موسوعة الآداب الشرعية

حادي عشرَ: عَدَمُ رَفعِ الصَّوتِ إذا كان يُؤذي غَيرَه


لا يَنبَغي لقارِئِ القُرآنِ الكَريمِ أن يَرفعَ صَوتَه إذا كان ذلك يُشَوِّشُ على الآخَرينَ، أو يُؤذيهم ويُلبِّسُ عليهم صَلاتَهم ويَخلِطُها عليهم [1713] يُنظر: ((التبيان)) للنووي (ص: 107). قال الحَكيمُ التِّرمِذيُّ: (مِن حُرمةِ القُرآنِ ألَّا يَجهَرَ بَعضٌ على بَعضٍ في القِراءةِ، فيُفسِدَ عليه حَتَّى يُبَغِّضَ إليه ما يَسمَعُ، ويَكونَ كهَيئة المُغالَبةِ). يُنظر: ((نوادر الأصول)) (3/ 256). وقال البَيهَقيُّ: (إذا كانوا جَماعةً يقرؤون القُرآنَ فلا يَرفعْ بَعضُهم على بَعضٍ في القِراءةِ؛ لِما فيه مِنَ الأذى على أصحابِه). ((شعب الإيمان)) (4/ 210). وقال القُرطُبيُّ: (هذا حُكمُ كُلِّ مُصَلٍّ وقارِئٍ، فلا يَنبَغي لمُصَلٍّ غَيرِه أو قارِئٍ سِواه أن يَخلِطَ قِراءَتَه عليه). ((التذكار في أفضل الأذكار)) (ص: 190). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((اعتَكَف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ، فسَمِعَهم يَجهَرونَ بالقِراءةِ، فكَشَف السِّترَ فقال: ألا إنَّ كُلَّكُم مُناجٍ رَبَّه، فلا يُؤذِينَّ بَعضُكُم بَعضًا، ولا يَرفعْ بَعضُكُم على بَعضٍ في القِراءةِ، أو قال: في الصَّلاةِ)) [1714] أخرجه أبو داود (1332) واللفظ له، وأحمد (11896). صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (2/333)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1184)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/318)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1332)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (419). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (لا يُحَبُّ لكُلِّ مُصَلٍّ يَقضي فَرْضَه وإلى جَنبِه مَن يَعمَلُ مِثلَ عَمَلِه أن يُفرِطَ في الجَهرِ؛ لئَلَّا يَخلِطَ عليه، كما لا يُحَبُّ ذلك لمُتَنَفِّلٍ إلى جَنبِ مُتَنَفِّلٍ مِثلِه، وإذا كان هذا هَكَذا فحَرامٌ على النَّاسِ أن يَتَحَدَّثوا في المَسجِدِ بما يَشغَلُ المُصَلِّيَ عن صَلاتِه، ويَخلِطُ عليه قِراءَتَه، وواجِبٌ لازِمٌ على كُلِّ مَن يُطاعُ أن يَنهى عن ذلك؛ لأنَّ ذلك إذا لَم يَجُزْ للمُصَلِّي التَّالي للقُرآنِ، فأينَ الحَديثُ بأحاديثِ النَّاسِ مِن ذلك؟!) [1715] ((الاستذكار)) (1/ 435). .
وقال أيضًا: (إذا لَم يَجُزْ للتَّالي المُصَلِّي رَفعُ صَوتِه لئَلَّا يغلطَ ويَخلِطَ على مُصَلٍّ إلى جَنبِه، فالحَديثُ في المَسجِدِ مِمَّا يَخلِطُ على المُصَلِّي أَولى بذلك وألزَمُ وأمنَعُ وأحرَمُ، واللَّهُ أعلَمُ، وإذا نُهيَ المُسلِمُ عن أذى أخيه المُسلمِ في عَمَلِ البرِّ وتِلاوةِ الكِتابِ، فأذاه في غَيرِ ذلك أشَدُّ) [1716] ((التمهيد)) (23/ 319). .
2- عنِ البَياضيِّ رَضيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ على النَّاسِ وهم يُصَلُّونَ، وقد عَلَت أصواتُهم بالقِراءةِ، فقال: إنَّ المُصَلِّيَ يُناجي رَبَّه، فليَنظُرْ بما يُناجيه به، ولا يَجهَرْ بَعضُكُم على بَعضٍ بالقُرآنِ)) [1717] أخرجه أحمد (19022)، ومالك (2/109) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3350). صحَّحه ابنُ عبدِ البَرِّ في ((التمهيد)) (23/315)، وابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/17)، والسخاويُّ في ((المقاصد الحسنة)) (425)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19022). .
3- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتَكَف وخَطَبَ النَّاسَ، فقال: أمَا إنَّ أحَدَكُم إذا قامَ في الصَّلاةِ فإنَّه يُناجي رَبَّه، فليَعلَمْ أحَدُكُم ما يُناجي رَبَّه، ولا يَجهَرْ بَعضُكُم على بَعضٍ بالقِراءةِ في الصَّلاةِ)) [1718] أخرجه من طرقٍ: أحمد (4928) واللفظ له، وابن خزيمة (2237)، والطبراني (12/428) (13572). صحَّحه ابنُ خُزَيمةَ، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7/63)، والألبانيُّ في ((هداية الرواة)) (817)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4928). .
4- عن أبي هُرَيرةَ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انصَرَف مِن صَلاةٍ جَهَرَ فيها بالقِراءةِ، فقال: هَل قَرَأ مَعي أحَدٌ مِنكُم آنِفًا؟ فقال رَجُلٌ: نَعَم يا رَسولَ اللهِ، قال: إنِّي أقولُ ما لي أُنازَعُ القُرآنَ؟!)) قال: فانتَهى النَّاسُ عنِ القِراءةِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما جَهَرَ فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الصَّلَواتِ بالقِراءةِ حينَ سَمِعوا ذلك مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1719] أخرجه أبو داود (826)، والترمذي (312) واللفظ له، والنسائي (919). صحَّحه أبو حاتم الرازي كما في ((تفسير القرآن)) لابن كثير (3/542)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1843)، وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (11/23)، وأحمد شاكر في تخريج ((سنن الترمذي)) (2/118)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (312)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1297). .
5- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الظُّهرِ -أوِ العَصرِ- فقال: أيُّكُم قَرَأ خَلفي بسَبِّحِ اسمَ رَبِّك الأعلى؟ فقال رَجُلٌ: أنا، ولَم أُرِدْ بها إلَّا الخَيرَ، قال: قد عَلِمتُ أنَّ بَعضَكم خالَجَنيها)) [1720] أخرجه مسلم (398). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: "خالَجَنيها"، أي: جاذَبَنيها، والخَلجُ: الجَذبُ، وهذا وقَولُه: "نازَعَنيها" سَواءٌ، وإنَّما أنكَرَ عليه مُحاذاتَه في قِراءةِ السُّورةِ حَتَّى تَداخَلَتِ القِراءَتانِ وتَجاذَبَتا) [1721] ((معالم السنن)) (1/ 206). .
ومن أقوالِ السَّلَفِ:
1- عن مُغيرةَ، قال: (سَألتُ إبراهيمَ عنِ الجَهرِ في قِراءةِ النَّهارِ، فقال: إنْ لَم تُؤذِ أحَدًا فلا بَأسَ بذلك) [1722] أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في ((فضائل القرآن)) (ص170) واللفظ له، وابن أبي شيبة (3686). .
2- عن لُقمانَ بنِ عامِرٍ، قال: (صَلَّى رَجُلٌ إلى جَنبِ أبي مُسلِمٍ الخَولانيِّ، فجَهَرَ بالقِراءةِ، فلَمَّا فرَغَ أبو مُسلِمٍ مِن صَلاتِه قال: يا ابنَ أخي، أفسَدتَ علَيَّ وعَلى نَفسِك) [1723] أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في ((فضائل القرآن)) (ص170). .

انظر أيضا: