موسوعة الآداب الشرعية

سادسَ عشرَ: اجتنابُ الرَّفَثِ والفُسوقِ والجِدالِ في الحَجِّ


يجبُ على المُحْرِمِ أن يتَوَقَّى ما يلي:
أوَّلًا: الفُحْشُ مِنَ القَوْلِ والفعْلِ، وذلك منهيٌّ عنه في الإحرامِ وغيرِ الإحرامِ، إلَّا أنَّ الحَظْرَ في الإحرامِ أشَدُّ؛ لحُرمةِ العبادةِ.
ثانيًا: الفُسُوقُ: وهو جميعُ المعاصي، ومنها محظوراتُ الإحرامِ.
ثالثًا: الجِدالُ في الحَجِّ: وهو المخاصَمةُ في الباطِلِ، ولا سيَّما مع الرُّفقاءِ والخَدَمِ، أو الجدلُ فيما لا فائدةَ فيه؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ الشَّرَّ ويوقِعُ العداوةَ، ويَشْغَلُ عن ذكْرِ اللهِ، أمَّا الجدالُ بالَّتي هي أحسَنُ لإظهارِ الحَقِّ ورَدِّ الباطِلِ؛ فلا بأسَ به [1578] يُنظر: ((مراتب الإجماع)) لابْن حَزْمٍ (ص: 43)، ((نقد مراتب الإجماع)) لابن تيميَّة (ص: 292)، ((المحلى)) لابْن حَزْمٍ (7/186، 195)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (19/55)، ((المبسوط)) للسرخسي (4/7)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/439)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/134)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/348)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/13)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/56، 57، 17/144- 147). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتاب
1- قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا نهيٌ بصيغةِ النَّفيِ، وهو آكَدُ ما يكونُ مِنَ النَّهيِ، كأنَّه قيل: فلا يكونَنَّ رفَثٌ ولا فُسوقٌ ولا جِدالٌ في الحَجِّ [1579] ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/438)، ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/385)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/13). .
2- قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [1580] قال السعدي: (وفي هذه الآيةِ الكريمةِ وجوبُ احترامِ الحَرَم، وشِدَّة تعظيمِه، والتحذيرُ من إرادةِ المعاصي فيه وفِعْلِها). ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 536). [الحج: 25] .
قال القرطبيُّ: (هذا الإلحادُ والظلمُ يَجمعُ جميعَ المعاصي من الكُفرِ إلى الصَّغائرِ، فلِعِظَمِ حُرمةِ المكانِ توعَّدَ الله تعالى على نيَّة السيِّئةِ فيه، ومَن نوَى سيِّئةً ولم يَعملْها لم يُحاسَبْ عليها إلا في مكَّةَ؛ هذا قولُ ابنِ مسعودٍ وجماعةٍ مِن الصحابةِ وغيرِهم) [1581] ((تفسير القرطبي)) (12/36). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن حَجَّ للهِ فلم يَرفُثْ [1582] الرَّفَثُ: الجِماعُ، أو الفُحشُ في القَولِ، أو خِطابُ الرَّجُلِ المرأةَ فيما يتعلَّقُ بالجِماعِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/97). ، ولم يَفسُقْ [1583] ((ولم يَفسُقْ)): أي: لم يأتِ بسَيِّئةٍ ولا معصيةٍ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/97). ، رَجَعَ كيومَ وَلَدَتْه أمُّه)) [1584] أخرجه البخاري (1521) واللفظ له، ومسلم (1350). .
2- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفَّارةٌ لِمَا بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزَاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) [1585] أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349). .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مِن جُملةِ ما فُسِّرَ به الحجُّ المبرورُ: أنَّه الحجُّ الَّذي لم يخالِطْه شَيءٌ مِنَ المَأثَمِ [1586] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (الأقوالُ في تَفسيرِ الحَجِّ المَبرورِ مُتَقارِبةُ المَعنى، وحاصِلُها أنَّه الحَجُّ الذي وُفِّيَت أحكامُه، فوقَعَ موافِقًا لِما طُلبَ مِنَ المُكَلَّفِ على الوَجهِ الأكمَلِ). ((المفهم)) (3/ 463). وقال أبو عَبدِ اللَّهِ القُرطُبيُّ: (قال الفُقَهاءُ: الحَجُّ المَبرورُ هو الذي لم يُعصَ اللهُ تعالى فيه أثناءَ أدائِه، وقال الفرَّاءُ: هو الذي لم يُعصَ اللَّهُ سُبحانَه بَعدَه، ذَكَرَ القَولينِ ابنُ العَرَبيِّ رَحِمَه اللهُ، قُلتُ: الحَجُّ المَبرورُ هو الذي لم يُعصَ اللهُ سُبحانَه فيه لا بَعدَه، قال الحَسَنُ: الحَجُّ المَبرورُ هو أن يَرجِعَ صاحِبُه زاهدًا في الدُّنيا راغِبًا في الآخِرةِ. وقيل غَيرُ هذا). ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/408). وقال النَّوويُّ: (الأصَحُّ الأشهَرُ أنَّ المَبرورَ هو الذي لا يُخالِطُه إثمٌ، مَأخوذٌ مِنَ البرِّ، وهو الطَّاعةُ، وقيل: هو المَقبولُ، ومِن عَلامةِ القَبولِ أن يَرجِعَ خَيرًا مِمَّا كان ولا يُعاوِدَ المَعاصيَ، وقيل: هو الذي لا رياءَ فيه، وقيل: الذي لا يَعقُبُه مَعصيةٌ، وهما داخِلانِ فيما قَبلَهما، ومَعنى: «ليسَ له جَزاءٌ إلَّا الجَنَّةُ» أنَّه لا يُقتَصَرُ لصاحِبِه مِنَ الجَزاءِ على تَكفيرِ بَعضِ ذُنوبِه، بَل لا بُدَّ أن يَدخُلَ الجَنَّةَ). ((شرح مسلم)) (9/119). ويُنظَر: ((الاستذكار)) لابن عبد البَرِّ (4/104)، ((التمهيد)) لابن عبد البَرِّ (22/39)، ((شرح السنة)) للبغوي (7/6)، ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (5/1741)، ((مرعاة المفاتيح)) لأبي الحسن المباركفوري (8/390)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (71/74، 75). .

انظر أيضا: