ثانيًا: الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ وغيرِه من الصِّفاتِ
الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ والتَّبَيُّنِ:يرى بعضُ العُلَماءِ أنَّ التَّثَبُّتَ والتَّبَيُّنَ بمعنًى واحدٍ، وذلك عِندَ توجيهِهم لقراءةِ
فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] ، و
فَتَثَبَّتُوا [1531] قرأ بها حمزةُ والكِسائيُّ وخَلَفٌ، وقرأ الباقون: فَتَبَيَّنُوا. يُنظَر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/251). . فالمتَثَبِّتُ عِندَ هؤلاء متَبَيِّنٌ، والمتَبَيِّنُ متَثَبِّتٌ
[1532] يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير (7/361)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/315). .
ويرى البعضُ أنَّ بَيْنَهما فَرقًا؛ فقد قال أبو عليٍّ الفارسيُّ في توجيهِه للقراءةِ: (حُجَّةُ مَن قال:
تَثَبَّتُوا: أنَّ التَّثَبُّتَ هو خلافُ الإقدامِ، والمرادُ التَّأنِّي، وخِلافُ التَّقدُّمِ، والتَّثَبُّتُ أشَدُّ اختصاصًا بهذا الموضِعِ. وممَّا يُبَيِّنُ ذلك قولُه:
وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66] أي: أشَدَّ وَقفًا لهم عمَّا وُعِظوا بألَّا يُقدِموا عليه. وممَّا يُقَوِّي ذلك قولُهم: تَثَبَّتْ في أمرِك. ولا يكادُ يُقالُ في هذا المعنى: تَبَيَّنْ.
ومن قرَأ:
فتَبَيَّنُوا فحُجَّتُه أنَّ التَّبَيُّنَ ليس وراءَه شيءٌ، وقد يكونُ تَبَيَّنْتُ أشَدَّ مِن تَثَبَّتُّ...، وقد قال الأعشى:
كما راشِدٍ تَجِدَنَّ امرَأً
تَبَيَّنَ ثمَّ ارعوى أو قَدِمْ
[1533] يُنظَر: ((ديوان الأعشى)) (ص: 35). فاستعمَل التَّبَيُّنَ في الموضعِ الذي يقِفُ فيه ناظِرًا في الشَّيءِ حتَّى يُقدِمَ عليه أو يرتَدِعَ عنه. فالتَّبَيُّنُ على هذا أَولى من التَّثَبُّتِ، وقال في موضِعِ الزَّجرِ والنَّهيِ والتَّوقُّفِ:
أَزَيدَ مناةَ تُوعِدُ يا بنَ تَيمٍ
تَبَيَّنْ أين تاهَ بك الوعيدُ
[1534] يُنظَر: ((ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب)) (ص: 332). [1535] يُنظَر: ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (3/174). .
ومِن أوجُهِ الفَرْقِ التي وردت ما قاله أبو النَّجمِ النَّسَفيُّ: (
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] ، وقُرِئ
فَتَثَبَّتُوا [1536] قرأ بها حمزةُ والكِسائيُّ وخَلَفٌ، وقرأ الباقون: فَتَبَيَّنُوا. يُنظَر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/ 251). . التَّبَيُّنُ والاستبانةُ: التَّعرُّفُ والتَّفحُّصُ ليُعلَمَ، والتَّثَبُّتُ والاستِثباتُ: التَّأنِّي والتَّأمُّلُ لِيَظهَرَ)
[1537] ((طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية)) (ص: 44). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (المرادُ من التَّبَيُّنِ التَّعرُّفُ والتَّفحُّصُ، ومن التَّثَبُّتِ: الأناةُ وعَدَمُ العَجَلةِ، والتَّبصُّرُ في الأمرِ الواقِعِ والخبَرِ الوارِدِ حتَّى يتَّضِحَ ويَظهَرَ)
[1538] ((فتح القدير)) للشوكاني (5/71). .
وقيل: (الرَّاجِحُ أنَّ بَيْنَهما فَرقًا، فلو لم يكُنْ بَيْنَهما فَرقٌ لَما جاءت القراءةُ الأُخرى باللَّفظِ الآخَرِ، فهناك فرقٌ بَيْنَهما...: أنَّ التَّبَيُّنَ يكونُ بالبَحثِ في الوسائِلِ المادِّيَّةِ التي من شأنِها أن تُرى وتُبانَ، بينما التَّثَبُّتُ يكونُ من جهةِ الأمورِ المَعنويَّةِ، كالسَّماعِ)
[1539] يُنظَر: ((موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)) (8/ 167). .
الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ والنَّظَرِ:النَّظَرُ: تقليبُ البَصَرِ أو البصيرةِ لإدراكِ الشَّيءِ ورؤيتِه، وقد يرادُ به التَّأمُّلُ والفَحصُ، وعلى هذا فالنَّظَرُ وسيلةٌ من وسائِلِ التَّثَبُّتِ وتحقيقِه
[1540] يُنظَر: ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص: 326)، ((موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)) (8/ 167). .
الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ والتَّحَرِّي:التَّحَرِّي: طَلَبُ الشَّيءِ بغالِبِ الرَّأيِ عِندَ تعذُّرِ الوقوفِ على حقيقتِه، وهو غيرُ الشَّكِّ والظَّنِّ؛ فالشَّكُّ: أن يستويَ طَرَفُ العِلمِ بالشَّيءِ والجَهلِ به، والظَّنُّ: أن يترجَّحَ أحَدُهما بغيرِ دليلٍ، والتَّحَرِّي: أن يترجَّحَ أحَدُهما بغالِبِ الرَّأيِ، وهو دليلٌ يُتوصَّلُ به إلى طَرَفِ العِلمِ وإن كان لا يُتوصَّلُ به إلى ما يوجِبُ حقيقةَ العِلمِ، ومن أجْلِه سُمِّيَ تحرِّيًا
[1541] ((المبسوط)) للسرخسي (10/185). .
ويظهَرُ من التَّعريفِ أنَّ التَّثَبُّتَ أقوى في الوقوفِ على الحقيقةِ من التَّحَرِّي؛ فالتَّحَرِّي دَرَجةٌ أدنى من التَّثَبُّتِ.