سادسًا: الاستِعاذةُ قَبلَ الشُّروعِ في التِّلاوةِ
يُستَحَبُّ لقارِئِ القُرآنِ الكَريمِ إذا أرادَ الشُّروعَ في القِراءةِ أن يَستَعيذَ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
[1638] يُنظر: ((نوادر الأصول)) للحكيم الترمذي (3/ 253)، ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 210)، ((معالم التنزيل)) للبغوي (5/ 42)، ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (1/ 58)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/ 251)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 113). قال ابنُ كثيرٍ: (والاستِعاذةُ هيَ الالتِجاءُ إلى اللهِ والالتِصاقُ بجَنابِه مِن شَرِّ كُلِّ ذي شَرٍّ، والعياذةُ تَكونُ لدَفعِ الشَّرِّ، واللِّياذُ يَكونُ لطَلَبِ جَلبِ الخَيرِ. ومَعنى: "أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ"، أي: أستَجيرُ بجَنابِ اللَّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ أن يَضُرَّني في ديني أو دُنيايَ، أو يَصُدَّني عن فِعلِ ما أُمِرتُ به، أو يَحُثَّني على فِعلِ ما نُهيتُ عنه؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَكُفُّه عنِ الإنسانِ إلَّا اللهُ؛ ولهذا أمَر اللهُ تعالى بمُصانَعةِ شَيطانِ الإنسِ ومُداراتِه بإسداءِ الجَميلِ إليه؛ ليَرُدَّه طَبعُه عَمَّا هو فيه مِنَ الأذى، وأمَرَ بالاستِعاذةِ به مِن شَيطانِ الجِنِّ؛ لأنَّه لا يَقبَلُ رِشوةً ولا يُؤَثِّرُ فيه جَميلٌ؛ لأنَّه شِرِّيرٌ بالطَّبعِ، ولا يَكُفُّه عنك إلَّا الذي خَلَقَه). ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 113). ، سَواءٌ كان في الصَّلاةِ أو في غَيرِها
[1639] يُنظر: ((بحر العلوم)) للسمرقندي (2/ 291)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 583)، ((التبيان في آداب حملة القرآن)) للنووي (ص: 81)، ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/ 94)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 164). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ:قال تعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] .
(أي: فإذا أرَدتَ القِراءةَ لكِتابِ اللهِ الذي هو أشرَفُ الكُتُبِ وأجَلُّها، وفيه صَلاحُ القُلوبِ، والعُلومُ الكَثيرةُ، فإنَّ الشَّيطانَ أحرَصُ ما يَكونُ على العَبدِ عِندَ شُروعِه في الأُمورِ الفاضِلةِ، فيَسعى في صَرفِه عن مَقاصِدِها ومَعانيها؛ فالطَّريقُ إلى السَّلامةِ مِن شَرِّه الالتِجاءُ إلى اللهِ، والاستِعاذةُ به مِن شَرِّه، فيَقولُ القارِئُ: "أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ" مُتَدَبِّرًا لمَعناها، مُعتَمِدًا بقَلبِه على اللهِ في صَرفِه عنه، مُجتَهدًا في دَفعِ وساوِسِه وأفكارِه الرَّديئةِ مُجتَهدًا على السَّبَبِ الأقوى في دَفعِه، وهو التَّحَلِّي بحِليةِ الإيمانِ والتَّوكُّلِ)
[1640] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 449). .
مِن فوائدِ الاستعاذةِ قبلَ القِراءةِ وحِكَمِها1- قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَرَ سُبحانَه بالاستِعاذةِ به مِنَ الشَّيطانِ عِندَ قِراءةِ القُرآنِ، وفي ذلك وُجوهٌ:
مِنها: أنَّ القُرآنَ شِفاءٌ لِما في الصُّدورِ يَذهَبُ بما يُلقيه الشَّيطانُ فيها مِنَ الوساوِسِ والشَّهَواتِ والإراداتِ الفاسِدةِ؛ فهو دَواءٌ لِما أمَرَّه فيها الشَّيطانُ، فأُمِرَ أن يَطرُدَ مادَّةَ الدَّاءِ ويُخلِّيَ مِنه القَلبَ ليُصادِفَ الدَّواءُ مَحَلًّا خاليًا، فيَتَمَكَّنَ مِنه، ويُؤَثِّرَ فيه... فيَجيءُ هذا الدَّواءُ الشَّافى إلى قَلبٍ قد خَلا مِن مُزاحِمٍ ومُضادٍّ له فيُنجِعُ فيه.
ومِنها: أنَّ القُرآنَ مادَّةُ الهدى والعِلمِ والخَيرِ في القَلبِ، كما أنَّ الماءَ مادَّةُ النَّباتِ، والشَّيطانُ نارٌ يُحرِقُ النَّباتَ أوَّلًا فأوَّلًا، فكُلَّما أحَسَّ بنَباتِ الخَيرِ في القَلبِ سَعى في إفسادِه وإحراقِه؛ فأُمِرَ أن يَستَعيذَ باللهِ عَزَّ وجَلَّ مِنه؛ لئَلَّا يُفسِدُ عليه ما يَحصُلُ له بالقُرآنِ.
والفرقُ بَينَ هذا الوَجهِ والوَجهِ الذي قَبلَه: أنَّ الاستِعاذةَ في الوَجهِ الأوَّلِ لأجلِ حُصولِ فائِدةِ القُرآنِ، وفي الوَجهِ الثَّاني لأجلِ بَقائِها وحِفظِها وثَباتِها.
وكَأنَّ مَن قال: إنَّ الاستِعاذةَ بَعدَ القِراءةِ
[1641] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 157)، ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (3/ 325)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (14/ 275، 277). لاحَظَ هذا المَعنى، وهو -لَعَمرُ اللَّهِ- مَلحَظٌ جَيِّدٌ، إلَّا أنَّ السُّنَّةَ وآثارَ الصَّحابةِ إنَّما جاءَت بالاستِعاذةِ قَبلَ الشُّروعِ في القِراءةِ، وهو قَولُ جُمهورِ الأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ والخَلفِ، وهو مُحَصِّلٌ للأمرَينِ.
ومِنها: أنَّ المَلائِكةَ تَدنو مِن قارِئِ القُرآنِ وتَستَمِعُ لقِراءَتِه، كما في حَديث أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ لمَّا كان يَقرَأُ ورَأى مِثلَ الظُّلَّةِ فيها مِثلُ المَصابيحِ، فقال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((تلك المَلائِكةُ)) [1642] أخرجه البخاري (5018) عن أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ قال: (بينما هو يقرأُ من اللَّيلِ سورةَ البَقَرةِ، وفرَسُه مربوطٌ عندَه، إذ جالت الفَرَسُ، فسكَت فسكَتَت، فقرأ فجالت الفَرَسُ، فسَكَت وسكَتَت الفَرَسُ، ثمَّ قرأ فجالت الفَرَسُ، فانصرف، وكان ابنُه يحيى قريبًا منها، فأشفَق أن تصيبَه، فلمَّا اجتَرَّه رفَعَ رأسَه إلى السَّماءِ حتَّى ما يراها، فلمَّا أصبح حدَّث النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: اقرَأْ يا ابنَ حُضَيرٍ، اقرَأْ يا ابنَ حُضَيرٍ! قال: فأشفَقْتُ -يا رسولَ اللهِ- أن تطَأَ يحيى وكان مِنها قَريبًا، فرَفعتُ رَأسي فانصَرَفتُ إليه، فرَفعتُ رَأسي إلى السَّماءِ، فإذا مِثلُ الظُّلَّةِ فيها أمثالَ المَصابيحِ، فخَرَجتُ حَتَّى لا أراها. قال: وتَدري ما ذاكَ؟ قال: لا. قال: تلك المَلائِكةُ دَنَت لصَوتِك، ولَو قَرَأتَ لَأصبَحَت يَنظُرُ النَّاسُ إليها، لا تَتَوارى منهم). وأخرجه البخاري معلَّقًا بعد حديث (5018)، وأخرجه موصولًا مسلم (796) مِن حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ عن أسَيدِ بنِ حُضَيرٍ رَضيَ اللهُ عنهما. ، والشَّيطانُ ضِدُّ المَلَكِ وعَدُوُّه؛ فأُمِرَ القارِئُ أن يَطلُبَ مِنَ اللهِ تعالى مُباعَدةَ عَدوِّه عنه حَتَّى يُحضِرَه خاصَّتَه ومَلائِكَتَه، فهذه وليمةٌ لا يَجتَمِعُ فيها المَلائِكةُ والشَّياطينُ.
ومِنها: أنَّ الشَّيطانَ يَجلِبُ على القارِئِ بخَيلهِ ورَجِلِه؛ حَتَّى يَشغَلَه عنِ المَقصودِ بالقُرآنِ، وهو تَدَبُّرُه وتَفهُّمُه ومَعرِفةُ ما أرادَ به المُتَكَلِّمُ به سُبحانَه، فيَحرِصُ بجُهدِه على أن يَحولَ بَينَ قَلبِه وبَين مَقصودِ القُرآنِ، فلا يَكمُلَ انتِفاعُ القارِئِ به؛ فأُمِرَ عِندَ الشُّروعِ أن يَستَعيذَ باللهِ عَزَّ وجَلَّ مِنه.
ومِنها: أنَّ القارِئَ مُناجٍ للهِ تعالى بكَلامِه... والشَّيطانُ إنَّما قِراءَتُه الشِّعرُ والغِناءُ؛ فأُمِر القارِئُ أن يَطرُدَه بالاستِعاذةِ عِندَ مُناجاتِه تعالى واستِماعِ الرَّبِّ قِراءَتَه.
ومِنها: أنَّ اللَّهَ سُبحانَه أخبَرَ أنَّه ما أرسَلَ مِن رَسولٍ ولا نَبيٍّ
إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] ، والسَّلَفُ كُلُّهم على أنَّ المَعنى: إذا تَلا ألقى الشَّيطانُ في تِلاوتِه، فإذا كان هذا فِعلَه مَعَ الرُّسُلِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فكَيف بغَيرِهم؟! ولهذا يُغلطُ القارِئَ تارةً، ويَخلِطُ عليه القِراءةَ، ويُشَوِّشُها عليه، فيَخبِطُ عليه لسانَه، أو يُشَوِّشُ عليه ذِهنَه وقَلبَه، فإذا حَضَرَ عِندَ القِراءةِ لَم يَعدَمْ مِنه القارِئُ هذا أو هذا، ورُبَّما جَمَعَهما له؛ فكان مِن أهَمِّ الأُمورِ: الاستِعاذةُ باللهِ تعالى مِنه عِندَ القِراءةِ.
ومِنها: أنَّ الشَّيطانَ أحرَصُ ما يَكونُ على الإنسانِ عِندَما يَهمُّ بالخَيرِ، أو يَدخُلُ فيه، فهو يَشتَدُّ عليه حينَئِذٍ ليَقطَعَه عنه، وفي الصَّحيحِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ شَيطانًا تَفَلَّت عليَّ البارِحةَ، فأرادَ أن يَقطَعَ عليَّ صَلاتي)) الحَديثَ
[1643] لَفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ عِفريتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّت عليَّ البارِحةَ -أو كَلِمةً نَحوَها- ليَقطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فأمكَنَني اللهُ مِنه، فأرَدتُ أن أربِطَه إلى ساريةٍ مِن سَواري المَسجِدِ؛ حَتَّى تُصبحوا وتَنظُروا إليه كُلُّكُم، فذَكَرتُ قَولَ أخي سُلَيمانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)). أخرجه البخاري (461) واللفظ له، ومسلم (541). . وكُلَّما كان الفِعلُ أنفعَ للعَبدِ وأحَبَّ إلى اللهِ تعالى، كان اعتِراضُ الشَّيطانِ له أكثَرَ. وفي مُسنَدِ الإمامِ أحمَدَ مِن حَديثِ سَبرةَ بنِ أبى الفاكِهِ أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: "إنَّ الشَّيْطانَ قَعَدَ لابنِ آدَمَ بأطْرُقِه، فقَعَدَ له بطَريقِ الإسلامِ فقالَ: تُسلِمُ وتَذَرُ دينَك ودينَ آبائِك وآباءِ أبيك، فعَصاه فأَسلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ له بطَريقِ الهِجرةِ فقالَ: تُهاجِرُ وتَذَرُ أرضَك وسَماءَك، وإنَّما مَثَلُ المُهاجِرِ كمَثَلِ الفَرَسِ في الطِّوَلِ
[1644] الطِّوَلُ: هو بكَسرِ الطَّاءِ: الحَبلُ الطَّويلُ يُشَدُّ أحَدُ طَرَفَيه في وَتدٍ أو غَيرِه، والطَّرَفُ الآخَرُ في يَدِ الفرَسِ؛ ليَدورَ فيه ويَرعى ولا يَذهَبَ لوَجهِه. يُنظر: ((حاشية السيوطي على سنن النسائي)) (6/ 21-23). ، فعَصاه فهاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ له بطَريقِ الجِهادِ، فقالَ: تُجاهِدُ، فهو جَهْدُ النَّفسِ والمالِ، فتُقاتِلُ فتُقتَلُ، فتُنكَحُ المَرأةُ، ويُقسَمُ المالُ، فعَصاه فجاهَدَ"
[1645] أخرجه النسائي (3134)، وأحمد (15958). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4593)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/463)، والقرطبي في ((التفسير)) (10/142)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3134)، وصحَّح إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/35). . فالشَّيطانُ بالرَّصدِ للإنسانِ على طَريقِ كُلِّ خَيرٍ، ولا سيَّما عِندَ قِراءةِ القُرآنِ؛ فأمَر سُبحانَه العَبدَ أن يُحارِبَ عَدوَّه الذي يَقطَعُ عليه الطَّريقَ، ويَستَعيذَ باللهِ تعالى مِنه أوَّلًا، ثُمَّ يَأخُذَ في السَّيرِ، كما أنَّ المُسافِرَ إذا عَرَضَ له قاطِعُ طَريقٍ اشتَغَلَ بدَفعِه، ثُمَّ اندَفعَ في سَيرِه.
ومِنها: أنَّ الاستِعاذةَ قَبلَ القِراءةِ عُنوانٌ وإعلامٌ بأنَّ المَأتيَّ به بَعدَها القُرآنُ؛ ولهذا لَم تُشرَعِ الاستِعاذةُ بَينَ يَدَي كَلامِ غَيرِه
[1646] يُنظر: ((تصحيح الدعاء)) لبكر أبو زيد (ص: 273). ، بَل الاستِعاذةُ مُقدِّمةٌ وتَنبيهٌ للسَّامِعِ أنَّ الذي يَأتي بَعدَها هو التِّلاوةُ، فإذا سَمِعَ السَّامِعُ الاستِعاذةَ استَعَدَّ لاستِماعِ كَلامِ اللهِ تعالى، ثُمَّ شُرِعَ ذلك للقارِئِ وإن كان وحدَه؛ لِما ذَكَرنا مِنَ الحِكَمِ وغَيرِها)
[1647] يُنظر: ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (1/ 92-94). .
2- قال ابنُ كَثيرٍ: (مِن لَطائِفِ الاستِعاذةِ أنَّها طَهارةٌ للفَمِ مِمَّا كان يَتَعاطاه مِنَ اللَّغوِ والرَّفَثِ، وتَطييبٌ له وتَهَيُّؤٌ لتِلاوةِ كَلامِ اللَّهِ، وهيَ استِعانةٌ باللهِ واعتِرافٌ له بالقُدرةِ، وللعَبدِ بالضَّعفِ والعَجزِ عن مُقاومةِ هذا العَدوِّ المُبينِ الباطِنيِّ الذي لا يَقدِرُ على مَنعِه ودَفعِه إلَّا اللهُ الذي خَلَقَه، ولا يَقبَلُ مُصانَعةً، ولا يُدارى بالإحسانِ، بخِلافِ العَدوِّ مِن نَوعِ الإنسانِ... وقال تعالى:
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65] ، وقد نَزَلَتِ المَلائِكةُ لمُقاتَلةِ العَدوِّ البَشَريِّ يَومَ بَدرٍ، ومَن قَتلَه العَدوُّ البَشَريُّ كان شَهيدًا، ومَن قَتَله العَدوُّ الباطِنيُّ كان طَريدًا، ومَن غَلَبَه العَدوُّ الظَّاهِرُ كان مَأجورًا، ومَن قَهَرَه العَدوُّ الباطِنُ كان مَفتونًا أو مَوزورًا، ولمَّا كان الشَّيطانُ يرى الإنسانَ مِن حَيثُ لا يَراه، استَعاذَ مِنه بالذي يَراه ولا يَراه الشَّيطانُ)
[1648] ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 114). .
3- قال ابنُ عاشورٍ: (إنَّما شُرِعَتِ الاستِعاذةُ عِندَ ابتِداءِ القِراءةِ إيذانًا بنَفاسةِ القُرآنِ ونَزاهَتِه؛ إذ هو نازِلٌ مِنَ العالَمِ القُدسيِّ المَلَكيِّ، فجُعِلَ افتِتاحُ قِراءَتِه بالتَّجَرُّدِ عنِ النَّقائِصِ النَّفسانيَّةِ التي هيَ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ، ولا استِطاعةَ للعَبدِ أن يَدفعَ تلك النَّقائِصَ عن نَفسِه إلَّا بأن يَسألَ اللهَ تعالى أن يُبعِدَ الشَّيطانَ عنه بأن يَعوذَ باللهِ؛ لأنَّ جانِبَ اللهِ قُدسيٌّ لا تَسلُكُ الشَّياطينُ إلى مَن يَأوي إليه، فأرشَدَ اللهُ رَسولَه إلى سُؤالِ ذلك، وضَمِنَ له أن يُعيذَه مِنه، وأن يُعيذَ أُمَّتَه عَوذًا مُناسِبًا، كما شُرِعَتِ التَّسميةُ في الأُمورِ ذَواتِ البالِ، وكما شُرِعَتِ الطَّهارةُ للصَّلاةِ.
وإنَّما لَم تُشرَعْ لذلك كَلِمةُ "باسِمِ اللَّهِ"؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ تَخَلٍّ عنِ النَّقائِصِ، لا مَقامُ استِجلابِ التَّيَمُّنِ والبَرَكةِ؛ لأنَّ القُرآنَ نَفسَه يُمنٌ وبَرَكةٌ وكَمالٌ تامٌّ، فالتَّيَمُّنُ حاصِلٌ، وإنَّما يَخشى الشَّيطانُ أن تغشى بَرَكاتُه، فيُدخِلُ فيها ما يَنقُصُها؛ فإنَّ قِراءةَ القُرآنِ عِبارةٌ مُشتَمِلةٌ على النُّطقِ بألفاظِه والتَّفهُّمِ لمَعانيه، وكِلاهما مُعَرَّضٌ لوَسوسةِ الشَّيطانِ وسوسةً تَتَعَلَّقُ بألفاظِه، مِثلُ الإنساءِ؛ لأنَّ الإنساءَ يَضيعُ على القارِئِ ما يَحتَوي عليه المِقدارُ المَنسيُّ مِن إرشادٍ، ووَسوسةً تَتَعَلَّقُ بمَعانيه، مِثلُ أن يخطئَ فهمًا أو يَقلِبَ عليه مُرادًا، وذلك أشَدُّ مِن وَسوَسةِ الإنساءِ)
[1649] ((التحرير والتنوير)) (14/ 276). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 157، 158). .