المَبحَثُ الثَّاني: التفاضُلُ بين المَلائِكةِ والبَشَرِ
اختَلَف النَّاسُ في هذه المسألةِ على عِدَّةِ أقوالٍ؛ منها
[4201] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحسن الأشعري (1/180) (2/326)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (7/1308)، ((الفصل)) لابن حزم (5/14)، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/386)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/410)، ((مباحث المفاضلة في العقيدة)) لمحمد الشظيفي (ص: 354). :
القَولُ الأوَّلُ: تفضيلُ الأنبياءِ وصالِحِي البَشَرِ على المَلائِكةِ.
وهو مَذهَبُ جُمهورِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ
[4202] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/386). .
واستدَلُّوا بعِدَّةِ أدِلَّةٍ؛ منها:
1- قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32] .
2- قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33] .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ في أدِلَّةِ ذلك: (الدَّليلُ الرَّابعُ: ما احتَجَّ به بعضُ أصحابِنا على تفضيلِ الأنبياءِ على المَلائِكةِ بقَولِه:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وقَولِه:
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ واسمُ
الْعَالَمِينَ يتناوَلُ المَلائِكةَ و
الجِنَّ والإنسَ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ أصنافَ العالَمين قد يرادُ به جميعُ أصنافِ الخَلْقِ، كما في قَولِه تعالى
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وقد يرادُ به الآدمِيُّون فقط على اختِلافِ أصنافِهم، كما في قَولِه تعالى:
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالِمِينَ وهم كانوا لا يأتون البهائِمَ ولا
الجِنَّ. وقد يرادُ بالعالَمينَ أهلُ زَمنٍ واحدٍ، كما في قَولِه:
اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، فقَولُه:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ الآية. تحتَمِلُ جميعَ أصنافِ الخَلْقِ، ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ بنو آدَمَ فقط. وللمُحتَجِّ بها أن يقولَ: اسمُ العالَمين عامٌّ لجميعِ أصنافِ المخلوقاتِ التي بها يُعلَمُ اللهُ، وهي آياتٌ له ودلالاتٌ عليه، لا سِيَّما أولو العِلمِ منهم؛ مِثلُ: المَلائِكةِ، فيجِبُ إجراءُ الاسمِ على عُمومِه، إلَّا إذا قام دليلُ يُوجِبُ الخُصوصَ)
[4203] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 366). .
وقال أيضًا: (إنَّ السَّلَفَ الأوَّلين كانوا يتناقَلون بينهم أنَّ صالحِي البشَرِ أفضَلُ من المَلائِكةِ، من غيرِ نَكيرٍ منهم لذلك، ولم يخالِفْ أحدٌ منهم في ذلك، إنما ظهر الخلافُ بعد تشَتُّتِ الأهواءِ بأهلِها، وتفَرُّقِ الآراءِ، فقد كان ذلك كالمستقِرِّ عِندَهم)
[4204] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/369). .
وقال أيضًا: (قد كان السَّلَفُ يُحَدِّثون الأحاديثَ المتضَمِّنةَ فَضْلَ صالحِ البَشَرِ على المَلائِكةِ، وتُروى على رُؤوسِ النَّاسِ، ولو كان هذا مُنكَرًا لأنكروه؛ فدَلَّ على اعتقادِهم ذلك)
[4205] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/371). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (سُئِلَ أي:
ابنُ تَيمِيَّةَ عن صالحي بني آدَمَ، والمَلائِكةِ: أيُّهما أفضَلُ؟ فأجاب بأنَّ صالحي البشَرِ أفضَلُ باعتبارِ كَمالِ النهايةِ، والمَلائِكةُ أفضَلُ باعتِبارِ البدايةِ؛ فإنَّ المَلائِكةَ الآنَ في الرَّفيقِ الأعلى مُنَزَّهون عما يلابِسُه بنو آدَمَ، مُستغرِقون في عبادةِ الرَّبِّ، ولا رَيبَ أنَّ هذه الأحوالَ الآنَ أكمَلُ من أحوالِ البَشَرِ، وأمَّا يومَ القيامةِ بعد دُخولِ الجنَّةِ، فيصيرُ حالُ صالحي البشَرِ أكمَلَ مِن حالِ المَلائِكةِ.
وبهذا التفصيلِ يتبيَّنُ سِرُّ التفضيلِ، وتتَّفِقُ أدِلَّةُ الفريقينِ، ويُصالَحُ كُلٌّ منهم على حَقِّه)
[4206] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (3/ 1104). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (ومن أدِلَّةِ تفضيلِ النَّبيِّ على الملَكِ أنَّ اللهَ أمَرَ المَلائِكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ على سبيلِ التكريمِ له، حتى قال
إبليسُ:
أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، ومنها قَولُه تعالى:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؛ لِما فيه من الإشارةِ إلى العنايةِ به، ولم يَثبُتْ ذلك للمَلائِكةِ، ومنها قَولُه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ومنها قَولُه تعالى:
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فدخل في عمومِه المَلائِكةُ، والمسخَّرُ له أفضَلُ مِنَ المسخَّرِ)
[4207] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 386). .
3- مما جاء في شأنِ صالحي البَشَرِ قَولُ الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (اعلَمْ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى اختَصَّ نوعَ الإنسانِ مِن بين خَلْقِه بأن كَرَّمه وفَضَّله، وشَرَّفه، وخَلَقَه لنَفْسِه، وخَلَق كُلَّ شَيءٍ له، وخَصَّه من معرفتِه ومحبَّتِه وقُربِه وإكرامِه بما لم يُعْطِه غيرَه، وسَخَّر له ما في سَمواتِه وأرضِه وما بينهما، حتى مَلائِكتُه -الذين هم أهلُ قُربِه- استخدمَهم له، وجعَلَهم حَفَظةً له في منامِه ويقظَتِه، وظَعْنِه وإقامتِه، وأنزل إليه وعليه كُتُبَه، وأرسَلَه وأرسَلَ إليه، وخاطَبَه وكَلَّمه منه إليه، واتَّخَذ منهم الخليلَ والكليمَ، والأولياءَ والخواصَّ والأحبارَ، وجعَلَهم مَعدِنَ أسرارِه، ومحَلَّ حِكمَتِه، ومَوضِعَ حُبِّه، وخَلَق لهم الجنَّةَ والنَّارَ، وخلق الأمرَ، والثَّوابُ والعِقابُ مدارُه على النوعِ الإنسانيِّ، فإنَّه خُلاصةُ الخَلقِ، وهو المقصودُ بالأمرِ والنَّهيِ، وعليه الثوابُ والعِقابُ.
فللإنسانِ شأنٌ ليس لسائِرِ المخلوقاتِ، وقد خَلَق أباه بيَدِه، ونفخ فيه من رُوحِه، وأسجد له مَلائِكَتَه، وعَلَّمَه أسماءَ كُلِّ شَيءٍ، وأظهر فَضْلَه على المَلائِكةِ فمَن دونَهم من جميعِ المخلوقاتِ، وطرَدَ
إبليسَ عن قُربِه، وأبعَدَه عن بابه؛ إذ لم يسجُدْ له مع السَّاجِدينَ، واتَّخَذه عَدُوًّا له.
فالمُؤمِنُ من نوعِ الإنسانِ خَيرُ البَرِيَّةِ على الإطلاقِ، وخِيرةُ اللهِ مِن العالَمينَ)
[4208] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 227). .
القَولُ الثَّاني: تفضيلُ المَلائِكةِ على البَشَرِ مُطلقًا.
وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ:
ابنُ حَزمٍ، وغَيرُه
[4209] يُنظر: ((الفصل)) (5/15، 18)، ((المحلى)) (1/14)، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/386). .
واستدَلُّوا بعِدَّةِ أدِلَّةٍ؛ منها:1- قَولُ اللهِ تعالى في بني آدَمَ:
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] .
قال
ابنُ حزمٍ: (إنما فَضَّل اللهُ تعالى بنَصِّ كَلامِه -عَزَّ وجَلَّ- بني آدَمَ على كثيرٍ ممَّن خلق لا على كُلِّ من خَلَق، وبلا شَكٍّ أنَّ بني آدم يَفضُلون على
الجِنِّ وعلى جميعِ الحيوانِ الصَّامِتِ، وعلى ما ليس حيوانًا، فلم يَبْقَ خَلقٌ يُستثنى من تفضيلِ اللهِ تعالى بني آدَمَ عليه إلَّا المَلائِكةُ فقط)
[4210] يُنظر: ((الفصل)) (5/18). ويُنظر: ((المحلى)) (1/14). .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
لن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] .
قال
ابنُ حزم: (فقوله عَزَّ وجَلَّ بعد ذِكرِ المسيحِ:
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ بلوغُ الغايةِ في عُلُوِّ دَرَجَتِهم على المسيحِ عليه السَّلامُ)
[4211] يُنظر: ((الفصل)) (5/18). ويُنظر: ((المحلى)) (1/14). .
3- قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
قُل لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: 50] .
قال
ابنُ حزمٍ: (فلو كان الرَّسولُ أرفَعَ مِن الملَكِ أو مِثْلَه، ما أَمَر اللهُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم هذا القَولَ الذي إنما قاله مُنحَطًّا عن الترفُّعِ بأن يُظَنَّ أنَّه عنده خزائِنُ اللهِ، أو أنَّه يَعلَمُ الغَيبَ، أو أنَّه مَلَكٌ مُنَزِّلٌ لنَفْسِه المقَدَّسةِ في مرتبتِه التي هي دونَ هذه المراتِبِ بلا شَكٍّ؛ إذ لا يمكِنُ البتَّةَ أن يقولَ هذا عن مراتِبَ هو أرفَعُ منها)
[4212] يُنظر: ((الفصل)) (5/15). .
4- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يقولُ اللهُ تعالى: أنا عند ظَنِّ عَبْدي بي، وأنا معه إذا ذكرَني؛ فإنْ ذكرني في نَفْسِه ذكَرْتُه في نفسي، وإن ذكَرَني في ملأٍ ذكَرْتُه في ملأٍ خَيرٍ منه )) [4213] أخرجه مطولًا البخاري (7405) واللَّفظُ له، ومسلم (2675). .
قال
ابنُ حَجَر: (قال ابنُ بطَّالٍ: هذا نَصٌّ في أنَّ المَلائِكةَ أفضَلُ مِن بني آدَمَ، وهو مذهَبُ جُمهورِ أهلِ العِلمِ، وعلى ذلك شواهِدُ مِن القرآنِ؛ مِثلُ
إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَينِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ والخالِدُ أفضَلُ من الفاني؛ فالمَلائِكةُ أفضَلُ مِن بني آدَمَ
[4214] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 429). .
وتُعُقِّبَ بأنَّ المعروفَ عن جمهورِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ صالِحي بني آدَمَ أفضَلُ مِن سائرِ الأجناسِ)
[4215] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/386). .
القَولُ الثَّالِثُ: التوَقُّفُ والسُّكوتُ عن التفضيلِ.
قال ابنُ أبي العِزِّ عن رأيِ
الطَّحاوي في المسألةِ: (الشَّيخُ -رحمه اللهُ- لم يتعَرَّضْ إلى هذه المسألةِ بنَفيٍ ولا إثباتٍ، ولعَلَّه يكونُ قد ترك الكلامَ فيها قصدًا؛ فإنَّ
الإمامَ أبا حنيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه وقف في الجوابِ عنها على ما ذكَرَه في مآلِ الفتاوى، فإنَّه ذكر مسائِلَ لم يقطَعْ
أبو حنيفةَ فيها بجوابٍ، وعَدَّ منها: التفضيلَ بين المَلائِكةِ والأنبياءِ.
فإنَّ الواجِبَ علينا الإيمانُ بالمَلائِكةِ والنَّبيِّين، وليس علينا أن نعتَقِدَ أيُّ الفريقينِ أفضَلُ؛ فإنَّ هذا لو كان من الواجباتِ لبُيِّنَ لنا نَصًّا. وقد قال تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] .
وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] .
... فالسُّكوتُ عن الكلامِ في هذه المسألةِ نفيًا وإثباتًا -والحالةُ هذه- أَوْلى.
ولا يُقالُ: إنَّ هذه المسألةَ نَظيرُ غَيرِها من المسائِلِ المُستَنبَطةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّ الأدِلَّةَ هنا متكافِئةٌ، على ما أشير إليه إن شاء اللهُ تعالى... وقد كان
أبو حنيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه يقولُ أوَّلًا بتفضيلِ المَلائِكةِ على البشَرِ، ثم قال بعَكْسِه، والظَّاهِرُ أنَّ القَولَ بالتوَقُّفِ أحدُ أقواله)
[4216] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/411-413). .