المَبحَثُ الثَّاني عَشَرَ: المُوَكَّلُ بفِتنةِ القَبرِ
عن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ وتَوَلَّى عنْه أصْحَابُهُ، وإنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أتَاهُ مَلَكَانِ فيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ: ما كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ؛ لِمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا المُؤْمِنُ، فيَقولُ: أشْهَدُ أنَّه عبدُ اللَّهِ ورَسولُهُ، فيُقَالُ له: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قدْ أبْدَلَكَ اللَّهُ به مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُما جَمِيعًا -قالَ قَتَادَةُ: وذُكِرَ لَنَا: أنَّه يُفْسَحُ له في قَبْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلى حَديثِ أنَسٍ- قالَ: وَأمَّا المُنَافِقُ والكَافِرُ فيُقَالُ له: ما كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ؟ فيَقولُ: لا أدْرِي، كُنْتُ أقُولُ ما يقولُ النَّاسُ، فيُقَالُ: لا دَرَيْتَ ولَا تَلَيْتَ، ويُضْرَبُ بمَطَارِقَ مِن حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَن يَلِيهِ غيرَ الثَّقَلَيْنِ )) [3982] أخرجه البخاري (1374). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ -أوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ، وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا... وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِى. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ )) [3983] أخرجه مطولًا الترمذي (1071) واللَّفظُ له، والبزار (8462)، وابن حبان (3117). صححه ابن حبان، وابن قتيبة في ((تأويل مختلف الحديث)) (294)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1071)، وشعيب الأرناؤوط في ((تخريج شرح السنة)) (5/416)، وقال الترمذي: حسن غريب. .
قال أحمَدُ بنُ القاسِمِ ل
أحمدَ بنِ حَنبلٍ: (قُلتُ: يا
أبا عبدِ اللهِ تُقِرُّ ب
مُنكَرٍ ونَكيرٍ وما يُروى من عذابِ القَبرِ؟ فقال: نعم. سُبحانَ اللهِ! نُقِرُّ بذلك ونقولُه.
قلتُ: هذه اللَّفظةُ
مُنكَرٌ ونَكيرٌ، تقولُ هذا، أو تقولُ مَلَكينِ؟ قال: نقولُ:
مُنكَرٌ ونكيرٌ، وهما ملكانِ)
[3984] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 55). .
وقال
الطحاويُّ: (نؤمِنُ... بعذابِ القَبرِ لِمن كان له أهلًا، وسؤالِ
مُنكَرٍ ونَكيرٍ في قَبرِه عن رَبِّه ودينه ونبِيِّه، على ما جاءت به الأخبارُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعن الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم)
[3985] يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 71). .
وقال ابنُ أبي زمنين: (أهلُ السُّنَّةِ يُؤمِنون بأنَّ هذه الأُمَّةَ تُفتَنُ في قبورِها، وتُسأَلُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كيف شاء اللهُ، ويُصَدِّقون بذلك بلا كيفٍ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] )
[3986] يُنظر: ((أصول السنة)) (ص: 147-150). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أمَّا قَولُه
((إنَّكم تُفتَنون في قُبورِكم )) [3987] أخرجه مطولًا البخاري (86) واللفظُ له، ومسلم (905) من حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنهما. فإنَّه أراد فِتنةَ الملَكَينِ
مُنكَرٍ ونَكيرٍ حين يَسألانِ العَبدَ مَن رَبُّك وما دينُك ومن نبيُّك، فالآثارُ بذلك متواتِرةٌ، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وهم أهلُ الحَديثِ والرَّأيِ في أحكامِ شَرائعِ الإسلامِ كُلُّهم مجمِعون على الإيمانِ والتصديقِ بذلك، إلَّا أنَّهم لا يتكَلَّفون فيه شيئًا، ولا يُنكِرُه إلَّا أهلُ البِدَعِ)
[3988] يُنظر: ((الاستذكار)) (2/ 423). .
وقد اختُلِف في سؤالِ مَلَكَي عذابِ القَبرِ: هل هو خاصٌّ بهذه الأمَّةِ أم لا؟ على ثلاثةِ أقوالٍ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (المسألةُ الثَّانيةَ عَشرةَ: وهي أنَّ سُؤالَ
مُنكَرٍ ونكيرٍ هل هو مختَصٌّ بهذه الأمَّةِ أو يكونُ لها ولغيرِها.
هذا موضِعٌ تكلَّم فيه النَّاسُ، فقال أبو عبدِ اللهِ الترمذيُّ: إنما سؤالُ الميِّتِ في هذه الأمَّةِ خاصَّةً؛ لأنَّ الأُمَمَ قَبْلَنا كانت الرُّسُلُ تأتيهم بالرِّسالةِ، فإذا أبَوا كَفَّت الرُّسُلُ واعتزلوهم، وعُولِجوا بالعذابِ؛ فلمَّا بَعَث اللهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرَّحمةِ إمامًا للخَلقِ، كما قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] أمسك عنهم العذابَ، وأُعطِيَ السَّيفَ حتى يَدخُلَ في دينِ الإسلامِ من دخل لمهابةِ السَّيفِ، ثم يَرسَخَ الإيمانُ في قَلبِه، فأُمهِلوا، فمِن هاهنا ظهر أمرُ النِّفاقِ، وكانوا يُسِرُّون الكُفْرَ ويُعلِنون الإيمانَ، فكانوا بين المُسلِمين في سَترٍ، فلمَّا ماتوا قَيَّض اللهُ لهم فتَّانَيِ القبرِ ليَستخرِجَا سِرَّهم بالسُّؤالِ ولِيَميزَ اللهُ الخبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فـ
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .
وخالف في ذلك آخَرون؛ منهم
عبدُ الحَقِّ الإشبيليُّ، و
القرطبيُّ، وقالوا: السؤالُ لهذه الأمَّةِ ولغيرِها.
وتوقَّف في ذلك آخَرون؛ منهم
أبو عُمَرَ ابنُ عبدِ البَرِّ، فقال: «وفي حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إنَّ هذه الأُمَّةَ تُبتلى في قُبورِها )) [3989] أخرجه مسلم (2864). ، ومنهم من يرويه «تُسأَلُ»، وعلى هذا اللَّفظِ يحتَمِلُ أن تكونَ هذه الأُمَّةُ خُصَّت بذلك، فهذا أمرٌ لا يُقطَعُ عليه».
وقد احتَجَّ من خَصَّه بهذه الأمَّةِ بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ هذه الأُمَّةَ تبُتلى في قُبورِها)) [3990] أخرجه مسلم (2867) مطولًا من حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وبقَولِه:
((أُوحِيَ إليَّ أنَّكم تُفتَنون في قُبورِكم)) [3991] أخرجه مطولًا البخاري (86) واللفظُ له، ومسلم (905) من حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنهما. ، وهذا ظاهِرٌ في الاختصاصِ بهذه الأمَّةِ، قالوا: ويدُلُّ عليه قَولُ الملكَينِ له:
((ما كنتَ تقولُ في هذا الرَّجُلِ الذي بُعِث فيكم؟ فيقولُ المُؤمِنُ: أشهَدُ أنَّه عبدُ اللهِ ورَسولُه )) [3992] أخرجه البخاري (1374)، ومسلم (2870) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ولفظ البخاري: ((إن العبد إذا وضع في قبره.. أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله)) فهذا خاصٌّ بالنَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...
وقال آخَرون: لا يدُلُّ هذا على اختصاصِ السُّؤالِ بهذه الأمَّةِ دونَ سائِرِ الأُمَمِ؛ فإنَّ قَولَه: إنَّ هذه الأمَّةَ إمَّا أن يرادَ به أمَّةُ النَّاسِ، كما قال تعالى:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38] ، وكُلُّ جنسٍ مِن أجناسِ الحيوانِ يُسَمَّى أمَّةً، وفي الحديثِ:
((لولا أنَّ الكلابَ أمَّةٌ من الأُمَمِ لأمَرْتُ بقَتْلِها )) [3993] أخرجه أبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205)، وأحمد (16788) مطولًا من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رَضِيَ الله عنه. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (5657)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2845)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند)) (905)، وصحَّح إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2845). ، وفيه أيضًا حديثُ النَّبيِّ الذي قرصَتْه نملةٌ فأمَرَ بقَريةِ النَّملِ فأُحرِقَت، فأوحى اللهُ إليه: من أجْلِ أنْ قرصَتْك نملةٌ واحدةٌ أحرَقْتَ أمَّةً من الأُمَمِ تُسَبِّحُ اللهَ!
[3994] أخرجه البخاري (3319)، ومسلم (2241) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وإن كان المرادُ به أمَّتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذين بُعِث فيهم، لم يكُنْ فيه ما يَنفي سُؤالَ غَيرِهم من الأُمَمِ، بل قد يكونُ ذِكْرُهم إخبارًا بأنهم مَسؤولون في قبورِهم، وأنَّ ذلك لا يختَصُّ بمن قَبْلَهم؛ لفَضلِ هذه الأُمَّةِ وشَرَفِها على سائِرِ الأُمَمِ، وكذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أُوحِيَ إليَّ أنَّكم تُفتَنون في قُبورِكم)) [3995] أخرجه مطولًا البخاري (86) واللفظُ له، ومسلم (905) من حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وكذلك إخبارُه عن قولِ الملكَينِ: ما هذا الرَّجُلُ الذي بُعِث فيكم؟ هو إخبارٌ لأمَّتِه بما تُمتحَنُ به في قُبورِها.
والظَّاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ كُلَّ نبيٍّ مع أمَّتِه كذلك، وأنَّهم مُعَذَّبون في قُبورِهم بعد السُّؤالِ لهم وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم، كما يُعَذَّبون في الآخِرةِ بعد السُّؤالِ وإقامةِ الحُجَّةِ. واللهُ سُبحانَه وتعالى أعلَمُ)
[3996] يُنظر: ((الروح)) (ص: 132). .