عاشرًا: تحسينُ الصَّوتِ
يُستَحَبُّ لقارِئِ القُرآنِ الكَريمِ أن يُحَسِّنَ صَوتَه
[1691] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 211)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/ 196)، ((التبيان في آداب حملة القرآن)) للنووي (ص: 110). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ والآثارِ:أ- مِنَ السُّنَّةِ1- عنِ البَراءِ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((زَيِّنوا القُرآنَ بأصواتِكُم؛ فإنَّ الصَّوتَ الحَسَنَ يَزيدُ القُرآنَ حُسنًا)) [1692] أخرجه الدارمي (3501)، والحاكم (2125) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1955). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3581)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/218)، وقوَّى سَنَدَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2/595). وأخرجه البخاري معلَّقًا قبل حديث (7544)، وأخرجه موصولًا أبو داود (1468)، والنسائي (1015) مختصرًا بلفظِ: ((زَيِّنوا القُرآنَ بأصواتِكم)). صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (3/72)، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (4/86)، وابن حبان في ((صحيحه)) (749)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1468)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (130). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((ما أذِنَ اللهُ لشَيءٍ ما أَذِنَ لنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوتِ يَتَغَنَّى بالقُرآنِ، يَجهَرُ به)) [1693] أخرجه البخاري (7544) واللفظ له، ومسلم (792). .
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما أذِنَ)) أي: ما ما استَمَعَ اللهُ لشَيءٍ كاستِماعِه لنَبيٍّ يَتَغَنَّى بالقُرآنِ، فالأَذَنُ هاهنا الاستِماعُ؛ لدَلالةِ السِّياقِ عليه، وكما قال تعالى:
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق: 1 - 5] ، أي: استَمَعَت لرَبِّها، وحُقَّت، أى: وحُقَّ لَها أن تَستَمِعَ أمرَه وتُطيعَه
[1694] يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 346)، ((فضائل القرآن)) للقاسم بن سلام (ص: 162)، ((جامع البيان)) للطبري (24/ 230)، ((شرح السنة)) للبغوي (4/ 484)، ((فضائل القرآن)) لابن كثير (ص: 180). .
3- عن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((تَعلَّموا كِتابَ اللهِ، وتَعاهَدوه وتَغَنَّوا به؛ فوالذي نَفسي بيَدِه لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ المَخاضِ في العُقُلِ)) [1695] أخرجه من طرق أحمد (17317) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8049)، والطبراني (17/290) (800). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2964)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (936)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17317). والحديث أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791) بلَفظٍ مُقارِبٍ دونَ التَّغَنِّي مِن حَديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه، ولَفظُ مُسلمٍ: ((تَعاهَدوا هذا القُرآنَ؛ فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)). .
قال المُناويُّ: ("تَعلَّموا كِتابَ اللهِ" القُرآنَ، أي: احفَظوه وتَفَهَّموه "وتَعاهَدوه" زادَ في رِوايةٍ: "واقتَنوه"
[1696] أخرجها أحمد (17361)، والدارمي (3349)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8034). صحَّحها ابن حبان في ((صحيحه)) (119)، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1495)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17361)، وحَسَّنها الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (936). ، أي: الزَموه، "وتَغَنَّوا به"، أي: اقرَؤوه بتَحزينٍ وتَرقيقٍ، وليس المُرادُ قِراءَتَه بالألحانِ والنَّغماتِ، "فوالذي نَفسي بيَدِه لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا"، أي: ذَهابًا "مِنَ المَخاضِ"، أي: النُّوقِ الحَوامِلِ، "في العُقُلِ" جمعُ عِقالٍ، وعَقَلتُ البَعيرَ: حَبَستُه، وخُصَّ ضَربُ المَثَلِ بها؛ لأنَّها إذا انفلَتَت لا تَكادُ تُلحَقُ)
[1697] يُنظر: ((فيض القدير)) (3/ 255). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس مِنَّا مَن لَم يَتَغَنَّ بالقُرآنِ)) [1698] أخرجه البخاري (7527). .
4- عن عَبدِ الجَبَّارِ بنِ الوَرْدِ، قال: سَمِعتُ ابنَ أبي مُلَيكةَ يَقولُ: قال عُبيدُ اللهِ بنُ أبي يَزيدَ: مَرَّ بنا أبو لُبابةَ فاتَّبَعْناه حَتَّى دَخَلَ بَيتَه، فدَخَلنا عليه، فإذا رَجُلٌ رَثُّ
[1699] رَثُّ البَيتِ: أي: رَثُّ مَتاعِ البَيتِ، أي: مَتاعُه دونٌ مِنَ الخَلقِ، وقيل: المرادُ: عَتيقُ البَيتِ دونَه ليسَ هو مِنَ البُيوتِ المُرتَفِعةِ، والرَّثُّ: الشَّيءُ البالي. يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (7/ 192)، ((شرح أبي داود)) للعيني (5/ 386). البَيتِ، رَثُّ الهَيئةِ، فسَمِعتُه يَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((ليس مِنَّا مَن لَم يَتَغَنَّ بالقُرآنِ)). قال: فقُلتُ لابنِ أبي مُلَيكةَ: يا أبا مُحَمَّدٍ، أرَأيتَ إذا لَم يَكُنْ حَسَنَ الصَّوتِ؟ قال: يُحسِّنُه ما استَطاعَ
[1700] أخرجه أبو داود (1471) واللفظ له، والطبراني (5/34) (4514)، والبيهقي (21092). قوى إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1308)، وجَوَّده النووي في ((التبيان)) (145). وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1451). .
قال النَّوَويُّ: (قال جمهورُ العُلَماءِ
[1701] قال ابنُ الجَوزيِّ: (اختَلَف العُلَماءُ في مَعنى "يَتَغَنَّى بالقُرآنِ" على أربَعةِ أقوالٍ؛ أحَدُها: أنَّه تَحسينُ الصَّوتِ به. والثَّاني: أنَّ المَعنى: يَستَغني به... فعَلى هذا يَكونُ المَعنى: مَن لَم يَستَغنِ بالقُرآنِ عنِ الإكثارِ مِنَ الدُّنيا؛ لأنَّه يُنَبِّهُه على تَركِ الفُضولِ، ويَحُثُّه على طَلَبِ الآخِرةِ. والثَّالثُ: أنَّ المَعنى: يَتَحَزَّنُ به ويَتَرَنَّمُ، قاله الشَّافِعيُّ، وكَذلك قال أبو عُبَيدٍ: هو عِندَنا تَحزينُ القِراءةِ. والرَّابعُ: أنَّه التَّشاغُلُ به عن مَكانِ التَّغَنِّي، قال ابنُ الأعرابيِّ: كانتِ العَرَبُ تَتَغَنَّى بالرُّكبانِ إذا رَكِبَتِ الإبِلَ، وإذا جَلَسَت في الأفنِيةِ، وعَلى أكثَرِ أحوالِها، فلَمَّا نَزَلَ القُرآنُ أحَبَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَكونَ القُرآنُ هِجِّيراهم مَكانَ التَّغَنِّي بالرُّكبانِ). ((كشف المشكل)) (3/ 367-369). ويُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 349، 384)، ((فضائل القرآن)) للقاسم بن سلام (ص: 210)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 258)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/ 198)، ((الحوادث والبدع)) للطرطوشي (ص: 92)، ((التذكار)) للقرطبي (ص: 165)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/ 468)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 70). : مَعنى "لَم يَتَغَنَّ": لَم يُحسِّنْ صَوتَه... قال العُلَماءُ رَحِمَهمُ اللهُ: فيُستَحَبُّ تَحسينُ الصَّوتِ بالقِراءةِ وتَزيينُها ما لَم يَخرُجْ عن حَدِّ القِراءةِ بالتَّمطيطِ، فإن أفرَطَ حَتَّى زادَ حَرفًا أو أخفاه فهو حَرامٌ)
[1702] ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 110). .
5- عن عَبدِ اللهِ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، قال:
((مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أبي موسى ذاتَ ليلةٍ وهو يقرأُ، فقال: لقد أُعطِيَ من مزاميرِ آلِ داودَ [1703] شَبَّه حُسنَ صَوتِه وحَلاوةَ نَغمَتِه بصَوتِ المِزمارِ، وهو مِن آلاتِ الغِناءِ، فضَرَبَ المِزمارَ مَثَلًا لحُسنِ صَوتِه وحَلاوةِ نَغمَتِه، كَأنَّ في حَلقِه مَزاميرَ يُزَمِّرُ بها، وداودُ هو النَّبيُّ عليه السَّلامُ، وإليه المُنتَهى في حُسنِ الصَّوتِ بالقِراءةِ. وقَولُه: ((آلِ داودَ)) أي: داودَ نَفسِه؛ لأنَّه لم يُذكَرْ أنَّ أحَدًا مِن آلِ داودَ كان أُعطيَ مِن حُسنِ الصَّوتِ ما أُعطيَ داودُ، فذِكرُ الآلِ هنا صِلةٌ، كَما يُقالُ: مِثلُك لا يَفعَلُ كَذا، ويُريدونَ: أنتَ لا تَفعَلُ، وقيل: الآلُ: يَقَعُ على ذاتِ الشَّيءِ، وعلى ما يُضافُ إليه. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 1951)، ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 318)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (1/ 260)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 415)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 80)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 312)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/ 140). ! فلمَّا أصبَح ذكروا ذلك له، فقال: لو كُنتَ أعلَمْتَني لحَبَّرتُ [1704] التَّحبيرُ: التَّحسينُ والتَّزيينُ، والمحَبَّرُ: الشَّيءُ المُزَيَّنُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 415)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 80). ذلك تحبيرًا)) [1705] أخرجه من طرقٍ: عبد الرزاق (4178)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8004) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1962). صحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/1483). وقولُه: ((لقد أعطِيَ من مزاميرِ آلِ داودَ)) أخرجه مسلم (793) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيدةَ عن أبيه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ قَيْسٍ -أو الأشْعَرِيَّ- أُعْطِيَ مِزْمارًا مِن مَزامِيرِ آلِ داوُدَ)). وأخرجه الحاكم (6093) من حديثِ أبي بُردةَ بنِ أبي موسى، ولفظُه: عن أبي بُردةَ بنِ أبي موسى، قال: ((مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأبي موسى ذاتَ ليلةٍ ومعه عائشةُ، وأبو موسى يقرأُ فقاما فاستمعا لقراءتِه، ثمَّ مَضَيا، فلمَّا أصبح أبو موسى، وأتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مررتُ بك يا أبا موسى البارحةَ وأنت تقرأُ، فاستَمَعنا لقراءتِك، فقال أبو موسى: يا نبيَّ اللهِ، لو عَلِمتُ بمكانِك لحبَّرتُ لك تحبيرًا)). صحَّح إسنادَه الحاكمُ. .
6- عنِ البَراءِ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ في العِشاءِ، وما سَمِعتُ أحَدًا أحسَنَ صَوتًا مِنه أو قِراءةً)) [1706] أخرجه البخاري (769) واللفظ له، ومسلم (464). .
ب- من الإجماعِنَقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ
[1707] ممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك: القاضي عياضٌ والنَّوويُّ. قال القاضي عِياضٌ: (لا خِلافَ في أنَّ حُسنَ الصَّوتِ في القِراءة مُستَحسَنٌ، والتَّرتيلَ فيها وتَحسينَ تِلاوةِ القُرآنِ مَشروعٌ مَندوبٌ إليه). ((إكمال المعلم)) (3/ 160). وقال النَّوويُّ: (قال القاضي: أجمَعَ العُلَماءُ على استِحبابِ تَحسينِ الصَّوتِ بالقِراءةِ وتَرتيلِها). ((شرح مسلم)) (6/ 80). وقال النَّوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ رَضيَ اللهُ عنهم مِنَ السَّلَفِ والخَلفِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعدَهم مِن عُلَماءِ الأمصارِ أئِمَّةِ المُسلِمينَ على استِحبابِ تَحسينِ الصَّوتِ بالقُرآنِ، وأقوالُهم وأفعالُهم مَشهورةٌ نِهايةَ الشُّهرةِ... ودَلائِلُ هذا مِن حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستَفيضةٌ عِندَ الخاصَّةِ والعامَّةِ). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 109). .
ج- من الآثار:عن أنسٍ رَضيَ اللهُ عنه، (أنَّ أبا موسَى كان يَقرأُ ذاتَ ليلةٍ، ونساءُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَستمِعْنَ، فقيل له، فقال: لو عَلِمْتُ لحبَّرْتُ تَحْبيرًا، أو لشوَّقْتُ تَشْويقًا)
[1708] أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4970)، وابن أبي شيبة (30567) واللفظ له، وأبو عوانة في ((المستخرج)) (4367). صححه على شرط مسلم ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/212). .
فوائِدُ ومَسائِلُ:1- قال ابنُ كَثيرٍ: (المَطلوبُ شَرعًا إنَّما هو التَّحسينُ بالصَّوتِ الباعِثُ على تَدَبُّرِ القُرآنِ وتَفهُّمِه، والخُشوعِ والخُضوعِ والانقيادِ للطَّاعةِ. فأمَّا الأصواتُ بالنَّغماتِ المُحدَثةِ المُرَكَّبةِ على الأوزانِ، والأوضاعِ المُلهيةِ، والقانونِ الموسيقائيِّ؛ فالقُرآنُ يُنَزَّهُ عن هذا ويَجِلُّ ويَعظُمُ أن يُسلَكَ في أدائِه هذا المَذهَبُ، وقد جاءَتِ السُّنَّةُ بالزَّجرِ عن ذلك...، وقد نَصَّ الأئِمَّةُ على النَّهي عنه، فأمَّا إن خَرَجَ به إلى التَّمطيطِ الفاحِشِ، الذي يَزيدُ بسَبَبِه حَرفًا أو يَنقُصُ حَرفًا، فقدِ اتَّفقَ العُلَماءُ على تَحريمِه
[1709] قال الماوَرْديُّ عن هذا النَّوعِ مِنَ القِراءةِ بالألحانِ: (إذا أخرَجت لَفظَ القُرآنِ عن صيغَتِه، بإدخالِ حَرَكاتٍ فيه وإخراجِ حَرَكاتٍ مِنه -يُقصَدُ بها وَزنُ الكَلامِ وانتِظامُ اللَّحنِ- أو مَدِّ مَقصورٍ، أو قَصرِ مَمدودٍ، أو مَطَّطَ حَتَّى خَفيَ اللَّفظُ، والتَبَسَ المَعنى؛ فهذا مَحظورٌ يَفسُقُ به القارِئُ ويَأثَمُ به المُستَمِعُ؛ لأنَّه قد عَدَلَ به عن نَهجِه إلى اعوِجاجِه، واللهُ تعالى يَقولُ: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: 28] ). ((الحاوي الكبير)) (17/ 198). وقال النَّوويُّ: (وهذا القِسمُ الأوَّلُ مِنَ القِراءةِ بالألحانِ المُحَرَّمةِ مُصيبةٌ ابتُليَ بها بَعضُ الجَهَلةِ الطَّغامِ الغَشَمةِ الذينَ يقرؤون على الجَنائِزِ وبَعضِ المَحافِلِ، وهذه بِدعةٌ مُحَرَّمةٌ ظاهِرةٌ، يَأثَمُ كُلُّ مُستَمِعٍ لَها كما قاله أقَضى القُضاةِ الماوَرْديِّ، ويَأثَمُ كُلُّ قادِرٍ على إزالَتِها أو على النَّهيِ عنها إذا لَم يَفعَلْ ذلك، وقد بَذَلتُ فيها بَعضَ قُدرَتي، وأرجو مِن فَضلِ اللهِ الكَريمِ أن يوفِّقَ لإزالَتِها مَن هو أهلٌ لذلك، وأن يَجعَلَه في عافيةٍ). ((التبيان)) (ص: 112). ، واللهُ أعلَمُ)
[1710] ((فضائل القرآن)) (ص: 195، 198). ويُنظر: ((أخلاق أهل القرآن)) للآجري (ص: 163)، ((الحوادث والبدع)) للطرطوشي (ص: 90)، ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 102، 111)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/ 466). .
2- قال أبو بَكرٍ الطُّرْطُوشيُّ بَعدَ أن ذَكَرَ أسماءَ بَعضِ لُحونِ الأغاني التي نَقَلَ بَعضُ القُرَّاءِ القِراءةَ إلى أوضاعِها: (هذه أسماءٌ ابتَدَعوها في كِتابِ اللهِ تعالى ما أنزَلَ اللهُ بها مِن سُلطانٍ، فالتَّالي مِنهم والسَّامِعُ لا يَقصِدونَ فَهمَ مَعانيه؛ مِن أمرٍ أو نَهيٍ، أو وعدٍ أو وعيدٍ، أو وعظٍ أو تَخويفٍ، أو ضَربِ مَثَلٍ، أوِ اقتِضاءِ حُكمٍ، أو غَيرِ ذلك مِمَّا أُنزِلَ به القُرآنُ، وإنَّما للَّذَّةِ والطَّرَبِ، والنَّغَماتِ والألحانِ، كنَقرِ الأوتارِ، وأصواتِ المَزاميرِ! كما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ يَذُمُّ قُرَيشًا:
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] .
وإنَّما أُنزِلَ القُرآنُ لتُتَدَبَّرَ آياتُه وتُفهَمَ مَعانيَه؛ قال اللهُ تعالى:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] ، وقال تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82] ، وقال:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] ، وهذا يَمنَعُ أن يُقرَأَ بالألحانِ المُطرِبةِ والمُشبِهةِ للأغاني؛ لأنَّ ذلك يُثمِرُ ضِدَّ الخُشوعِ، ونَقيضَ الخَوفِ والوَجَلِ.
وقَولُه تعالى فيهم:
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83] ، وهذا يُفيدُ الأمرَ بتِلاوتِه على هذا الوَجهِ، وأنَّ بُكاءَهم إنَّما كان مِمَّا فَهِموا مِن مَعانيه، لا مِن نَغَماتِ القارِئِ!
فأينَ هذا مِن دَقِّ الرِّجلِ، وثَنيِ العِطفِ، وتَحريكِ الرَّأسِ، والصِّياحِ والزَّعقِ، والمُكاءِ والتَّصديةِ؟!
قال اللهُ تعالى:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] .
فلَيتَ شِعري، ما الذي يورِثُ خَشيةَ اللهِ تعالى؟! أألحانُ الكِرْمانيِّ ونَغَماتُ التِّرمِذيِّ، أو فَهمُ مَعانيه، وتَدَبُّرُ آياتِه، واستِخلاصُ حِكَمِه وعَجائِبِ مَضمونِه ؟!)
[1711] ((الحوادث والبدع)) (ص: 86-88). .
3- قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قال مالِكٌ: يَنبَغي أن نُنَزِّهَ أذكارَ اللَّهِ، وقِراءةَ القُرآنِ عنِ التَّشَبُّهِ بأحوالِ المُجونِ والباطِلِ؛ فإنَّها حَقٌّ وجِدٌّ وصِدقٌ. والغِناءُ هَزلٌ ولَهوٌ ولَعِبٌ.
وهذا الذي قاله مالِكٌ وجُمهورُ العُلَماءِ هو الصَّحيحُ؛ بدَليلِ ما ذُكِرَ، وبأدِلَّةٍ أُخرى؛ مِنها: أنَّ كَيفيَّةَ قِراءةِ القُرآنِ قد بَلَغَتنا مُتَواتِرةً عن كافَّةِ المَشايِخِ جيلًا فجيلًا إلى العَصرِ الكَريمِ؛ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس فيها تَلحينٌ ولا تَطريبٌ، مَعَ كَثرةِ المُتَعَمِّقينَ والمُتَنَطِّعينَ في مَخارِجِ الحُروفِ، وفي المَدِّ والإدغامِ والإظهارِ، وغَيرِ ذلك مِن كَيفيَّةِ القِراءاتِ، وهذا قاطِعٌ...
ومِنها: أنَّ التَّطريبَ والتَّرجيعَ يُؤَدِّي إلى الزِّيادةِ في القُرآنِ والنَّقصِ مِنه، وهما مَمنوعانِ؛ فالمُؤَدِّي إليهما مَمنوعٌ، وبَيانُه: أنَّ التَّطريبَ والتَّلحينَ يَحتاجُ مِن ضَروراتِه أن يَمُدَّ في غَيرِ مَوضِع المَدِّ، ويَنقُصَ؛ مُراعاةً للوَزنِ، كما هو مَعلومٌ عِندَ أهلِه.
ومِنها: أنَّه يُؤَدِّي إلى تَشبيهِ القُرآنِ بالشِّعرِ، وقد نَزَّهَه اللهُ عنِ الشِّعرِ وأحوالِه؛ حَيثُ قال تعالى:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة: 40-41] )
[1712] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (2/ 421، 422). ويُنظر: ((التذكار في أفضل الأذكار)) لأبي عبد الله القرطبي (ص: 170). .