هـ- نَماذِجُ مِن قوَّةِ العُلَماءِ المُتَأخِّرينَ على الحَقِّ
1- ذَكرَ الباجيُّ قوَّةَ
العِزِّ بنِ عَبدِ السَّلامِ في الحَقِّ، وعَدَمَ خَوفِه في اللَّهِ لَومةَ لائِمٍ، حتَّى نَصَحَ السَّلاطينَ في أَوْجِ قوَّتِهم وبَينَ جُنودِهم وفي قُصورِهم، ومِن ذلك أنَّه قال: (طلَعَ شيخُنا عزُّ الدِّينِ مرَّةً إلى السُّلطانِ في يومِ عيدٍ إلى القلعةِ، فشاهد العساكِرَ مُصطفِّين بَيْنَ يديه ومجلِسِ المملكةِ، وما السُّلطانُ فيه يومَ العيدِ من الأبَّهةِ، وقد خرج على قومِه في زينتِه على عادةِ سَلاطينِ الدِّيارِ المِصريَّةِ، وأخذت الأمراءُ تُقَبِّلُ الأرضَ بَيْنَ يدَيِ السُّلطانِ، فالتَفَت الشَّيخُ إلى السُّلطانِ، وناداه: يا أيُّوبُ، ما حجَّتُك عِندَ اللهِ إذا قال لك: ألم أُبَوِّئْ لك مُلكَ مِصرَ ثمَّ تبيحُ الخمورَ؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانةُ الفلانيَّةُ يباعُ فيها الخمورُ، وغيرُها من المُنكَراتِ، وأنت تتقَلَّبُ في نعمةِ هذه المملكةِ، يناديه كذلك بأعلى صوتِه والعساكِرُ واقفون! فقال: يا سيِّدي، هذا أنا ما عَمِلتُه، هذا من زمانِ أبي، فقال: أنت من الذين يقولون:
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] ، فرسم السُّلطانُ بإبطالِ تلك الحانةِ.
يقول الباجيُّ: سألتُ الشَّيخَ لَمَّا جاء من عِندِ السُّلطانِ وقد شاع هذا الخَبَرُ: يا سيِّدي كيف الحالُ؟ فقال: يا بُنَيَّ رأيتُه في تلك العَظَمةِ، فأردتُ أن أُهينَه لئلَّا تكبُرَ نفسُه فتؤذيَه، فقُلتُ: يا سيِّدي، أما خِفتَه؟ فقال: واللهِ يا بُنَيَّ استحضَرْتُ هيبةَ اللهِ تعالى، فصار السُّلطانُ قُدَّامي كالقِطِّ)
[7851] يُنظَر: ((طبقات الشافعية)) للسبكي (8/211، 212). .
2-
مُحيي الدِّينِ يحيى بنُ شَرَفٍ النَّوويُّ كان لا تَأخُذُه في اللَّهِ لَومةُ لائِمٍ، بل كان إذا عَجَزَ عنِ المواجَهةِ كتَبَ الرَّسائِلَ، ويتَوصَّلُ إلى إبلاغِها.
فمِمَّا كتَبَه الإمامُ ورَقةٌ أرسَلَها إلى الظَّاهرِ تَتَضَمَّنُ العَدلَ في الرَّعيَّةِ، وإزالةَ المُكوسِ عنهم، وكتَبَ مَعَه في ذلك غَيرُ واحِدٍ مِنَ الشُّيوخِ وغَيرِهم، ووضَعَ ورَقةَ الظَّاهرِ في ورَقةٍ لبيليك الخازِندارِ بَدرِ الدِّينِ نَصُّها: (بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، مِن عَبدِ اللَّهِ
يحيى النَّوويِّ، سَلامُ اللَّهِ ورَحمَتُه وبَرَكاتُه على المَولى الحَسَنِ، مَلِكِ الأُمَراءِ: بَدرِ الدِّينِ، أدامَ اللَّهُ الكريمُ له الخَيراتِ، وتَولَّاه بالحَسَناتِ، وبَلَّغَه مِن خَيراتِ الآخِرةِ والأُولى كُلَّ آمالِه، وبارَك له في جَميعِ أعمالِه، آمينَ.
ويُنهي إلى العُلومِ الشَّريفةِ أنَّ أهلَ الشَّامِ هذه السَّنةَ في ضيقِ عَيشٍ وضَعفِ حالٍ؛ بسَبَبِ قِلَّةِ الأمطارِ وغَلاءِ الأسعارِ، وقِلَّةِ الغَلَّاتِ والنَّباتِ، وهَلاكِ المَواشي، وغَيرِ ذلك، وأنتُم تَعلَمونَ أنَّه تَجِبُ الشَّفَقةُ على الرَّاعي والرَّعيَّةِ، ونَصيحَتُه في مَصلَحَتِه ومَصلَحَتِهم؛ فإنَّ الدَّينَ النَّصيحةُ، وقد كَتَبَ خَدَمةُ الشَّرعِ النَّاصِحونَ للسُّلطانِ، المُحِبُّونَ له كِتابًا بتَذكِرةِ النَّظَرِ في أحوالِ رَعيَّتِه والرِّفقِ بهم، وليس فيه ضَرَرٌ، بل هو نَصيحةٌ مَحضةٌ وشَفقةٌ تامَّةٌ، وذِكرى لأولي الألبابِ.
والمسؤولُ مِنَ الأميرِ أيَّدَه اللَّهُ تعالى تَقديمَه إلى السُّلطانِ أدامَ اللَّهُ له الخَيراتِ، ويتَكلَّمُ عليه مِنَ الإشارةِ بالرِّفقِ بالرَّعيَّةِ بما يجِدُه مُدَّخَرًا له عِندَ اللَّهِ تعالى
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30] .
وهذا الكِتابُ الذي أرسَلَته العُلَماءُ إلى الأميرِ أمانةٌ ونَصيحةٌ للسُّلطانِ أعَزَّ اللَّهُ أنصارَه والمُسلِمينَ كُلَّهم في الدُّنيا والآخِرةِ، فيجِبُ عليكم إيصالُه للسُّلطانِ أعَزَّ اللَّهُ أنصارَه، وأنتُم مسؤولون عن هذه الأمانةِ، ولا عُذرَ لَكم في التَّأخُّرِ عنها ولا حُجَّةَ لَكم في التَّقصيرِ فيها عِندَ اللَّهِ تعالى، تُسألونَ عنها:
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [الشعراء: 88] ،
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37] ، وأنتُم بحَمدِ اللَّهِ تُحِبُّونَ الخَيرَ وتَحرِصونَ عليه، وتُسارِعونَ إليه، وهذا مِن أهَمِّ الخَيراتِ وأفضَلِ الطَّاعاتِ، وقد أهِّلتُم له وساقَه اللَّهُ إليكم، وهو فضلٌ مِنَ اللَّهِ.
ونَحنُ خائِفونَ أن يزدادَ الأمرُ شِدَّةً إن لم يحصُلِ النَّظَرُ في الرِّفقِ بهم، قال اللَّهُ تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] ، وقال تعالى:
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 215] .
والجَماعةُ الكاتِبونَ مُنتَظِرونَ ثَمَرةَ هذا، فما فعَلتُموه وجَدتُموه عِندَ اللَّهِ،
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] ، والسَّلامُ عليكم ورَحمةُ اللَّهِ وبَرَكاتُه).
فلَمَّا وصَلَتِ الورَقَتانِ إليه أوقَفَ عليهما السُّلطانُ، فلَمَّا وقَف عليهما رَدَّ جَوابَهما رَدًّا عنيفًا مُؤلمًا، فتَنَكَّدَت خَواطِرُ الجَماعةِ الكاتِبينَ وغَيرِهم.
فكتَبَ
النَّوويُّ مَرَّةً أُخرى جَوابًا لجَوابِ السُّلطانِ، ومِمَّا جاءَ فيه: (مِن عَبدِ اللَّهِ
يحيى النَّوويِّ، يُنهي أنَّ خَدَمةَ الشَّرعِ الشَّريفِ كانوا كتَبوا ما بَلَغَ السُّلطانُ أعَزَّ اللَّهُ أنصارَه، فجاءَ الجَوابُ بالإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّهديدِ، وفَهِمْنا مِنه أنَّ الجِهادَ ذُكِرَ في الجَوابِ على خِلافِ حُكمِ الشَّرعِ، وقد أوجَبَ اللَّهُ إيضاحَ الأحكامِ عِندَ الحاجةِ إليها... وذَكرَ في الجَوابِ: أنَّ الجِهادَ ليس مُختَصًّا بالأجنادِ، وهذا أمرٌ لم نَدَعْه، ولَكِنَّ الجِهادَ فرضُ كِفايةٍ، فإذا قَرَّرَ السُّلطانُ له أجنادًا مَخصوصينَ، ولهم أخبازٌ مَعلومةٌ مِن بَيتِ المالِ -كما هو الواقِعُ- تَفرَّغ باقي الرَّعيَّةِ لمَصالحِهم ومَصالحِ السُّلطانِ والأجنادِ وغَيرِهم، مِنَ الزِّراعةِ والصَّنائِعِ وغَيرِها، الذي يحتاجُ النَّاسُ كُلُّهم إليها، فجِهادُ الأجنادِ مُقابَلٌ بالأخبازِ المُقَرَّرةِ لهم، ولا يحِلُّ أن يُؤخَذَ مِنَ الرَّعيَّةِ شَيءٌ ما دامَ في بَيتِ المالِ شَيءٌ مِن نَقدٍ أو مَتاعٍ، أو أرضٍ أو ضِياعٍ تُباعُ، أو غَيرِ ذلك...
وأمَّا أنا في نَفسي فلا يضُرُّني التَّهديدُ ولا أكثَرُ مِنه، ولا يمنَعُني ذلك مِن نَصيحةِ السُّلطانِ، فإنِّي أعتَقِدُ أنَّ هذا واجِبٌ عليَّ وعلى غَيري، وما تَرَتَّبَ على الواجِبِ فهو خَيرٌ وزيادةٌ عِندَ اللَّهِ تعالى...)
[7852] يُنظَر: ((تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين)) لابن العطار (ص: 98-104)، ((المنهل العذب الروي)) للسخاوي (ص: 47-49). .
3- قال عُمَرُ بنُ عَليٍّ البَزَّارُ عنِ
ابنِ تيميَّةَ: (كان رَضِيَ اللَّهُ عنه مِن أعظَمَ أهلِ عَصرِه قوَّةً ومَقامًا وثُبوتًا على الحَقِّ، وتَقريرًا لتَحقيقِ تَوحيدِ الحَقِّ، لا يصُدُّه عن ذلك لَومُ لائِمٍ ولا قَولُ قائِلٍ، ولا يرجِعُ عنه لحُجَّةِ مُحتَجٍّ، بل كان إذا وضَحَ له الحَقُّ يَعَضُّ عليه بالنَّواجِذِ ولا يلتَفِتُ إلى مُبايِنٍ مُعانِدٍ)
[7853] ((الأعلام العلية في مناقب ابن تَيميَّةَ)) (ص: 75). .
وذَكرَ عُمَرُ بنُ عَليٍّ عنِ
ابنِ تيميَّةَ أيضًا: (أنَّ اللَّهَ جَعَله حُجَّةً في عَصرِه ومِعيارًا للحَقِّ والباطِلِ، ومُريدًا الآجِلَ وغَيرَ مُؤثِرٍ العاجِلَ، وهذا أمرٌ قدِ اشتَهرَ وظَهَرَ؛ فإنَّه رَضِيَ اللَّهُ عنه ليس له مُصَنَّفٌ ولا نَصٌّ في مَسألةٍ ولا فتوى إلَّا وقدِ اختارَ فيه ما رَجَّحَه الدَّليلُ النَّقليُّ والعَقليُّ على غَيرِه، وتَحَرَّى قَولَ الحَقِّ المَحضِ فبَرهَنَ عليه بالبَراهينِ القاطِعةِ الواضِحةِ الظَّاهرةِ، بحَيثُ إذا سَمِعَ ذلك ذو الفِطرةِ السَّليمةِ يَثلجُ قَلبُه بها، ويَجزِمُ بأنَّها الحَقُّ المُبينُ، وتَراه في جَميعِ مُؤَلَّفاتِه إذا صَحَّ الحَديثُ عِندَه يأخُذُ به ويعمَلُ بمُقتَضاه ويُقدِّمُه على قَولِ كُلِّ قائِلٍ مِن عالمٍ ومُجتَهِدٍ)
[7854] ((الأعلام العلية في مناقب ابن تَيميَّةَ)) (ص: 78). .
4- أورَدَ
الذَّهَبيُّ أنَّ أبا مُحَمَّدٍ عَبدَ اللَّهِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ القاسِمِ بنِ حَزمٍ الأندَلُسيَّ القَلعيَّ (كان زاهدًا شُجاعًا،... وكان فقيهًا صُلبًا في الحَقِّ ورِعًا، كانوا يُشَبِّهونَه ب
سُفيانَ الثَّوريِّ في زَمانِه، وكان ثِقةً مَأمونًا، وبَلَغَنا أنَّه كان يقِفُ وحدَه للفِئةِ مِنَ المُشرِكينَ)
[7855] ((سير أعلام النبلاء)) (12/ 411). . توفِّيَ بقَلعةِ أيُّوبَ مِنَ الأندَلُسِ في رَبيعٍ الآخِرِ سَنةَ ثَلاثٍ وثَمانينَ وثَلاثمِئةٍ.