ثامنًا: تَرتيلُ القُرآنِ الكَريمِ
يُستَحَبُّ لقارِئِ القُرآنِ الكَريمِ أن يُرَتِّلَ قِراءَتَه
[1659] يُنظر: ((أخلاق أهل القرآن)) للآجري (ص: 167)، ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 211)، ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 102)، ((التبيان)) للنووي (ص: 88)، ((شرح العمدة-صفة الصلاة)) لابن تيمية (ص: 189)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 311). قال النَّوويُّ: (قال العُلَماءُ: والتَّرتيلُ مُستَحَبٌّ للتَّدَبُّرِ ولغَيرِه، قالوا: يُستَحَبُّ التَّرتيلُ للعَجَميِّ الذي لا يَفهَمُ مَعناه؛ لأنَّ ذلك أقرَبُ إلى التَّوقيرِ والاحتِرامِ، وأشَدُّ تَأثيرًا في القَلب). ((التبيان)) (ص: 91). وقال الشَّافِعيُّ: (أقَلُّ التَّرتيلِ تَركُ العَجَلةِ في القُرآنِ عنِ الإبانةِ، وكُلَّما زادَ على أقَلِّ الإبانةِ في القِراءةِ كان أحَبَّ إليَّ ما لَم يَبلُغْ أن تَكونَ الزِّيادةُ فيها تَمطيطًا، وأُحِبُّ ما وصَفتُ لكُلِّ قارِئٍ في صَلاةٍ وغَيرِها، وأنا له في المُصَلِّي أشَدُّ استِحبابًا مِنه للقارِئِ في غَيرِ صَلاةٍ). ((الأم)) (1/ 132). وقال الآجُرِّيُّ: (اعلَمْ أنَّه إذا رَتَّلَه وبَيَّنَه انتَفعَ به مَن يَسمَعُه مِنه، وانتَفعَ هو بذلك؛ لأنَّه قَرَأه كما أمَر اللهُ عَزَّ وجَلَّ في قَولِه تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء: 106] : على تُؤَدةٍ... والقَليلُ مِنَ الدَّرسِ للقُرآنِ مَعَ الفِكرِ فيه وتَدَبُّرِه أحَبُّ إليَّ مِن قِراءةِ الكَثيرِ مِنَ القُرآنِ بغَيرِ تَدَبُّرٍ ولا تَفكُّرٍ فيه، وظاهِرُ القُرآنِ يَدُلُّ على ذلك، والسُّنَّةُ وقَولُ أئِمَّةِ المُسلِمينَ). ((أخلاق أهل القرآن)) (ص: 167، 169). وقال القُرطُبيُّ: (يَنبَغي أن يَقرَأَه على تُؤَدةٍ وتَرتيلٍ ولا يَهُذُّ؛ فإنَّ التَّفكُّرَ أمكَنُ مِنه عِندَ التَّرتيلِ مِنه عِندَ الهَذِّ؛ فكان التَّرتيلُ بالذِّكرِ أَولى، فيَستَعمِلُ فيه ذِهنَه وفَهمَه حَتَّى يَعقِلَ ما يُخاطَبُ به). ((التذكار)) (ص: 178). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ:أ- من الكِتابِ1- قال تعالى:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] .
أي: واقرَأِ القُرآنَ بتَمَهُّلٍ وتُؤَدةٍ وتَبيينٍ لحُروفِه بلا عَجَلةٍ؛ فيَكونُ ذلك عَونًا على التَّفكُّرِ فيه، وفَهمِ مَعانيه
[1660] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (41/ 16). .
2- قال تعالى:
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] .
أي: وقُرآنًا فَصَّلْناه وبَيَّنَّاه وأحْكَمْناه، وفرَّقْنا فيه بينَ الحَقِّ والباطِلِ، والهُدى والضَّلالِ؛ لِتَتلُوَه -يا رَسولَ اللهِ- على النَّاسِ بتَمَهُّلٍ وتُؤَدةٍ وتَرتيلٍ، ولا تَعجَلْ في تِلاوتِه؛ فإنَّ ذلك أيسَرُ للحِفظِ، وأعوَنُ على الفَهمِ؛ ليَتَدَبَّرَه النَّاسُ ويتَفَكَّروا في معانيه، ويَستَخرِجوا مِن عُلومِه وأسرارِه ومَرامِيه
[1661] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (14/ 485، 486). .
3- قال تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] .
أي: أنزَلْناه مُرَتَّلًا، وهو ضِدُّ المُعَجَّلِ
[1662] ((شرح السنة)) للبغوي (4/ 481). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ: اقرَأْ وارتَقِ ورَتِّلْ كما كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلَك عِند آخِرِ آيةٍ تَقرَؤُها)) [1663] أخرجه أبو داود (1464) واللفظ له، والترمذي (2914)، وأحمد (6799) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (766)، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1464)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (798)، وقال الترمذي والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1464): حسنٌ صحيحٌ. .
2- عن حَفصةَ رَضيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت:
((ما رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى في سُبحَتِه [1664] سُبْحتُه: أي: نافِلتُه، والسُّبحةُ: الصَّلاةُ مُطلقًا، وقد تَرِدُ في مَواضِعَ بمَعنى النَّافِلةِ خاصَّةً كَهذا المَوضِعِ، وإنَّها بالنَّافِلةِ أخَصُّ؛ قيل: لأنَّ الفريضةَ وإن كان فيها تَسبيحٌ أيضًا، ولكِنْ تَسبيحُ الفريضةِ فيها نافِلةٌ، فجُعِل اسمُ صَلاةِ النَّافِلةِ كُلِّها سُبحةً؛ لأنَّها كالتَّسبيحِ في الفريضةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (5/ 316)، ((جمع الوسائل)) للقاري (2/ 81). قاعِدًا، حتَّى كان قَبلَ وفاتِه بعامٍ، فكان يُصَلِّي في سُبحَتِه قاعِدًا، وكان يَقرَأُ بالسُّورةِ فيُرَتِّلُها حَتَّى تَكونَ أطوَلَ مِن أطوَلَ مِنها)) [1665] أخرجه مسلم (733). .
3- عن قتادةَ، قال:
((سَألتُ أنَسَ بنَ مالكٍ عن قِراءةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كان يَمُدُّ مَدًّا)) [1666] أخرجه البخاري (5045). .
وفي لَفظٍ عن قتادةَ، قال:
((سُئِلَ أنَسٌ: كَيف كانت قِراءةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: كانت مَدًّا، ثُمَّ قَرَأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1] ، يَمُدُّ ببسمِ اللَّهِ، ويَمُدُّ بالرَّحمَنِ، ويَمُدُّ بالرَّحيمِ)) [1667] أخرجه البخاري (5046). .
4- عن حُذَيفةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((صَلَّيتُ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ لَيلةٍ، فافتَتَحَ البَقَرةَ، فقُلتُ: يَركَعُ عِندَ المِائةِ، ثُمَّ مَضى، فقُلتُ: يُصَلِّي بها في رَكعةٍ، فمَضى، فقُلتُ: يَركَعُ بها، ثُمَّ افتَتَحَ النِّساءَ، فقَرَأها، ثُمَّ افتَتَحَ آلَ عِمرانَ، فقَرَأها، يَقرَأُ مُتَرَسِّلًا، إذا مَرَّ بآيةٍ فيها تَسبيحٌ سَبَّحَ، وإذا مَرَّ بسُؤالٍ سَألَ، وإذا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعوَّذَ)) [1668] أخرجه مسلم (772). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: "يَقرَأُ مُتَرَسِّلًا"، أي: مُتَرَفِّقًا مُتَمَهِّلًا، مِن قَولِهم: على رِسْلِك، أي: على رِفقِك)
[1669] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (2/ 405). .
وقال ابنُ علَّانَ: ("يَقرَأُ مُتَرَسِّلًا"، أي: مُرَتِّلًا بتَبيينِ الحُروفِ وأداءِ حَقِّها)
[1670] ((دليل الفالحين)) (2/ 320). ، (والتَّرَسُّلُ: تَرتيلُ الحُروفِ وأداؤُها حَقَّها)
[1671] ((دليل الفالحين)) (6/ 643). .
ج- مِن الإجماعِنقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ
[1672] ممن نقَل الإجماعَ على ذلك: القاضي عياضٌ والنَّوويُّ. قال القاضي عِياضٌ: (لا خِلافَ في أنَّ حُسنَ الصَّوتِ في القِراءة مُستَحسَنٌ، والتَّرتيلَ فيها وتَحسينَ تِلاوةِ القُرآنِ مَشروعٌ مَندوبٌ إليه). ((إكمال المعلم)) (3/ 160). وقال النَّوويُّ: (اتَّفقَ العُلَماءُ رَضيَ اللهُ عنهم على استِحبابِ التَّرتيلِ). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 88، 89). .
فائدةٌ:1- قال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: (اختَلَف النَّاسُ في الأفضَلِ مِنَ التَّرتيلِ وقِلَّةِ القِراءةِ، أوِ السُّرعةِ مَعَ كَثرةِ القِراءةِ: أيُّهما أفضَلُ، على قَولَينِ.
فذَهَبَ ابنُ مَسعودٍ وابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما وغَيرُهما إلى أنَّ التَّرتيلَ والتَّدَبُّرَ مَعَ قِلَّةِ القِراءةِ أفضَلُ مِن سُرعةِ القِراءةِ مَعَ كَثرَتِها.
واحتَجَّ أربابُ هذا القَولِ بأنَّ المَقصودَ مِنَ القِراءةِ فَهمُه وتَدَبُّرُه، والفِقهُ فيه والعَمَلُ به. وتِلاوتُه وحِفظُه وسيلةٌ إلى مَعانيه، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: "نَزَلَ القُرآنُ ليُعمَلَ به، فاتَّخَذوا تِلاوتَه عَمَلًا"
[1673] أخرجه الآجري في ((أخلاق حملة القرآن)) (38)، والخطيب في ((اقتضاء العلم العمل)) (116) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ الخَطيبِ: عن عَبدِ الصَّمَدِ بنِ يَزيدَ، قال سَمِعتُ الفُضَيلَ يَقولُ: (إنَّما نَزَلَ القُرآنُ ليُعمَلَ به، فاتَّخَذَ النَّاسُ قِراءَتَه عَمَلًا! قال: قيلَ: كَيف العَمَلُ به؟ قال: أي: ليُحِلُّوا حَلالَه ويُحَرِّموا حَرامَه، ويَأتَمِروا بأوامِرِه ويَنتَهوا عن نَواهيه، ويَقِفوا عِندَ عَجائِبِه). وذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (1/64) مِن قَولِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه بلَفظِ: (أُنزِلَ القُرآنُ ليُعمَلَ به، فاتَّخَذتُم دِراسَتَه عَمَلًا، وسيَأتي قَومٌ يُثَقِّفونَه [أي يبالغون في تحسينه] مِثلَ القَناةِ ليسوا بخيارِكُم، والعالِمُ الذي لا يَعمَلُ كالمَريضِ الذي يَصِفُ الدَّواءَ، وكالجائِعِ الذي يَصِفُ لَذائِذَ الأطعِمةِ ولا يَجِدُها). ؛ ولهذا كان أهلُ القُرآنِ همُ العالِمونَ به، والعامِلونَ بما فيه، وإن لَم يَحفَظوه عن ظَهرِ قَلبٍ، وأمَّا مَن حَفِظَه ولَم يَفهَمْه ولَم يَعمَلْ بما فيه، فلَيسَ مِن أهلِه وإن أقامَ حُروفَه إقامةَ السَّهمِ.
قالوا: ولأنَّ الإيمانَ أفضَلُ الأعمالِ، وفَهمُ القُرآنِ وتَدَبُّرُه هو الذي يُثمِرُ الإيمانَ، وأمَّا مُجَرَّدُ التِّلاوةِ مِن غَيرِ فَهمٍ ولا تَدَبُّرٍ، فيَفعَلُها البَرُّ والفاجِرُ، والمُؤمِنُ والمُنافِقُ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ومَثَلُ المُنافِقِ الذي يَقرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ الرَّيحانةِ؛ رِيحُها طَيِّبٌ، وطَعمُها مُرٌّ"
[1674] أخرجه البخاري (5427)، ومسلم (797) مِن حَديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه، بلَفظ: ((ومَثَلُ المُنافِقِ الذي يَقرَأُ القُرآنَ مَثَلُ الرَّيحانةِ؛ ريحُها طَيِّبٌ، وطَعمُها مُرٌّ)). .
والنَّاسُ في هذا أربَعُ طَبَقاتٍ: أهلُ القُرآنِ والإيمانِ، وهم أفضَلُ النَّاسِ. والثَّانيةُ: مَن عَدِم القُرآنَ والإيمانَ. الثَّالثةُ: مَن أوتيَ قُرآنًا ولَم يُؤتَ إيمانًا، الرَّابعةُ: مَن أوتيَ إيمانًا ولَم يُؤتَ قُرآنًا.
قالوا: فكَما أنَّ مَن أوتيَ إيمانًا بلا قُرآنٍ أفضَلُ مِمَّن أوتيَ قُرآنًا بلا إيمانٍ، فكَذلك مَن أوتيَ تَدَبُّرًا وفَهمًا في التِّلاوةِ أفضَلُ مِمَّن أوتيَ كَثرةَ قِراءةٍ وسُرعَتَها بلا تَدَبُّرٍ.
قالوا: وهذا هَديُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه كان يُرَتِّلُ السُّورةَ حَتَّى تَكونَ أطوَلَ مِن أطوَلَ مِنها
[1675] أخرجه مسلم (733) عن حَفصةَ أنَّها قالت: (ما رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى في سُبحَتِه قاعِدًا حَتَّى كان قَبلَ وَفاتِه بعامٍ، فكان يُصَلِّي في سُبحَتِه قاعِدًا، وكان يَقرَأُ بالسُّورةِ فيُرَتِّلُها حَتَّى تَكونَ أطولَ مِن أطولَ مِنها). ، ... وقال أصحابُ الشَّافِعيِّ رَحِمَه اللهُ: كَثرةُ القِراءةِ أفضَلُ، واحتَجُّوا بحَديثِ ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن قَرَأ حَرفًا مِن كِتابِ اللهِ فلَه به حَسَنةٌ، والحَسَنةُ بعَشرِ أمثالِها، لا أقولُ: الم حَرفٌ، ولَكِنْ ألِفٌ حَرفٌ، ولامٌ حَرفٌ، وميمٌ حَرفٌ". رَواه التِّرمِذيُّ وصَحَّحَه
[1676] أخرجه الترمذي (2910)، واللفظ له، والبخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/216)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1830). ذكر البُخاريُّ في ((التاريخ الكبير)) (1/216) أنَّ فيه محمَّدَ بنَ كَعبٍ، لا أدري حَفِظَه أم لا؟ والحديث أخرجه الدارمي (3358)، والطبراني (9/139) (8646)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1832) موقوفًا على عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. قال ابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (1/109): لا يَصحُّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُشبِهُ أن يَكونَ مِن كَلامِ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وقال ابنُ كَثير في ((فضائل القرآن)) (46): إنَّما هو مِن كَلامِ ابنِ مَسعودٍ، وذَكَر شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح الطحاوية)) (9) أنَّ فيه أبا إسحاقَ الهَجَريَّ -وهو إبراهيم بنُ مُسلمٍ-: لَيِّنُ الحَديثِ يَرفعُ المَوقوفاتِ، فيُحتَمَلُ أن يَكونَ وَهِمَ في رَفعِ هذا الحَديثِ، وإنَّما هو مِن كَلامِ ابنِ مَسعودٍ. .
قالوا: ولأنَّ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ قَرَأ القُرآنَ في رَكعةٍ
[1677] لَفظُه: عن مُحَمَّدِ بنِ المُنكَدِرِ عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عُثمانَ، قال: قُلتُ: (لا يَغلِبُني اللَّيلةَ على المقامِ أحَدٌ، فجاءَ رَجُلٌ حَتَّى وضَع يَدَه بَينَ كَتِفَيَّ، فالتَفَتُّ فإذا أميرُ المُؤمِنينَ عُثمانُ، فتَنَحَّيتُ فافتَتَحَ القُرآنَ فقَرَأه في رَكعةٍ، فقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إنَّما صَلَّيتَ رَكعةً! فقال: هيَ وِتري). أخرجه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1750) الدارقطني (2/34) واللفظ له، والبيهقي (4846). صحَّحه الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (3/476)، وابن كثير في ((الأحكام الكبير)) (3/196)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/160). ، وذَكَروا آثارًا عن كَثيرٍ مِنَ السَّلَفِ في كَثرةِ القِراءةِ.
والصَّوابُ في المَسألةِ أن يُقالَ: إنَّ ثَوابَ قِراءةِ التَّرتيلِ والتَّدَبُّرِ أجَلُّ وأرفَعُ قَدْرًا، وثَوابُ كَثرةِ القِراءةِ أكثَرُ عَدَدًا؛ فالأوَّلُ: كَمَن تَصَدَّق بجَوهَرةٍ عَظيمةٍ، أو أعتَقَ عَبدًا قِيمتُه نَفيسةٌ جِدًّا، والثَّاني: كَمَن تَصَدَّق بعَدَدٍ كَثيرٍ مِنَ الدَّراهِمِ، أو أعتَقَ عَدَدًا مِنَ العَبيدِ قِيمتُهم رَخيصةٌ.
وفي صَحيحِ البُخاريِّ عن قتادةَ قال: "سَألَتُ أنَسًا عن قِراءةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كان يَمُدُّ مَدًّا"
[1678] أخرجه البخاري (5045). .
وقال شُعبةُ: حَدَّثَنا أبو جَمرةَ، قال: قُلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: إنِّي رَجُلٌ سَريعُ القِراءةِ، ورُبَّما قَرَأتُ القُرآنَ في لَيلةٍ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ، فقال ابنُ عَبَّاسٍ: لَأن أقرَأَ سورةً واحِدةً أعجَبُ إليَّ مِن أن أفعَلَ ذلك الذي تَفعَلُ، فإن كُنتَ فاعِلًا ولا بُدَّ فاقرَأ قِراءةً تُسمِعُ أُذُنَيك، ويَعيها قَلبُك
[1679] أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في ((فضائل القرآن)) (ص157)، وسعيد بن منصور في ((التفسير)) (161)، والبيهقي (4118). .
وقال إبراهيمُ: قَرَأ عَلقَمةُ على ابنِ مَسعودٍ، وكان حَسَنَ الصَّوتِ، فقال: رَتِّلْ، فِداك أبي وأُمِّي؛ فإنَّه زَينُ القُرآنِ
[1680] أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (7348)، وابن أبي شيبة (30778)، والبيهقي (2467) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البَيهقيِّ: عن إبراهيمَ قال: (قرأ عَلقَمةُ على عبدِ اللهِ، وكان حَسَنَ الصَّوتُ، فقال: رَتِّلْ، فِداك أبي وأمي؛ فإنَّه زَينُ القُرآن)ِ. .
وقال ابنُ مَسعودٍ: لا تَهُذُّوا
[1681] الهَذُّ: سُرعةُ القِراءةِ والإفراطُ في العَجَلةِ. يُنظر: ((الفائق)) للزمخشري (4/ 98)، ((شرح مسلم)) للنووي (6/ 105)، ((سلاح المؤمن)) لابن الإمام (ص: 283). القُرآنَ هَذَّ الشِّعرِ، ولا تَنثُروه نَثرَ الدَّقلِ
[1682] الدَّقلُ مِنَ التَّمرِ قيل: هو أردَأُ أنواعِه، واحِدَتُها دَقَلةٌ، بفتحِ الدَّالِ والقافِ، وأدقَلتِ النَّخلةُ نَحوُ أرطَبَت وأثمَرَت، والدَّقلُ إذا نُثِرَ تَفرَّق فلا تَراه ليُبسِه ورَداءَتِه يُجمَعُ، بَل يَكونُ مَنثورًا، لا يَلصَقُ بَعضُه ببَعضٍ، ووَجهُ التَّشبيهِ: أنَّه يَتَناثَرُ مُتَتابِعًا على غَيرِ تَرتيبٍ، فشُبِّهَ المُسرِعُ في قِراءَتِه بذلك. يُنظر: ((الفائق)) للزمخشري (4/ 98)، ((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 293)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (5/ 353)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (2/ 455)، ((سلاح المؤمن)) لابن الإمام (ص: 283)، ((نخب الأفكار)) للعيني (5/ 440). ، وقِفوا عِندَ عَجائِبه، وحَرِّكوا به القُلوبَ، ولا يَكُنْ هَمَّ أحَدِكُم آخِرُ السُّورةِ
[1683] أخرجه ابن أبي شيبة (8825)، والخطيب في ((المتفق والمفترق)) (1770) مختصرًا باختلافٍ يسيرٍ، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1883، 2042) مفرَّقًا، ولَفظُ البَيهَقيِّ: عنِ القاسِمِ بنِ الوليدِ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ: (لا تَهُذُّوا القُرآنَ هَذَّ الشِّعرِ، ولا تَنثُروه نَثرَ الدَّقلِ، وقِفوا عِندَ عَجائِبِه، وحَرِّكوا به القُلوبَ)، وعن إبراهيمَ، قال: قال عَبدُ اللهِ: (اقرَؤوا القُرآنَ، وحَرِّكوا به القُلوبَ، ولا يَكُنْ هَمَّ أحَدِكُم آخِرُ السُّورةِ). .
وقال عَبدُ اللهِ أيضًا: إذا سَمِعتَ اللهَ يَقولُ:
يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا فأصغِ لَها سَمعَك؛ فإنَّه خَيرٌ تُؤمَرُ به، أو شَرٌّ تُصرَفُ عنه
[1684] أخرجه سعيد بن منصور في ((التفسير)) (50) عن مِسعَرِ بنِ كِدامٍ. وأخرجه أحمد في ((الزهد)) (866)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/130) عن مَعنِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ. وأخرجه ابنُ أبي حاتم في ((التفسير)) (5027) عن مَعنِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، وعونِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ بنِ مَسعودٍ، أو أحَدِهما. قال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/619): إسنادُه جيِّدٌ، إلَّا أنَّ فيه انقطاعًا. [1685] ((زاد المعاد)) (1/ 327-329). .
2- قال ابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ: (التَّحقيقُ أنَّ لكُلٍّ مِنَ الإسراعِ والتَّرتيلِ جِهةَ فَضلٍ، بشَرطِ أن يَكونَ المُسرِعُ لا يُخِلُّ بشَيءٍ مِنَ الحُروفِ والحَرَكاتِ والسُّكونِ الواجِباتِ، فلا يَمتَنِعُ أن يَفضُلَ أحَدُهما الآخَرَ وأن يَستَويا؛ فإنَّ مَن رَتَّلَ وتَأمَّلَ كمَن تَصَدَّقَ بجَوهَرةٍ واحِدةٍ مُثَمَّنةٍ، ومَن أسرَعَ كمَن تَصَدَّقَ بعِدَّةِ جَواهِرَ، لَكِنْ قيمَتُها قيمةُ الواحِدةِ، وقد تَكونُ قيمةُ الواحِدةِ أكثَرَ مِن قيمةِ الأُخرَياتِ، وقد يَكونُ بالعَكسِ)
[1686] ((فتح الباري)) (9/ 89). .