أ- من القُرآنِ الكريمِ
تكرَّر ذِكرُ الوصيَّةِ في القُرآنِ مِن اللهِ تعالى لعبادِه؛ فمن ذلك:
1- قال تعالى:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء: 131] .
قال
البَغَويُّ: (
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ، وسائِرَ الأُمَمِ المتقَدِّمةِ في كُتُبِهم،
وَإِيَّاكُمْ يا أهلَ القُرآنِ في كتابِكم،
أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي: وحِّدوا اللهَ وأطيعوه،
وَإِنْ تَكْفُرُوا بما أوصاكم به اللهُ
فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قيل: فإنَّ للهِ ملائكةً في السَّمواتِ والأرضِ هم أطوَعُ له منكم،
وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن جميعِ خَلقِه، غيرَ محتاجٍ إلى طاعتِهم،
حَمِيدًا محمودًا على نِعَمِه)
[2099] ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/711). .
2- وقال تعالى بَعدَ أنْ عدَّدَ سُبحانَه بَعضَ الوَصايا النَّافِعةِ:
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152] .
(والإشارةُ إلى ما تقدَّم من الوصايا، وما فيها من الأمرِ والنَّهيِ، وتلك الوصايا لا رَيبَ أنَّ مَن تدَبَّرها وتذَكَّرها أدرَك ما فيها من عظيمِ النَّفعِ في الدُّنيا والآخِرةِ، فجاء هذا القولُ الكريمُ مُشيرًا إليها؛ ليَتِمَّ الأمرُ بتذَكُّرِها وتدَبُّرِ معانيها، فقال:
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: لتَتذَكَّروا ما فيها من الأوامِرِ فتُبادِروا إلى عَمَلِها، وتَعلَموا ما فيها من النَّواهي فتُسارِعوا إلى تَركِها واجتِنابِها، وبذلك تُشاعُ الفضيلةُ في المجتَمَعِ المُسلِمِ، ويُبادِرُ النَّاسُ زَرافاتٍ ووُحْدانًا إلى التَّواصي بالحَقِّ والتَّواصي بالصَّبرِ، وإذا حصَل التَّذكُّرُ بالقلبِ حصَل التَّذكيرُ باللِّسانِ، والتَّواصي بالخَيرِ، ويحصُلُ بذلك الاتِّعاظُ لِمَن أدركَتْه الغَفلةُ، أو ألهَتْه شواغِلُ الحياةِ)
[2100] ((أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر)) لمرزوق بن هياس الزهراني (ص: 71). .
3- وقال تعالى:
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151] .
4- وقال سُبحانَه:
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
5- وقال تعالى على لسانِ نبيِّه عيسى عليه السَّلامُ:
وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم: 31] .
6- وقال تعالى في سورةِ العَصرِ مُبَيِّنًا أنَّ التَّواصيَ بالخيرِ سَبيلُ النَّجاةِ من الخُسرانِ:
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3] .
قال
الرَّازيُّ: (فاعلَمْ أنَّه تعالى لَمَّا بَيَّنَ في أهلِ الاستثناءِ أنَّهم بإيمانِهم وعمَلِهم الصَّالحِ خرَجوا عن أن يكونوا في خُسرٍ، وصاروا أربابَ السَّعادةِ من حيثُ إنَّهم تمسَّكوا بما يؤدِّيهم إلى الفَوزِ بالثَّوابِ والنَّجاةِ من العِقابِ؛ وصَفَهم بَعدَ ذلك بأنَّهم قد صاروا لشِدَّةِ محبَّتِهم للطَّاعةِ لا يقتَصِرونَ على ما يخصُّهم، بل يوصون غيرَهم بمِثلِ طريقتِهم؛ ليكونوا أيضًا سببًا لطاعاتِ الغَيرِ، كما ينبغي أن يكونَ عليه أهلُ الدِّينِ)
[2101] ((مفاتيح الغيب)) (32/85). .
فلم يَكتَفِ منهم بمعرفةِ الحقِّ والصَّبرِ عليه، حتَّى يوصيَ بعضُهم بعضًا به، ويُرشِدَه إليه، ويحُضَّه عليه
[2102])) يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 93). .
فلا بُدَّ من التَّواصي بالحَقِّ والصَّبرِ؛ إذ إنَّ أهلَ الفسادِ والباطِلِ لا يقومُ باطِلُهم إلَّا بصبرٍ عليه أيضًا، لكِنِ المؤمنونَ يتواصَونَ بالحقِّ والصَّبرِ، وأولئك يتواصَونَ بالصَّبرِ على باطِلِهم، كما قال قائِلُهم:
أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: 6] ، فالتَّواصي بالحَقِّ بدونِ الصَّبرِ -كما يفعَلُه الذين يقولونَ: آمَنَّا باللهِ، فإذا أُوذِيَ أحَدُهم في اللهِ جعَل فِتنةَ النَّاسِ كعَذابِ اللهِ، والذين يعبُدونَ اللهَ على حَرفٍ، فإن أصاب أحَدَهم خيرٌ اطمَأَنَّ به، وإن أصابَتْه فتنةٌ انقَلَب على وجهِه خَسِر الدُّنيا والآخِرةَ- والتَّواصي بالصَّبرِ بدونِ الحَقِّ: كِلاهما موجِبٌ للخُسرانِ، وإنَّما نجا من الخُسرانِ الذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وتواصَوا بالحَقِّ وتواصوا بالصَّبرِ، وهذا موجودٌ في كُلِّ مَن خرَج عن هؤلاء من أهلِ الشَّهَواتِ الفاسِدةِ، وأهلِ الشُّبُهاتِ الفاسِدةِ؛ أهلِ الفُجورِ، وأهلِ البِدَعِ
[2103] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/394). .
وقد أفادت صيغةُ التَّواصي بالحَقِّ وبالصَّبرِ أن يكونَ شأنُ حياةِ المؤمِنين قائمًا على شُيوعِ التَّواصي بهما دَيدَنًا لهم، وذلك يقتضي اتِّصافَ المؤمِنين بإقامةِ الحَقِّ، وصَبرِهم على المكارِهِ في مصالحِ الإسلامِ وأمَّتِه؛ لِما يقتضيه عُرفُ النَّاسِ مِن أنَّ أحدًا لا يوصي غيرَه بملازمةِ أمرٍ إلَّا وهو يرى ذلك الأمرَ خليقًا بالملازمةِ؛ إذ قَلَّ أن يُقدِمَ أحدٌ على أمرٍ بحَقٍّ هو لا يفعَلُه، أو أمرٍ بصَبرٍ وهو ذو جَزَعٍ، وقد قال اللهُ تعالى توبيخًا لبني إسرائيلَ:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] [2104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/534). .
ففي هذه السُّورةِ أقسَمَ سُبحانَه وتعالى بالدَّهرِ -الذي هو زَمَنُ الأعمالِ الرَّابحةِ والخاسِرةِ- على أنَّ كُلَّ واحدٍ في خُسرٍ إلَّا من كَمَلَت قُوَّتُه العِلميَّةُ، وقوَّتُه العَمَليَّةُ
[2105] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 25). ، والمراتِبُ أربعةٌ، وباستكمالِها يحصُلُ للشَّخصِ غايةُ كمالِه: إحداها: معرفةُ الحَقِّ. الثَّانيةُ: عَمَلُه به. الثَّالثةُ: تعليمُه مَن لا يحسِنُه. الرَّابعةُ: صَبرُه على تعلُّمِه والعَمَلِ به وتعليمِه؛ فذَكَر تعالى المراتِبَ الأربعةَ في هذه السُّورةِ، وأقسَم سُبحانَه في هذه السُّورةِ بالعَصرِ إنَّ كُلَّ أحدٍ في خُسرٍ إلَّا الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وهم الذين عَرَفوا الحَقَّ وصَدَّقوا به. فهذه مَرتبةٌ،
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وهم الذين عَمِلوا بما عَلِموه من الحَقِّ، فهذه مرتبةٌ أُخرى.
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وصَّى به بعضُهم بعضًا؛ تعليمًا وإرشادًا، فهذه مرتبةٌ ثالثةٌ.
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ صبَروا على الحَقِّ، ووصَّى بعضُهم بعضًا بالصَّبرِ عليه والثَّباتِ، فهذه مرتبةٌ رابعةٌ. وهذا نهايةُ الكمالِ؛ فإنَّ الكمالَ أن يكونَ الشَّخصُ كامِلًا في نفسِه، مُكَمِّلًا لغيِره، وكمالُه بإصلاحِ قُوَّتَيه العِلميَّةِ والعَمَليَّةِ؛ فصلاحُ القُوَّةِ العِلميَّةِ بالإيمانِ، وصلاحُ القُوَّةِ العَمَليَّةِ بعَمَلِ الصَّالحاتِ، وتكميلُه غيرَه بتعليمِه إيَّاه، وصبرِه عليه، وتوصِيَتِه بالصَّبرِ على العِلمِ والعَمَلِ؛ فهذه السُّورةُ على اختِصارِها هي مِن أجمَعِ سُوَرِ القُرآنِ الكريمِ للخَيرِ بحذافيرِه، والحمدُ للهِ الذي جعَل كتابَه كافيًا عن كُلِّ ما سِواه، شافيًا مِن كُلِّ داءٍ، هاديًا إلى كُلِّ خيرٍ؛ لذا قال
الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: (لو فكَّر النَّاسُ كُلُّهم في هذه السُّورةِ، لكفَتْهم)
[2106] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/ 56، 57). ، فهذه السُّورةُ ميزانٌ للأعمالِ يَزِنُ المؤمِنُ بها نفسَه، فيَبِينُ له بها رِبحُه مِن خُسرانِه
[2107] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 300). .
7- وقال تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم [آل عمران: 103 - 105] .
(في هذا النَّصِّ الكريمِ تحذيرٌ للمؤمِنين من اليهودِ الذين يُفَرِّقون جمْعَهم، وتذكيرٌ بما كانت عليه حالُهم من قَبلُ، وبيانُ الطَّريقِ لأن يَمنَعوا الأشرارَ من الدُّخولِ بَينَهم، وذلك بالتَّواصي بالخَيرِ بينهم، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، فمَن يقَعْ في الغَوايةِ منهم يُرشِدْه ذو العَقلِ والحِكمةِ فيهم)
[2108] ((خاتم النبيين)) لمحمد أبو زهرة (2/582). .
8- قال تعالى:
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 17-18] .
وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ التَّواصيَ بالخيرِ هو من محمودِ الأخلاقِ، ومَرضِيِّ الأفعالِ، ومُكتَسَبِ الفوزِ بالجنَّةِ، والنَّجاةِ من النَّارِ
[2109] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/ 519). .
وفيها أنَّه يجِبُ على المرءِ أن يَدُلَّ غيرَه على طريقِ الحَقِّ، ويمنَعَه من سُلوكِ طريقِ الشَّرِّ والباطِلِ ما أمكَنَه
[2110] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/ 171). .