المَبحَثُ الأوَّلُ: التفاضُلُ بين المَلائِكةِ
المَلائِكةُ مُتفاضِلون؛ فبعضُهم أفضَلُ من بعضٍ(
يُنظر: ((مباحث المفاضلة في العقيدة)) لمحمد الشظيفي (ص: 350). .
وأفضَلُهم المقَرَّبون الذين قال اللهُ تعالى فيهم:
لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] .
قال
الرازي: (قَولُه:
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يدُلُّ على أنَّ طَبَقاتِ المَلائِكةِ مُختَلِفةٌ في الدَّرَجةِ والفضيلةِ، فالأكابِرُ منهم مِثلُ
جِبريلَ،
وميكائيلَ، و
إسرافيلَ،
وعِزرائيلَ، وحَمَلةِ العَرشِ)
[4193] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/ 273). .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يفتَتِحُ صَلاتَه إذا قام من اللَّيلِ فيقولُ:
((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمَوَاتِ والأرضِ، عالمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، أنت تحكُمُ بين عبادِك فيما كانوا فيه يختَلِفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحَقِّ بإذنِك، إنَّك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ )) [4194] رواه مسلم (770). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (فذَكَر هؤلاء الثَّلاثةَ مِن المَلائِكةِ؛ لكَمالِ اختِصاصِهم واصطِفائِهم وقُربِهم من اللهِ، وكم من مَلَكٍ غَيرِهم في السَّمَواتِ، فلم يُسَمِّ إلَّا هؤلاءِ الثَّلاثةَ)
[4195] يُنظر: ((زاد المعاد)) (1/44). .
وقد خَصَّ اللهُ
جِبريلَ و
مِيكائيلَ في كتابِه بالذِّكرِ، وعَطَف ذِكْرَهما على ذِكرِ المَلائِكةِ، فقال:
مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98] . فقيل: إنما خَصَّهما بالذِّكرِ تشريفًا لهما
[4196] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/36). .
وأفضَلُ المَلائِكةِ ومُقَدَّمُهم
جبريلُ عليه السَّلامُ.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيه:
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 97] .
فشَرَّفه اللهُ عَزَّ وجَلَّ بذِكْرِه، وذَمَّ مُعادِيَه، وذكر سُبحانَه دليلَ فَضْلِه وتشريفِه، وهو وظيفتُه الشَّريفةُ الكريمةُ؛ تبليغُ الوَحيِ للرُّسُلِ مِنَ اللهِ، فهو الواسِطةُ بين اللهِ ورُسُلِه.
وقد سمَّاه اللهُ في كتابِه بأسماءٍ شَريفةٍ، ووصَفَه بأوصافٍ كريمةٍ.
قال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102] ، فسَمَّاه رُوحَ القُدُسِ.
وقال:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] ، فسَمَّاه الرُّوحَ الأمينَ.
وقال سُبحانَه:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19-21] .
قال
ابنُ كثير: (
ذِي قُوَّةٍ كقَولِه:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم: 5، 6]، أي: شَديدُ الخَلقِ، شَديدُ البَطشِ والفِعلِ،
عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي: له مكانةٌ عند اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومنزلةٌ رَفيعةٌ)
[4197] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 338). .
وقال
الشوكاني: (وَصَف الرَّسولَ المذكورَ بأوصافٍ محمودةٍ، فقال:
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي: ذي قُوَّةٍ شديدةٍ في القيامِ بما كُلِّفَ به، كما في قَولِه:
شَدِيدُ الْقُوَى، ومعنى:
عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أنَّه ذو رِفعةٍ عاليةٍ ومَكانةٍ مَكِينةٍ عند اللهِ سُبحانَه... ومعنى:
مُطَاعٍ أنَّه مُطاعٌ بين المَلائِكةِ يَرجِعون إليه ويطيعونَه،
ثَمَّ أَمِينٍ قرأ الجمهورُ بفَتحِ «ثَمَّ» على أنها ظرفُ مكانٍ للبعيدِ، والعامِلُ فيه «مُطَاعٍ» أو ما بَعْدَه، والمعنى: أنَّه مُطاعٌ في السَّمَواتِ، أو أَمِينٌ فيها، أي: مُؤتَمَنٌ على الوَحيِ وغَيرِه)
[4198] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/ 473). .
وقد خَصَّه اللهُ بالذِّكرِ في مواضِعَ مِن كتابِه؛ قال سُبحانَه:
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4]. فذكره سُبحانَه بعد ذِكْرِ نَفْسِه، ولم يذكُرْ سِواه من المَلائِكةِ.
وقال سُبحانَه:
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4] . وفي هذا تخصيصٌ مِنَ اللهِ له بالذِّكرِ.
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا أحبَّ اللهُ عبدًا نادى جبريلَ: إنَّ اللهَ يحِبُّ فُلانًا فأحِبَّه، فيُحِبُّه جِبريلُ. فينادي جِبريلُ في أهلِ السَّماءِ: إنَّ اللهَ يحِبُّ فلانًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ثمَّ يُوضَعُ له القَبولُ في أهلِ الأرضِ )) [4199] رواه البخاري (3209)، ومسلم (2637). .
ففي هذا الحديثِ بيانُ فَضلِ
جِبريلَ عليه السَّلامُ، وأنَّه ليس فقط مُبَلِّغَ كَلامِ اللهِ إلى الرُّسُلِ، بل وإلى المَلائِكةِ أيضًا.
ومن أفضَلِ المَلائِكةِ من شَهِدَ منهم مَعركةَ بَدرٍ.
فعن رفاعةَ بنِ رافعٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ
جِبريلَ جاء للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما تَعُدُّونَ أهلَ بدرٍ فيكم؟ قال:
((مِن أفضَلِ المُسلِمين )) -أو كَلِمةً نَحوَها- قال: وكذلك مَن شَهِدَ بَدرًا من المَلائِكةِ
[4200] رواه البخاري (3992). .