببَنانِك مَهما كتَبتَ اسمَه الشَّريفَ في كِتابٍ؛ فإنَّ لك به أعظَمَ الثَّوابِ، وهذه فضيلةٌ يَفوزُ بها أتباعُ الآثارِ، ورُواةُ الأخبارِ، وحَمَلةُ السُّنَّةِ، فيا لها مِن مِنَّةٍ! وقد استَحَبَّ أهلُ العِلمِ أن يُكرِّرَ الكاتِبُ الصَّلاةَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما كتَبَه) [571] ((القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع)) (ص: 247). ويُنظر: ((فتح المغيث بشرح ألفية الحديث)) للسخاوي (3/ 68). .
اختِصارُ الصَّلاةِ والسَّلامِ في الكتابةِ
مِنَ الجَفاءِ اختِصارُ الصَّلاةِ والسَّلامِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والرَّمزُ إليهما بحَرفٍ أو حُروفٍ، كـ: ص، أو صم، أو صلم، أو صلعم، ونَحوِ ذلك!
قال الفَيروزآباديُّ: (لا يَنبَغي أن تَرمُزَ الصَّلاةَ كما يَفعَلُه بَعضُ الكُسالى والجَهلةِ وعَوامِّ الطَّلبةِ، فيَكتُبونَ صورةَ "صلعم" بَدَلًا مِن: "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"!) [572] ((الصِّلات والبُشَر في الصلاة على خير البشر)) (ص: 114). ويُنظر: ((فتح المغيث بشرح ألفية الحديث)) للسخاوي (3/ 72). .
وقال ابنُ جَماعةَ: (كُلَّما كتَبَ اسمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَتَب عليه بَعدُ: الصَّلاةَ عليه والسَّلامَ، ويُصَلِّي هو عليه بلِسانِه أيضًا.
وجَرَت عادةُ السَّلَفِ والخَلَفِ بكِتابةِ "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ولعَلَّ ذلك لقَصدِ موافَقةِ الأمرِ في الكِتابِ العَزيزِ في قَولِه: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] .
ولا يَختَصِر الصَّلاةَ في الكِتابةِ -ولو وقَعَت في السَّطرِ مِرارًا- كما يَفعَلُ بَعضُ المَحرومينَ المُتَخَلِّفينَ، فيَكتُبُ: صلع، أو صلم، أو صلسلم، وكُلُّ ذلك غيرُ لائِقٍ بحَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد ورَدَ في كِتابةِ الصَّلاةِ بكَمالِها وتَركِ اختِصارِها آثارٌ كثيرةٌ) [573] ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 130). وقد وصَف أحمَد مُحَمَّد شاكِر هذا الرمزَ "صلعم"، بأنَّه الاصطلاحُ السَّخيفُ لبعضِ المتأخرينَ في اختصارِ كتابةِ الصلاةِ على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. يُنظر: ((مسند أحمد)) بتحقيق أحمد شاكر (4/ 505). ويُنظر أيضًا: ((معجم المناهي اللفظية)) لبكر أبو زيد (ص: 341، 342). .
صِيَغُ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
مِنَ الصِّيَغِ الثَّابتةِ في الصَّلاةِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
1- اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، اللهُمَّ بارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ.
فعن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي ليلى، قال: لقيَني كَعبُ بنُ عُجرةَ، فقال: ألَا أُهدي لك هَديَّةً سَمِعتُها مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقُلتُ: بَلى، فأهدِها لي، فقال: ((سَألنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلنا: يا رَسولَ اللهِ، كَيف الصَّلاةُ عليكُم أهلَ البَيتِ، فإنَّ اللَّهَ قد عَلَّمَنا كَيف نُسَلِّمُ عليكُم؟ قال: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، اللهُمَّ بارِك على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ)) [574] أخرجه البخاري (3370) واللفظ له، ومسلم (406). .
وعن موسى بنِ طَلحةَ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، كَيف الصَّلاةُ عليك؟ قال: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، وبارِك على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ)) [575] أخرجه النسائي (1290) واللفظ له، وأحمد (1396). صححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1290)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (525)، وصَحَّحَ إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/365). .
2- اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على آلِ إبراهيمَ في العالمينَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ.
فعن أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتانا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ في مَجلسِ سَعدِ بنِ عُبادةَ، فقال له بَشيرُ بنُ سَعدٍ: أمَرَنا اللَّه تعالى أن نُصَلِّيَ عليك يا رَسولَ اللهِ، فكَيف نُصَلِّي عليك؟ قال: فسَكَت رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى تَمَنَّينا أنَّه لم يَسألْه، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على آلِ إبراهيمَ، في العالَمينَ، إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، والسَّلامُ كَما قد عَلِمتُم)) [576] أخرجه مسلم (405). .
3- اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ.
فعن أبي مَسعودٍ عُقبةَ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ حتَّى جَلسَ بَينَ يَدَيه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أمَّا السَّلامُ عليك فقد عَلِمناه، وأمَّا الصَّلاةُ فأخبِرْنا بها، كَيف نُصَلِّي عليك؟ قال: فصَمَتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى وَدِدنا أنَّ الرَّجُلَ الذي سَأله لم يَسألْه، ثُمَّ قال: إذا صَلَّيتُم عليَّ فقولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ)) [577] أخرجه ابنُ أبي شَيبة (8725). حَسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((فضل الصلاة)) (59). ورُوِيَ بلفظ: عن أبي مَسعودٍ، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: السَّلامُ عَليك قد عَرَفناه، فكَيف الصَّلاةُ عَليك صَلَّى اللهُ عَليك؟ فسَكَتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساعةً، ثُمَّ قال: تَقولونَ: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ. أخرجه أبو داود (981)، وأحمد (17072)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9794) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((الصحيح)) (1/704)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1959)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1003)، والسخاوي على شرط مسلم في ((القول البديع)) (53)، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/201): حَسَنٌ مِن هذا الوجهِ صحيحٌ، وحَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (981)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (981). .
4- اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبدِك ورَسولِك كَما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ. أو: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبدِك ورَسولِك كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ.
فعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، هذا التَّسليمُ، فكَيف نُصَلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبدِك ورَسولِك كَما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ)) [578] أخرجه البخاري (4798). .
وفي رِوايةٍ: ((قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، هذا السَّلامُ عليك، فكَيف نُصَلِّي؟ قال: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبدِك ورَسولِك كَما صَلَّيتَ على إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ)) [579] أخرجها البخاري (6358). .
5- اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه كَما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه كَما بارَكتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ.
فعن أبي حَميدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّهم قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كَيف نُصَلِّي عليك؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه كَما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه كَما بارَكتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ)) [580] أخرجه البخاري (3369) واللفظ له، ومسلم (407). .
مَعنى الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
الصَّلاةُ لُغةً:
أصلُ الصَّلاةِ في اللُّغةِ يَرجِعُ إلى مَعنَيَينِ؛ أحَدُهما: الدُّعاءُ والتَّبريكُ، والثَّاني: العِبادةُ.
ومِنَ الأوَّلِ: صَلاةُ المَلائِكةِ على الخَلقِ، كَقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المَلائِكةُ تُصَلِّي على أحَدِكُم ما دامَ في مُصَلَّاه الذي صَلَّى فيه...)) الحَديثَ [581] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المَلائِكةُ تُصَلِّي على أحَدِكُم ما دامَ في مُصَلَّاه الذي صَلَّى فيه، ما لم يُحدِثْ، تَقولُ: اللهُمَّ اغفِرْ له، اللهُمَّ ارحَمْه)). أخرجه البخاري (445) واللَّفظُ له، ومسلم (649). ، والصَّلاةُ على المَيِّتِ، مَعناه: الدُّعاءُ له، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دُعيَ أحَدُكُم فليُجِبْ، فإن كان صائِمًا فليُصَلِّ...)) الحَديثَ [582] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دُعيَ أحَدُكُم فليُجِبْ، فإن كان صائِمًا فليُصَلِّ، وإن كان مُفطِرًا فليَطعَمْ)). أخرجه مسلم (1431). ، مَعناه: فليَدْعُ لهم بالبركةِ والخَيرِ، وكُلُّ داعٍ فهو مُصَلٍّ، ومِنه قَولُه تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103] ، أيِ: ادعُ لهم.
وقال تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة: 99] أي: دُعاءَه، فسُمِّيَتِ الصَّلاةُ بذلك؛ لأنَّهم كانوا يَدعونَ فيها، ويَدُلُّك على ذلك الصَّلاةُ على المَيِّتِ إنَّما هيَ دُعاءٌ له ليسَ فها رُكوعٌ ولا سُجودٌ.
والصَّلاةُ: واحِدةُ الصَّلواتِ المَفروضةِ، وهو اسمٌ يوضَعُ مَوضِعَ المَصدَرِ.
واختُلِف في اشتِقاقِ الصَّلاةِ؛ فقيل: مِنَ الدُّعاءِ، والدُّعاءُ نَوعانِ: دُعاءُ عِبادةٍ، ودُعاءُ مَسألةٍ، والعابدُ داعٍ كَما أنَّ السَّائِلَ داعٍ، والمُصَلِّي مِن حينِ تَكبيرِه إلى سَلامِه بَينَ دُعاءِ العِبادةِ ودُعاءِ المَسألةِ فهو في صَلاةٍ حَقيقيَّةٍ لا مَجازًا، وقيل: مِنَ الصَّلَوينِ، وهما عِرقانِ في الرِّدفِ، وقيل: عَظمانِ يَنحَنيانِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ، ومِنه: المُصَلِّي مِنَ الخَيلِ؛ لأنَّه يَأتي لاصِقًا بصَلَوَيِ السَّابقِ؛ قيل: لأنَّها ثانيةُ الإيمانِ، كالمُصَلِّي مِنَ السَّابقِ. وقيل: بَل لأنَّ المَأمومَ يَتبَعُ الإمامَ كالمُصَلِّي مِنَ الخَيلِ السَّابقِ مِنها. وقيل: مِنَ الاستِقامةِ، يُقالُ: صَليتُ العودَ على النَّارِ: إذا قَوَّمتَه؛ لأنَّها تُقيمُ العَبدَ على طاعةِ رَبِّه، وقيل: مِنَ الرَّحمةِ، وقيل: مِنَ اللُّزومِ، يُقالُ: قد صَلِيَ واصطَلى: إذا لزِمَ، ومِن هذا: مَن يَصلى في النَّارِ، أي: يَلزَمُ النَّارَ، وقيل: لأنَّها صِلةٌ بَينَ العَبدِ ورَبِّه، وقيل غَيرُ ذلك.
وذُكِرَ للصَّلاةِ في لسانِ العَرَبِ مَعانٍ أُخَرُ، والمَعروفُ عِندَهم مِن مَعناها: الدُّعاءُ والتَّبريكُ والثَّناءُ [583] يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 177-180)، ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 167)، ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 1077)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/ 165، 166)، ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2402)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 300)، ((الغريبين)) للهروي (4/ 1094، 1095)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 282-284)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 155). .
الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اصطِلاحًا:
مَعنى الصَّلاةِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: طَلَبُ العَبدِ مِن رَبِّه عَزَّ وجَلَّ أن يُصَلِّيَ على نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
والصَّلاةُ لا بُدَّ فيها مِن كَلامٍ، فهيَ ثَناءٌ مِنَ المُصَلِّي على مَن يُصَلِّي عليه وتَنويهٌ به وإشارةٌ لمَحاسِنِه ومَناقِبِه وذِكرِه [584] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 160، 166). وقد أطال ابنُ القَيِّمِ في هذا الكِتاب الرَّدَّ على مَن زَعَمَ أنَّ الصَّلاةَ بمَعنى الرَّحمةِ. .
وقال البُخاريُّ: (إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَه يُصَلُّونَ على النَّبيِّ يا أيُّها الذينَ آمَنوا صَلُّوا عليه وسَلِّموا تَسليمًا [الأحزاب: 56] [585] قال ابنُ القَيِّمِ: (اللَّهُ سُبحانَه أمَرَ بالصَّلاةِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَقِبَ إخبارِه بأنَّه ومَلائِكَتَه يُصَلُّونَ عليه، والمَعنى أنَّه إذا كان اللهُ ومَلائِكَتُه يُصَلُّونَ على رَسولِه فصَلُّوا أنتُم عليه؛ فأنتُم أحَقُّ بأن تُصَلُّوا عليه وتُسَلِّموا تَسليمًا؛ لِما نالكُم ببَرَكةِ رِسالتِه ويُمنِ سِفارَتِه مِن شَرَفِ الدُّنيا والآخِرةِ. والصَّلاةُ المَأمورُ بها في الآيةِ هيَ الطَّلبُ مِنَ اللهِ ما أخبَرَ به عن صَلاتِه وصَلاةِ مَلائِكَتِه، وهيَ ثَناءٌ عليه وإظهارٌ لفَضلِه وشَرَفِه، وإرادةُ تَكريمِه وتَقريبِه؛ فهيَ تَتَضَمَّنُ الخَبَرَ والطَّلبَ. وسُمِّيَ هذا السُّؤالُ والدُّعاءُ مِنَّا نَحنُ صَلاةً عليه لوجهَينِ: أحَدُهما: أنَّه يَتَضَمَّنُ ثَناءَ المُصَلِّي عليه، والإشادةَ بذِكرِ شَرَفِه وفَضلِه، والإرادةَ والمَحَبَّةَ لذلك مِنَ اللهِ تعالى؛ فقد تَضَمَّنَتِ الخَبَرَ والطَّلبَ. والوَجهُ الثَّاني: أنَّ ذلك سُمِّي مِنَّا صَلاةً لسُؤالنا مِنَ اللهِ أن يُصَلِّيَ عليه، فصَلاةُ اللهِ عليه ثَناؤُه وإرادَتُه لرَفعِ ذِكرِه وتَقريبِه، وصَلاتُنا نَحنُ عليه سُؤالُنا اللَّهَ تعالى أن يَفعَلَ ذلك به). ((جلاء الأفهام)) (ص: 161، 162). ، قال أبو العاليةِ: صَلاةُ اللهِ: ثَناؤُه عليه عِندَ المَلائِكةِ، وصَلاةُ المَلائِكةِ الدُّعاءُ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: يُصَلُّونَ: يُبَرِّكون) [586] ((صحيح البخاري)) (6/ 120). .
مواطِنُ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
مواطِنُ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَثيرةٌ [587] وقد تَوسَّعَ في ذِكرِها ابنُ القَيِّمِ في ((جلاء الأفهام)) (ص: 327) والسخاوي في ((القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع)) (ص: 175). ، نَذكُرُ مِنها:
1- عِندَ ذِكرِ اسمِه الشَّريفِ أو سَماعِ المَرءِ له مِن غَيرِه [588] وقدِ اختُلِف في وُجوبِها كُلَّما ذُكِرَ اسمُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 382)، ((الصلات والبشر)) للفيروزابادي (ص: 95)، ((القول البديع)) للسخاوي (ص: 30، 244). وكذلك تَخُطُّ الصَّلاةَ عليه ببَنانِك مَهما كَتَبتَ اسمَه الشَّريفَ في كِتابٍ. يُنظر: ((القول البديع)) للسخاوي (ص: 247). ويُنظر ما تقدَّم في الأدبِ العاشرِ، وما بعدَه من فوائدَ. :
فعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن ذُكِرتُ عِندَه فليُصَلِّ عليَّ، ومَن صَلَّى عليَّ مَرَّةً صَلَّى اللهُ عليه عَشرًا)) [589] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9889)، والطيالسي (2236) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2767). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (6246)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (7/383)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ القَيِّمِ في ((جلاء الأفهام)) (543)، والصنعاني في ((العدة على الأحكام)) (2/406)، وجَوَّده النَّوويُّ في ((الأذكار)) (155)، والزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/132). .
وعنه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ارتَقى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المِنبَرِ دَرَجةً فقال: آمينَ، ثُمَّ ارتَقى الثَّانيةَ فقال: آمينَ، ثُمَّ ارتَقى الثَّالثةَ فقال: آمينَ، ثُمَّ استَوى فجَلسَ، فقال أصحابُه: عَلَامَ أمَّنتَ؟ قال: أتاني جِبريلُ فقال: رَغِمَ أنفُ [590] رَغِم يَرغَمُ رَغمًا ورِغمًا ورُغمًا، وأرغَمَ اللهُ أنفَه: أي ألصَقَه بالرَّغامِ، وهو التُّرابُ، وقيل: هو الرَّملُ ليسَ بدَقيقٍ جِدًّا، فليسَ هو بالذي يَسيلُ مِنَ اليَدِ. هذا هو الأصلُ، ثُمَّ استُعمِل في الذُّلِّ والعَجزِ عنِ الانتِصافِ، والانقيادِ على كُرهٍ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لإبراهيم الحربي (3/ 1077)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/ 130)، ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1934)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 238). امرِئٍ ذُكِرتَ عِندَه فلم يُصَلِّ عليك! فقُلتُ: آمينَ، فقال: رَغِمَ أنفُ امرِئٍ أدرَكَ أبَوَيه فلم يَدخُلِ الجَنَّةَ! فقُلتُ: آمينَ، فقال: رَغِمَ أنفُ امرِئٍ أدرَكَ رَمَضانَ فلم يُغفَرْ له! فقُلتُ: آمينَ)) [591] أخرجه ابن أبي شيبة كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (6/495)، والبزار (6252)، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1362). صَحَّحه بشَواهدِه الألبانيُّ في ((فضل الصلاة)) (19)، وحسنه العراقي في ((الأربعون العشارية)) (195)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (129). .
وعن كَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((احضُروا المِنبَرَ فحَضَرنا، فلمَّا ارتَقى دَرَجةً قال: آمينَ، فلمَّا ارتَقى الدَّرَجةَ الثَّانيةَ قال: آمينَ، فلمَّا ارتَقى الدَّرَجةَ الثَّالثةَ قال: آمينَ، فلمَّا نَزَل قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، لقد سَمِعنا مِنك اليَومَ شَيئًا ما كُنَّا نَسمَعُه، قال: إنَّ جِبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَرَضَ لي فقال: بُعدًا لمَن أدرَكَ رَمَضانَ فلم يُغفَرْ له! قُلتُ: آمينَ، فلمَّا رَقِيتُ الثَّانيةَ قال: بُعدًا لمَن ذُكِرتَ عِندَه فلم يُصَلِّ عليك! قُلتُ: آمينَ، فلمَّا رَقِيتُ الثَّالثةَ قال: بُعدًا لمَن أدرَكَ أبَواه الكِبَرَ عِندَه أو أحَدُهما فلم يُدخِلاه الجَنَّةَ! قُلتُ: آمينَ)) [592] أخرجه الطبراني (19/144) (315)، والحاكم (7256) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1572). صَحَّحه بشَواهدِه الألبانيُّ في ((فضل الصلاة)) (19)، وصحح إسناده الحاكم، ووثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/169)، والسخاوي في ((القول البديع)) (207)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/323). .
وعنِ الحُسَينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((البَخيلُ الذي مِن ذُكِرتُ عِندَه فلم يُصَلِّ عليَّ)) [593] أخرجه الترمذي (3546) واللفظ له، وأحمد (1736). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (909)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3546)، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (11/172): لا يَقصُرُ عن دَرَجةِ الحَسَنِ، قال السخاوي في ((القول البديع)) (215): له شاهدٌ في الجُملةِ فلا يَقصُرُ هذا الحَديثُ عن دَرَجةِ الحَسَنِ. .
2- عَقِبَ الأذانِ [594] والصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَقِبَ الأذانِ مُستَحَبَّةٌ باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (1/ 398)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/ 102)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (1/ 482)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/ 247). :
فعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا سَمِعتُمُ المُؤَذِّنَ فقولوا مِثلَ ما يَقولُ، ثُمَّ صَلُّوا عليَّ؛ فإنَّه مَن صَلَّى عليَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عليه بها عَشرًا، ثُمَّ سَلوا اللَّهَ ليَ الوسيلةَ؛ فإنَّها مَنزِلةٌ في الجَنَّةِ لا تَنبَغي إلَّا لعَبدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمَن سَأل ليَ الوسيلةَ حَلَّت له الشَّفاعةُ)) [595] أخرجه مسلم (384). .
3- في آخِرِ التَّشَهُّدِ في الصَّلاةِ [596] وقدِ اختَلف العُلَماءُ في الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التَّشَهُّدِ الأوَّلِ؛ على قَولينِ: القَولُ الأوَّلُ: لا يُزادُ في التَّشَهُّدِ الأوَّلِ على التَّشَهُّدِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والحَنابلةِ، والشَّافِعيِّ في القديمِ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/344)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/250)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/56)، ((المجموع)) للنووي (3/460)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/344). القَولُ الثَّاني: يُستَحَبُّ الإتيانُ بالصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ التَّشَهُّدِ الأوَّلِ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ، واختارَه ابنُ هُبَيرةَ، والآجُريُّ، وابنُ حَزمٍ، وابنُ بازٍ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/460)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/56)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/413)، ((المحلى)) لابن حزم (3/50)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/14). واختَلفوا كذلك في مَسألةِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ التَّشَهُّدِ الأخيرِ؛ على قَولينِ: القَولُ الأوَّلُ: الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التَّشَهُّدِ الأخيرِ سُنَّةٌ، وهذا مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ، وهو مَذهَبُ الظَّاهريَّةِ، واختارَه ابنُ المُنذِرِ، وابنُ عَبدِ البَرِّ، وابنُ عُثَيمين، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/108)، ((الكافي)) لابن عبد البر (1/205)، ((المغني)) لابن قدامة (1/388)، (فتح الباري)) لابن رجب (5/198)، (المحلى)) لابن حزم (3/50)، ((الأوسط)) لابن المنذر (3/384)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (2/323)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/311)، (تفسير القرطبي)) (14/236). القَولُ الثَّاني: الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرضٌ في التَّشَهُّدِ الأخيرِ، لا تَسقُطُ لا عَمدًا ولا سَهوًا، وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ، وهو قَولُ بَعضِ المالكيَّةِ، اختارَه ابنُ العَرَبيِّ، واختارَه ابنُ بازٍ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/465)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/388)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/623)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/291)، (29/300). ويُنظر بَيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((المَوسوعة الفِقهيَّة بمَوقِعِ الدُّرَرِ السَّنيَّة)) https://dorar.net/feqhia :
فعن كعبِ بنِ عُجْرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرَج علينا، فقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، قد علِمْنا كيف نُسلِّمُ عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ)) [597] رواه البخاري (6357)، ومسلم (406). .
قَولُهم: (كَيف نُسَلِّمُ عليك) أي: بما عَلَّمَهم في التَّشَهُّدِ مِن قَولهم: السَّلامُ عليك أيُّها النَّبيُّ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه [598] يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (7/ 198). .
وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد عَلَّمَهم كَيفيَّةَ السَّلامِ عليه في التَّشَهُّدِ، والتَّشَهُّدُ داخِلَ الصَّلاةِ، فسَألوا عن كَيفيَّةِ الصَّلاةِ، فعَلَّمَهم؛ فدَلَّ على أنَّ المُرادَ بذلك إيقاعُ الصَّلاةِ عليه في التَّشَهُّدِ بَعدَ الفراغِ مِنَ التَّشَهُّدِ الذي تقدَّم تَعليمُه لهم [599] يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (3/ 250). .
وعن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ، قال: ((أتانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في مجلسِ سعدِ بنِ عُبَادةَ، فقال له بَشيرُ بنُ سعدٍ: أمَرنا اللهُ تعالى أنْ نُصلِّيَ عليك يا رسولَ اللهِ، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: فسكَتَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى تمنَّيْنا أنَّه لم يسأَلْه، ثم قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ، وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ في العالَمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، والسَّلامُ كما قد علِمْتُم)) [600] أخرجه مسلم (405). .
قَولُه: ((عَلِمتُم [601] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (علمتُم: رُوِّيناه مُبنيًّا للفاعِلِ وللمَفعولِ، فالفاعِلُ: همُ العالِمونَ، وللمَفعولِ همُ المُعَلَّمونَ مِن جِهَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّشَهُّدِ وغَيرِه، ويَعني بذلك قَولَه في التَّشَهُّدِ: السَّلامُ عليك أيُّها النَّبيُّ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه). ((المفهم)) (2/ 42). ) راجِعٌ إلى ما عَلِموه وعَلَّمَهم في التَّشَهُّدِ، كَما كان يُعَلِّمُهمُ السُّورة مِنَ القُرآنِ [602] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (2/ 305). .
4- بَعدَ التَّكبيرةِ الثَّانيةِ في صَلاةِ الجِنازةِ [603] والصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرضٌ في صَلاةِ الجِنازةِ، وهو مَشهورُ مَذهَبِ الشَّافِعيَّةِ، ومَذهَبِ الحَنابلةِ، واختارَه ابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (5/235)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/117)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/144)، ((الشرح الممتع)) (5/342). :
فعن أبي أُمامةَ بنِ سَهلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أخبَرَه رَجُلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّ السُّنَّةَ في الصَّلاةِ على الجِنازةِ أن يُكَبِّرَ الإمامُ، ثُمَّ يَقرَأَ بفاتِحةِ الكِتابِ بَعدَ التَّكبيرةِ الأولى سِرًّا في نَفسِه، ثُمَّ يُصَلِّيَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُخلِصَ الدُّعاءَ للجِنازةِ في التَّكبيراتِ، لا يَقرَأُ في شَيءٍ مِنهنَّ، ثُمَّ يُسَلِّمُ ...)) [604] أخرجه الشافعي في ((الأم)) (2/608)، والبيهقي (7040) واللفظ له، ولفظُه: عن أبي أُمامةَ بنِ سَهلٍ أنَّه أخبَرَه رَجُلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ السُّنَّةَ في الصَّلاةِ على الجِنازةِ أن يُكَبِّرَ الإمامُ، ثُمَّ يَقرَأَ بفاتِحةِ الكِتابِ بَعدَ التَّكبيرةِ الأُولى سِرًّا في نَفسِه، ثُمَّ يُصَلَّىَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُخلِصَ الدُّعاءَ للجِنازةِ في التَّكبيراتِ لا يَقرَأُ في شَيءٍ مِنهنَّ، ثُمَّ يُسَلِّمَ سِرًّا في نَفسِه. صَحَّحه الألبانيُّ على شَرطِ الشَّيخَينِ في ((أحكام الجنائز)) (155)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ القَيِّمِ في ((جلاء الأفهام)) (192)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (1/485) وأخرجه مِن طُرُقٍ: النسائي (1989)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (90)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (53/154) من حديثِ أبي أمامةَ بنِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ، ولفظُ النَّسائيِّ والضِّياءِ: عن أبي أمامةَ أنَّه قال: ((السُّنَّةُ في الصَّلاةِ على الجِنازةِ أن يَقرَأَ في التَّكبيرةِ الأولى بأُمِّ القُرآنِ مُخافتةً، ثُمَّ يُكَبِّرَ ثَلاثًا، والتَّسليمُ عِندَ الآخِرةِ)). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (1989)، وصَحَّحَ إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (14/544)، وقال النووي في ((المجموع)) (5/233): إسنادُه على شَرطِ الشَّيخَينِ، وقال ابنُ المُلقِّنِ في ((الإعلام)) (4/401): إسنادُه على شَرطِ الصَّحيحِ. وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ: عبد الرزاق (6428)، وابن أبي شيبة (11497)، وابن الجارود في ((المنتقى)) (540) ولفظ ابن الجارود: عنِ الزَّهريِّ، قال: سَمِعتُ أبا أمامة بن سَهل بن حَنيف، يُحَدِّثُ ابن المُسَيِّب قال: ((السُّنَّةُ في الصلاةِ على الجنازةِ أن تُكَبِّرَ ثم تقرأَ بأمِّ القرآنِ ثم تُصلِّيَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثم تُخلِصَ الدُّعاءَ للميِّتِ ولا تقرأَ إلَّا في التكبيرةِ الأُولَى، ثمَّ تُسلِّمَ في نفسِكَ عن يمينِك)). صَحَّحَ إسنادَه ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (3/242)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (3/181). وأخرجه مِن طُرُقٍ: الطَّحاويُّ في ((شرح معاني الآثار)) (2868، 2869)، والحاكم (1349)، والبيهقي (7043) ولفظُ الحاكِمِ: عن أبي أمامةَ بنِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ، وكان مِن كُبَراءِ الأنصارِ وعُلمائِهم، وأبناءِ الذينَ شَهدوا بَدرًا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أخبَرَه رِجالٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ على الجِنازةِ أن يُكَبِّرَ الإمامُ، ثُمَّ يُصَلِّيَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُخلِصَ الصَّلاةَ في التَّكبيراتِ الثَّلاثِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ تَسليمًا خَفيًّا حينَ يَنصَرِفُ، والسُّنَّةُ أن يَفعَلَ مَن وراءَه مِثلَ ما فعَل إمامُه. قال الزُّهريُّ: حَدَّثَني بذلك أبو أُمامةَ، وابنُ المُسَيِّبِ يَسمَعُ، فلم يُنكِرْ ذلك عليه. قال ابنُ شِهابٍ: فذَكَرتُ الذي أخبَرَني أبو أمامةَ مِنَ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ على المَيِّتِ لمُحَمَّدِ بنِ سُوَيدٍ، قال: وأنا سَمِعتُ الضَّحَّاكَ بنَ قَيسٍ يُحَدِّثُ عن حَبيبِ بنِ مَسلَمةَ في صَلاةٍ صَلَّاها على المَيِّتِ مِثلَ الذي حَدَّثَنا أبو أمامةَ. صَحَّحه الحاكِمُ على شَرطِ الشَّيخَينِ، وصَحَّحه ابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (4/170) وقال: لكنه موقوف، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (1/486). .
فوائِدُ:
 - قال ابنُ عُثَيمين: (الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا المَقامِ لها شَأنٌ؛ لأنَّ الفاتِحةَ ثَناءٌ على اللهِ، والصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةٌ عليه، والثَّالثةُ دُعاءٌ، فيَنبَغي للدَّاعي أن يُقدِّمَ بَينَ يَدَيه الثَّناءَ على اللهِ، ثُمَّ الصَّلاةَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [605] ((الشرح الممتع)) (5/340). .
- قال الألبانيُّ: (أمَّا صيغةُ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجِنازةِ، فلم أقِفْ عليها في شَيءٍ مِنَ الأحاديثِ الصَّحيحةِ، فالظَّاهرُ أنَّ الجِنازةَ ليسَ لها صيغةٌ خاصَّةٌ، بَل يُؤتى فيها بصيغةٍ مِنَ الصِّيَغِ الثَّابتةِ في التَّشَهُّدِ في المَكتوبةِ) [606] ((أحكام الجنائز)) (ص: 122). .
5- يَومَ الجُمُعةِ وليلَتَها:
فعن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكثِروا عليَّ مِنَ الصَّلاةِ في كُلِّ يَومِ جُمُعةٍ؛ فإنَّ صَلاةَ أُمَّتي تُعرَضُ عليَّ في كُلِّ يَومِ جُمُعةٍ، فمَن كان أكثَرَهم عليَّ صَلاةً كان أقرَبَهم مِنِّي مَنزِلةً)) [607] أخرجه البيهقي (6208). حَسَّنه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (1673)، وحَسَّن إسنادَه الشَّوكانيُّ في ((تحفة الذاكرين)) (57)، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (11/172): لا بَأسَ بسَنَدِه. .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكثِروا الصَّلاةَ عليَّ يَومَ الجُمعةِ؛ فإنَّه أتاني جِبريلُ آنِفًا عن رَبِّه عَزَّ وجَلَّ فقال: ما على الأرضِ مِن مُسلمٍ يُصَلِّي عليك مَرَّةً واحِدةً إلَّا صَلَّيتُ أنا وملائكتي عليه عَشرًا)) [608] أخرجه الطبراني كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (2/326) واللفظ له، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (109)، وقوام السنة في ((الترغيب والترهيب)) (1678). حسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1662). .
فائِدةٌ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَيِّدُ الأنامِ، ويَومُ الجُمُعةِ سَيِّدُ الأيَّامِ؛ فللصَّلاةِ عليه في هذا اليَومِ مَزيَّةٌ ليسَت لغَيرِه، مَعَ حِكمةٍ أُخرى، وهيَ: أنَّ كُلَّ خَيرٍ نالته أُمَّتُه في الدُّنيا والآخِرةِ فإنَّما نالته على يَدِه، فجَمَعَ اللهُ لأُمَّتِه به بَينَ خَيرَيِ الدُّنيا والآخِرةِ، فأعظَمُ كَرامةٍ تَحصُلُ لهم فإنَّما تَحصُلُ يَومَ الجُمُعةِ؛ فإنَّ فيه بَعْثَهم إلى مَنازِلهم وقُصورِهم في الجَنَّةِ، وهو يَومُ المَزيدِ لهم إذا دَخَلوا الجَنَّةَ، وهو يَومُ عيدٍ لهم في الدُّنيا، ويَومٌ فيه يُسعِفُهمُ اللهُ تعالى بطَلباتِهم وحَوائِجِهم، ولا يَرُدُّ سائِلَهم، وهذا كُلُّه إنَّما عَرَفوه وحَصَل لهم بسَبَبِه وعلى يَدِه، فمِن شُكرِه وحَمدِه وأداءِ القَليلِ مِن حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نُكثِرَ مِنَ الصَّلاةِ عليه في هذا اليَومِ وليلتِه) [609] ((زاد المعاد)) (1/ 364). .
6- في الخُطَبِ، كَخُطبةِ الجُمُعةِ والعيدَينِ والاستِسقاءِ والكسوفَينِ وغَيرِها [610] قال ابنُ القَيِّمِ: (اختُلِف في اشتِراطِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لصِحَّةِ الخُطبةِ؛ فقال الشَّافِعيُّ وأحمدُ في المَشهورِ مِن مَذهَبِهما: لا تَصِحُّ الخُطبةُ إلَّا بالصَّلاةِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال أبو حَنيفةَ ومالِكٌ: تَصِحُّ بدونِها، وهو وَجهٌ في مَذهَبِ أحمَدَ)، ثُمَّ ذَكَرَ عِدَّةَ آثارٍ دالَّةٍ على مَشروعيَّةِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الخُطبةِ، ثُمَّ قال: (فهذا دَليلٌ على أنَّ الصَّلاةَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الخُطَبِ كان أمرًا مَشهورًا مَعروفًا عِندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ. وأمَّا وُجوبُها فيُعتَمَدُ دَليلًا يَجِبُ المَصيرُ إليه وإلى مِثلِه). يُنظر: ((جلاء الأفهام)) (ص: 368-371). ويُنظر أيضًا: ((اختلاف الأئمة العلماء)) لابن هبيرة (1/ 153)، ((الصلات والبشر)) للفيروزابادي (ص: 94، 95)، ((القول البديع)) للسخاوي (ص: 202، 203). :
فعن عَونِ بنِ أبي جُحَيفةَ، قال: كان أبي مَن شَرَط علَيَّ، وكان تَحتَ المِنبَرِ، فحَدَّثَني أبي: (أنَّه صَعِدَ المِنبَرَ -يَعني: عَليًّا- فحَمِدَ اللَّهَ تعالى وأثنى عليه، وصَلَّى على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: خَيرُ هذه الأُمَّةِ بَعدَ نَبيِّها أبو بَكرٍ، والثَّاني عُمَرُ، وقال: يَجعَلُ اللهُ تعالى الخَيرَ حَيثُ أحَبَّ) [611] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (837)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/197). صَحَّحه الوادعي في ((الرسالة الوازعة للمعتدين)) (129)، وصَحَّحَ إسنادَه أحمَد شاكِر في تَخريج ((مسند أحمد)) (2/149)، وقَوَّاه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (837). .
7- في بَدءِ الدُّعاءِ وخَتمِه [612] قال ابنُ تَيميَّةَ: (الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ الدُّعاءِ وفي وسَطِه وآخِره مِن أقوى الأسبابِ التي يُرجى بها إجابةُ سائِرِ الدُّعاءِ). ((اقتِضاء الصِّراط المُستَقيم)) (2/ 249). وقال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ بَعدَ ذِكرِه مواطِنَ الصَّلاةِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ الدُّعاءِ: (الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للدُّعاءِ بمَنزِلةِ الفاتِحةِ مِنَ الصَّلاةِ، وهذه المَواطِنُ التي تَقدَّمَت كُلُّها شُرِعَتِ الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها أمامَ الدُّعاءِ، فمِفتاحُ الدُّعاءِ الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كَما أنَّ مِفتاحَ الصَّلاةِ الطُّهورُ، فصَلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسَلَّمَ تَسليمًا. وقال أحمَدُ بنُ أبي الحواريِّ: سَمِعتُ أبا سُليمانَ الدَّارانيَّ يَقولُ: مَن أرادَ أن يَسألَ اللَّهَ حاجَتَه فليَبدَأْ بالصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وليَسألْ حاجَتَه، وليَختِمْ بالصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ الصَّلاةَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَقبولةٌ، واللهُ أكرَمُ أن يَرُدَّ ما بَينَهما). ((جلاء الأفهام)) (ص: 377). وقال ابنُ عَطاءٍ: (للدُّعاءِ أركانٌ وأجنِحةٌ وأسبابٌ وأوقاتٌ، فإن وافقَ أركانَه قَويَ، وإن وافقَ أجنِحَتَه طارَ في السَّماءِ، وإن وافقَ مَواقيتَه فازَ، وإن وافقَ أسبابَه أنجَحَ؛ فأركانُه حُضورُ القَلبِ، والرِّقَّةُ والاستِكانةُ والخُشوعُ، وتَعَلُّقُ القَلبِ باللهِ، وقَطعُه مِنَ الأسبابِ، وأجنِحَتُه: الصِّدقُ، ومَواقيتُه: الأسحارُ، وأسبابُه: الصَّلاةُ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) لعياض (2/ 65، 66). ويُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (1/ 533). :
فعن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلًا يَدعو في صَلاتِه لم يُمَجِّدِ [613] لم يُمَجِّدِ اللَّهَ: مِنَ التَّمجيدِ، وهو التَّعظيمُ. يُنظر: ((شرح أبي داود)) للعيني (5/ 396). اللَّهَ تعالى، ولم يُصَلِّ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عَجِل هذا، ثُمَّ دَعاه فقال له -أو لغَيرِه-: إذا صَلَّى أحَدُكُم فليَبدَأْ بتَمجيدِ رَبِّه جَلَّ وعَزَّ، والثَّناءِ عليه، ثُمَّ يُصَلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ)) [614] أخرجه أبو داود (1481) واللفظ له، وابن خزيمة (710)، والطبراني (18/307) (791). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة ، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1481)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1064). .
وفي لفظٍ: ((فليَبدَأْ بتَحميدِ اللَّهِ)) [615] أخرجه الترمذي (3477)، وأحمد (23937). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (1960)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (989)، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/410)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/311)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ. .
وفي رِوايةٍ: ((بَينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاعِدٌ إذ دَخَل رَجُلٌ فصَلَّى فقال: اللهُمَّ اغفِرْ لي وارحَمْني، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عَجِلتَ أيُّها المُصَلِّي، إذا صَلَّيتَ فقَعَدتَ فاحمَدِ اللَّهَ بما هو أهلُه، وصَلِّ عليَّ ثُمَّ ادعُه. قال: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعدَ ذلك فحَمِدَ اللَّهَ وصَلَّى على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها المُصَلِّي، ادعُ تُجَبْ)) [616] أخرجه الترمذي (3476) واللفظ له، والنسائي (1284). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة (709)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1284)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (3/186)، وحَسَّنه الترمذي، وصَحَّحَ إسنادَه الألبانيّ ُفي ((صفة الصلاة)) (182). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ أُصَلِّي والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ وعُمَرُ مَعَه، فلمَّا جَلستُ بَدَأتُ بالثَّناءِ على اللهِ، ثُمَّ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ دَعَوتُ لنَفسي، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سَلْ تُعطَه، سَلْ تُعطَه)) [617] أخرجه الترمذي (593)، والبغوي في ((شرح السنة)) (1401) واللفظ لهما، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (13). صَحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (593)، وحَسَّنه الوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/656). وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ دونَ ذِكرِ الثَّناءِ: أحمد (4340)، وابن حبان (1970)، والطبراني (9/62) (8417) ولفظ أحمَدَ: عن ابنِ مَسعودٍ، قال: (دَخَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَسجِدَ، وهو بَينَ أبي بَكرٍ وعُمَرَ، وإذا ابنُ مَسعودٍ يُصَلِّي، وإذا هو يَقرَأُ النِّساءَ، فانتَهى إلى رَأسِ المِائةِ، فجَعل ابنُ مَسعودٍ يَدعو، وهو قائِمٌ يُصَلِّي، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اسأَلْ تُعطَه، اسأَلْ تُعطَه ...). صَحَّحه ابنُ حبان، وصَحَّحه بشَواهدِه شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4340). .
وعن أبي عُبَيدةَ، قال: ((سُئِل عَبدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه عنِ الدُّعاءِ الذي دَعَوتَ به حينَ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سَلْ تُعطَه. قال: قُلتُ: اللهُمَّ إنِّي أسألُك إيمانًا لا يَرتَدُّ، ونَعيمًا لا يَنفَدُ، ومُرافقةَ نَبيِّك مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أعلى دَرَجِ الجَنَّةِ جَنَّةِ الخُلدِ)) [618] أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمد (3797)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10639)، والحاكم (1952) واللفظ له. صَحَّحه لغَيرِه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3797)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكِم .
8- في المَجالسِ وقَبلَ التَّفرُّقِ مِنها:
فعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما جَلسَ قَومٌ مَجلسًا لم يَذكُروا اللَّهَ فيه، ولم يُصَلُّوا على نَبيِّهم، إلَّا كان عليهم تِرَةً [619] أصلُ التِّرَةِ: النَّقصُ، قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 35] أي: لن يَنقُصَكُم، ومَعناها هاهنا: التَّبِعةُ، يُقالُ: وَتَرتُ الرَّجُلَ تِرةً، على وَزنِ وعَدتُه عِدةً. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (5/ 28). ، فإن شاءَ عَذَّبَهم، وإن شاءَ غَفرَ لهم)) [620] أخرجه الترمذي (3380) واللفظ له، وأحمد (10277). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (853)، والحاكم على شرط البخاري في ((المستدرك)) (2017)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (7/9)، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ. .
وعنه رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما قَعَدَ قَومٌ مَقعَدًا لا يَذكُرونَ فيه اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، ويُصَلُّونَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا كان عليهم حَسرةً يَومَ القيامةِ، وإن دَخَلوا الجَنَّةَ للثَّوابِ)) [621] أخرجه أحمد (9965) واللفظ له، وابن حبان (591)، وقوام السنة في ((الترغيب والترهيب)) (1384). صَحَّحه ابنُ حبان، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (7/9)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (1513)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/350). .
وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما اجتَمَعَ قَومٌ ثُمَّ تَفرَّقوا عن غَيرِ ذِكرِ اللهِ، وصَلاةٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا قاموا على أنتَنَ مِن جيفةٍ)) [622] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9803)، والطيالسي (1863)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1469) واللفظ له. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (5506)، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/383): إسنادُه رواتُه ثِقاتٌ، وله شاهِدٌ، وقال السَّخاويُّ في ((القول البديع)) (221): رِجالُه رِجالُ الصَّحيحِ على شَرطِ مُسلمٍ. .
وعن أبي وائِلٍ، قال: (ما شَهِدَ عَبدُ اللَّهِ مَجمَعًا ولا مَأدُبةً فيَقومُ حتَّى يَحمَدَ اللَّهَ، ويُصَلِّيَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان مِمَّا يَتبَعُ أغفَلَ مَكانٍ في السُّوقِ فيَجلِسُ فيه، ويَحمَدُ اللَّهَ، ويُصَلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [623] أخرجه ابن أبي شيبة (30429). .
وفي رِوايةٍ: (ما رَأيتُ عَبدَ اللَّهِ جَلسَ في مَأدُبةٍ ولا جِنازةٍ ولا غَيرِ ذلك فيَقومُ حتَّى يَحمَدَ اللَّهَ ويُثنيَ عليه ويُصَلِّيَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَدعوَ بدَعَواتٍ، وإن كان يَخرُجُ إلى السُّوقِ فيَأتي أغفَلَها مَكانًا فيَجلِسُ فيَحمَدُ اللَّهَ ويُصَلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَدعو بدَعَواتٍ) [624] أخرجها أبو حاتم كما في ((إمتاع الأسماع)) للمقريزي (11/132). .
جملةٌ مِن الآدابِ معَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم
- قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا الأدَبُ مَعَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فالقُرآنُ مَملوءٌ به.
فرَأسُ الأدَبِ مَعَه: كمالُ التَّسليمِ له، والانقيادِ لأمرِه، وتَلَقِّي خَبَرِه بالقَبولِ والتَّصديقِ، دونَ أن يَحمِلَه مُعارَضةُ خيالٍ باطِلٍ يُسَمِّيه مَعقولًا، أو يَحمِلَه شُبهةٌ أو شَكٌّ، أو يُقَدِّمَ عليه آراءَ الرِّجالِ، وزُبالاتِ أذهانِهم، فيُوحِّدُه بالتَّحكيمِ والتَّسليمِ، والانقيادِ والإذعانِ، كما وحَّدَ المُرسِلَ سُبحانَه وتعالى بالعِبادةِ والخُضوعِ والذُّلِّ، والإنابةِ والتَّوكُّلِ.
فهما توحيدانِ لا نَجاةَ للعَبدِ مِن عَذابِ اللَّهِ إلَّا بهما: تَوحيدُ المُرسِلِ، وتَوحيدُ مُتابعةِ الرَّسولِ، فلا يُحاكِمُ إلى غيرِه، ولا يَرضى بحُكمِ غيرِه، ولا يَقِفُ تَنفيذَ أمرِه وتَصديقَ خَبَرِه على عَرضِه على قَولِ شَيخِه وإمامِه وذَوي مَذهَبِه وطائِفتِه ومَن يُعَظِّمُه، فإن أذِنوا له نَفَّذَه وقَبِل خَبَرَه، وإلَّا فإن طَلبَ السَّلامةَ أعرَضَ عن أمرِه وخَبَرِه وفوَّضَه إليهم، وإلَّا حَرَّفه عن مَواضِعِه، وسَمَّى تَحريفَه: تَأويلًا وحَملًا، فقال: نُؤَوِّلُه ونَحمِلُه!
فلَأن يَلقى العَبدُ رَبَّه بكُلِّ ذَنبٍ على الإطلاقِ -ما خَلا الشِّركَ باللهِ- خيرٌ له مِن أن يَلقاه بهذه الحالِ!
ولقَد خاطَبتُ يَومًا بَعضَ أكابرِ هؤلاء، فقُلتُ له: سَألتُك باللهِ، لو قُدِّرَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ بينَ أظهُرِنا، وقد واجَهَنا بكلامِه وبخِطابِه، أكان فَرضًا علينا أن نَتَّبِعَه مِن غيرِ أن نَعرِضَه على رَأيِ غيرِه وكلامِه ومَذهَبِه، أم لا نَتَّبِعُه حتَّى نَعرِضَ ما سَمِعناه مِنه على آراءِ النَّاسِ وعُقولِهم؟
فقال: بَل كان الفَرضُ المُبادَرةَ إلى الامتِثالِ مِن غيرِ التِفاتٍ إلى سِواه.
فقُلتُ: فما الذي نَسَخَ هذا الفَرضَ عنَّا؟ وبأيِّ شيءٍ نُسِخَ؟
فوضَعَ إصبَعَه على فيه، وبَقيَ باهتًا مُتَحيِّرًا، وما نَطَقَ بكَلِمةٍ!
هذا أدَبُ الخَواصِّ مَعَه، لا مُخالَفةُ أمرِه والشِّركُ به، ورَفعُ الأصواتِ، وإزعاجُ الأعضاءِ بالصَّلاةِ عليه والتَّسليمِ، وعَزلُ كلامِه عنِ اليَقينِ، وأن يُستَفادَ مِنه مَعرِفةُ اللهِ، أو يُتَلقَّى مِنه أحكامُه...
ومِنَ الأدَبِ مَعَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أن لا يَتَقَدَّمُ بينَ يَديه بأمرٍ ولا نَهيٍ، ولا إذنٍ ولا تَصَرُّفٍ، حتَّى يَأمُرَ هو، ويَنهى ويَأذَنَ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] ...
ومِنَ الأدَبِ مَعَه: أن لا تُرفَعَ الأصواتُ فَوقَ صَوتِه؛ فإنَّه سَبَبٌ لحُبوطِ الأعمالِ، فما الظَّنُّ برَفعِ الآراءِ، ونَتائِجِ الأفكارِ على سُنَّتِه وما جاءَ به؟! أتُرى ذلك موجِبًا لقَبولِ الأعمالِ، ورَفعُ الصَّوتِ فوقَ صَوتِه موجِبٌ لحُبوطِها؟!
ومِنَ الأدَبِ مَعَه: أن لا يَجعَلُ دُعاءَه كدُعاءِ غيرِه؛ قال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] . وفيه قَولانِ للمُفسِّرينَ.
أحَدُهما: أنَّكُم لا تَدعونَه باسمِه، كما يَدعو بَعضُكُم بَعضًا، بَل قولوا: يا رَسولَ اللهِ، يا نَبيَّ اللهِ؛ فعلى هذا: المَصدَرُ مُضافٌ إلى المَفعولِ، أي: دُعاءَكُمُ الرَّسولَ.
الثَّاني: أنَّ المَعنى: لا تَجعَلوا دُعاءَه لكُم بمَنزِلةِ دُعاءِ بَعضِكُم بَعضًا؛ إن شاءَ أجابَ، وإن شاءَ تَرَك، بَل إذا دَعاكُم لم يكُنْ لكُم بُدٌّ مِن إجابَتِه، ولم يَسَعْكُمُ التَّخَلُّفُ عنها البَتَّةَ. فعلى هذا: المَصدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، أي: دُعاؤُه إيَّاكُم.
ومِنَ الأدَبِ مَعَه: أنَّهم إذا كانوا مَعَه على أمرٍ جامِعٍ -مِن خُطبةٍ، أو جِهادٍ، أو رِباطٍ- لم يَذهَبْ أحَدٌ مِنهم مَذهَبًا في حاجَتِه حتَّى يَستَأذِنَه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] ، فإذا كان هذا مَذهَبًا مُقيَّدًا بحاجةٍ عارِضةٍ، ولم يوسَّعْ لهم فيه إلَّا بإذنِه، فكيف بمَذهَبٍ مُطلَقٍ في تَفاصيلِ الدِّينِ: أصولِه، وفُروعِه، دَقيقِه، وجَليلِه؟ هل يُشرَعُ الذَّهابُ إليه بدونِ استِئذانِه؟! فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] .
ومِنَ الأدَبِ مَعَه: ألَّا يُستَشكَلَ قَولُه، بَل تُستَشكَلُ الآراءُ لقَولِه، ولا يُعارَضَ نَصُّه بقياسٍ، بَل تُهدَرُ الأقيِسةُ وتُلقى لنُصوصِه، ولا يُحَرَّفَ كلامُه عن حَقيقَتِه لخيالٍ يُسَمِّيه أصحابُه مَعقولًا، نَعَمْ، هو مَجهولٌ، وعَنِ الصَّوابِ مَعزولٌ! ولا يُوقِفَ قَبولَ ما جاءَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على موافَقةِ أحَدٍ؛ فكُلُّ هذا مِن قِلَّةِ الأدَبِ مَعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو عَينُ الجُرأةِ!) [625] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 365-368). .

انظر أيضا: