غريبُ الكَلِماتِ:
مُحَرَّرًا: عتيقًا لله، مُخلَصًا للعبادة، وأصلُ الحريَّة: خلافُ العبوديَّة، والبَراءةُ من العيبِ والنَّقص يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 103)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 434)، ((المفردات)) للراغب (ص: 225)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 121). .
الرَّجِيمِ: المطرودِ عن الخَيرات، وأصل الرَّجم: الرَّميُ بالحجارة، ومنه رَجمتُ فلانًا بالكلام، إذا شَتمْتَه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 346). .
كَفَّلَهَا: ضَمَّها إليه، وأصل الكفالة: تَضمُّن الشَّيءِ للشَّيء يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 104)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 389)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 717)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 121). .
الْمِحْرَابَ: الموضِعُ العالي الشَّريف، والغُرفة، والمسجدُ، وسيِّدُ المجالس، ومُقدَّمُها وأشرفُها، وصدْرُ المجلس يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 104)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 455)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/48)، ((المفردات)) للراغب (ص: 225)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 44)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 121). .
مشكل الإعراب:
قوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
ذُرِّيَّةً: مَنصوبةٌ، وفي نصبِها وجهان: الأوَّل: النَّصْبُ على البَدليَّة، والمبدَل منه على هذا الوجه: آدَمُ عليه السَّلام ومَن عُطِف عليه، أو نوحٌ عليه السَّلام ومَن عُطِف عليه، أو الآلانِ فقط (آلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ). الثاني: النَّصبُ على الحاليَّة منهم، وتقديرُه: اصطفاهم حالَ كونِهم مُتناسِبين بعضهم من بعضٍ ينظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/156)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/253)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/129). وينظر كذلك: ((تفسير ابن عطية)) (1/423)، ((تفسير القرطبي)) (4/64). .
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبر اللهُ تبارَك وتعالَى أنَّه اجتبَى مِن خَلْقِه واختار من عِبادِه أفرادًا وأُسرًا، امتنَّ عليهم بفضلِه, وأخلَصهم لعبادتِه, فاجتبى آدَمَ ونوحًا عليهما السَّلام فردَينِ، واختارَ إبراهيم وعِمْران وذرِّيَّتهما أُسرتين, فكان هؤلاء هم صفوةَ خَلْقه من العالَمين، وخِيرةَ عباده في الأوَّلين والآخِرين, وجعَلَ الصَّلاحَ والتَّوفيق مُتسلسلًا في ذرِّيَّاتهم؛ فالله تعالى على عِلم تامٍّ بمن يَستحقُّ الاصطفاءَ والاختيارَ من عبادِه؛ فهو السَّميع العليم.
ثمَّ ذكر اللهُ تبارَك وتعالَى نبأ امرأة عِمْران حيث نذرتْ ما في بطنِها لله متفرِّغًا لعبادته, وخدمةِ بيتِ المقدس، ودَعَتِ الله أنْ يَتقبَّل منها؛ فهو السَّميعُ العليم، فلمَّا ولَدت إذَا بالمولودة أُنثى، فاعتذرتْ إلى ربِّها من ذلك؛ لأنَّها كانتْ ترجو أنْ يكونَ مولودها ذكَرًا؛ لأنَّه أقدرُ على الخدمةِ وملازمةِ مكانِ العبادةِ من الأنثى.
ثمَّ أخبرتْ أنَّها سمَّت مولودتَها مريم, وأنَّها تطلُب من الله أنْ يُعِيذَها هي وذرِّيَّتَها من الشَّيطان الرَّجيم, فاستجاب اللهُ دعوتها, وقبِل نذرَها قَبولًا حسَنًا, فأنشأ مريمَ تنشئَةً حسنة، وجعل زكريَّا كافلًا لها, وقائمًا على شؤونها, فكان كلَّما دخَلَ عليها المحرابَ وجَدَ عندها طعامًا وغذاءً، فيتعجَّب من ذلك؛ إذ كيفَ يأتيها هذا الرِّزقُ وهي منقطعةٌ لعبادة الله, حابسةٌ نفسَها على طاعته؟! فيسألها عن ذلك, فتُجيبه أنَّه من عندِ اللهِ الَّذي يَتفضَّلُ على مَن يَشاء مِن عبادِه بالأرزاقِ والعطايا ممَّا لا حَصرَ له ولا وإحصاءَ.
تفسير الآيات:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ محبَّته منُوطة باتِّباع الرَّسول، فمَن اتَّبعه كان صادِقًا في دعْوى حبِّه لله، وجَديرًا بأنْ يكونَ محبوبًا منه- جلَّ علاه- أتْبع ذلك ذِكرَ مَن أحبَّهم واصطفاهم، وجَعَل منهم الرُّسلَ الَّذين يُبيِّنون طريقَ محبَّتِه، وهي الإيمانُ به مع طاعته يُنظر: ((تفسير المنار)) (3/237) ، فقال:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
أي: إنَّ اللهَ اختار واجتبى آدمَ عليه السَّلام، فخلَقه بيدِه، ونفَخ فيه من رُوحِه، وأَسجدَ له ملائكتَه، وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيء، إلى غيرِ ذلك، واختار نوحًا عليه السَّلام، فكان أوَّلَ رسولٍ بعَثه، وجعَل ذُرِّيَّته هم الباقين، واختار إبراهيمَ عليه السَّلام- خليلَ الله- وقومَه الآل هنا مُتعيِّن للحمْل على رَهْط الرَّجُل وقرابتِه. ((تفسير ابن عاشور)) (3/231). ، ومنهم الأنبياء الَّذين مِن بعده؛ فهم مِن ذرِّيَّته، ومنهم محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واختار عِمْرانَ والدَ مريم، وزوجتَه أمَّ مريم، ومريمَ وابنها عيسى عليه السَّلام؛ اختارَهم وفضَّلهم على العالَمين ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/328)، ((تفسير ابن كثير)) (2/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128). ومعنى قوله: عَلَى الْعَالَمِينَ، أي: على عالَمي زَمانهم، في قول أهل التفسير. وقيل: عَلَى الْعَالَمِينَ: على جميعِ الخَلق كلِّهم؛ وذلك أنَّ هؤلاء رسلٌ وأنبياء؛ فهُم صَفوةُ الخلق. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/63). .
قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26] ، وقال: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54] هذا المدحُ لهذا المعدن الشريف؛ لِمَا فيهم من الإيمان والعمل الصالح. يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (8/218). .
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
أي: نَسْلًا بعضُه من بعض، في وراثةِ الاصطفاءِ والإيمانِ، والطَّاعةِ والموالاةِ في الدِّين، والتَّناصُر على الحقِّ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/329)، ((تفسير ابن عطية)) (1/423)، ((تفسير القاسمي)) (2/308). .
كما قال تعالى لَمَّا ذكَر جملةً من الأنبياء الدَّاخلين في ضِمن هذه البيوتِ الكبار: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 128). .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
أي: واللهُ يعلَمُ من يستحقُّ الاصطفاءَ فيَصطفيه؛ فهو يسمَعُ أقوالهم، ويَعلَم أحوالَهم، وما في ضَمائرِهم؛ فلذا فضَّلهم واختارَهم نظم الدرر للبقاعي (4/348- 349)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/208). .
وهذا كقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيِّم (ص: 33). .
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا
أي: واذكُرْ إذ قالت امرأةُ عِمْران: يا ربِّ، إنِّي أوجبتُ على نفْسي أنْ أَجعلَ ما في بطني مفرَّغًا لعبادتك، حبيسًا على خِدمةِ بيتِ المقدس يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/430)، ((تفسير ابن كثير)) (2/33)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/213). .
فَتَقَبَّلْ مِنِّي
أي: فتقبَّلْ منِّي يا ربِّ، ما نذرتُ لك ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/332)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/214). .
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
أي: إنَّك أنت السَّميعُ لقولي ودُعائي، المستجيبُ له، العليمُ بنيَّتي وقَصْدي ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/332)، ((تفسير ابن كثير)) (2/33)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/214). .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى
أي: فلمَّا ولَدَتِ امرأةُ عِمْران إذَا بالمولودِ أُنثى، فاعتذرتْ قائلةً: يا ربِّ، إنِّي ولَدْتُها أنثى ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/336)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128). .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَضَعَتْ قراءتان:
1- (وَضَعْتُ) وتَعني أنَّه من قولِ أمِّ مريمَ وفِعلها قرأ بها ابن عامر ويعقوب وأبو بكر. ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/251)، ((الكشف)) لمكي (1/338-339). .
2- وَضَعَتْ وتَعني الإخبارَ مِن الله عزَّ وجلَّ عن فِعلها قرأ بها الباقون. ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/251)، ((الكشف)) لمكي (1/338-339). .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
أي: واللهُ أعلمُ مِن كلِّ أحدٍ بما وضعَتْه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/336)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/216). .
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى
أي: وليس الذَّكَرُ كالأنثى في القوَّة والجَلَدِ على خِدمةِ بيت المقدس، بالإضافةِ إلى ما يَعتري الأُنثى من الحيضِ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/337)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/431)، ((تفسير ابن كثير)) (2/33)، ((فتح الباري)) لابن رجب (2/535)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/217). .
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
أي: وإنِّي جعلتُ اسمَها مريمَ، فأَطلقتْ عليها هذا الاسمَ يومَ ولادتِها يُنظر:((تفسير ابن كثير)) (2/34). .
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
أي: وإنِّي أُجيرُها وأولادَها- أي: عيسى عليه السَّلام- بكَ وحْدَك من الشَّيطانِ المبعَدِ المطرودِ ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/431)، ((تفسير الخازن)) (1/240)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/218). قال ابنُ عثيمينَ: (قالت: وَذُرِّيَّتَهَا بناءً على الأصلِ والغالبِ؛ أنَّ الأُنثى تتزوَّج ويكونُ لها ذريةٌ، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أراد لهذه المرأةِ شيئًا آخرَ). .
وقد استجابَ اللهُ تعالى لها؛ فعن أبي هُرَيرَةَ، رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما من مولودٍ يُولَدُ إلَّا مسَّه الشَّيطانُ حين يُولد، فيستهلُّ صارخًا من مسِّه إيَّاه، إلَّا مريمَ وابْنَها ))، ثمَّ يقول أبو هُرَيرَةَ: اقرؤوا إنْ شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] أخرجه البخاري (3431) واللفظ له، ومسلم (2366). .
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
أي: قَبِل اللهُ مريمَ قَبولًا حسَنًا وعُرف هذا القَبول بوحيٍ مِن الله إلى زكريَّا عليه السلام بأنَّه تَقبَّلها؛ ولذلك جعَلوها كما نذَرَتْ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/425)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/235). ، ورضِي نَذْرَ أمِّها وإنْ كان أنثى، فيسَّرها لليُسرى، وسلَكَ بها طريقَ السُّعداء يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/535)، ((تفسير القرطبي)) (4/69)، ((تفسير صديق حسن خان)) (2/225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/219). .
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
أي: أنشأَها نشأةً حسنةً في بَدَنِها، وخِلْقتِها، ودِينها، وأخلاقِها ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/35)، ((تفسير ابن عطية)) (1/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/221). .
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله: وَكَفَّلَهَا قراءتان قال السَّمين الحلبي: (لا مخالفةَ بين القِراءتين؛ لأنَّ الله لَمَّا كَفَّلها إيَّاه كَفَلَها) ((الدر المصون)) (3/142). :
1- (وَكَفَّلَهَا) أي: ضَمَّها اللهُ تعالى إلى زكريَّا قرأ بها الكوفيون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/345)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/246)، ((الكشف)) لمكي (1/341). .
2- (وَكَفَلَهَا) أي: ضَمَّها زكريَّا إليه قرأ بها الباقون. ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/345)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/246)، ((الكشف)) لمكي (1/341). .
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
أي: جعَل اللهُ تعالى نَبيَّه زكريَّا عليه السَّلام كافلًا وضامنًا لها كان زكريَّا عليه السلام زوجَ خالتها، على ما ذَكره ابنُ إسحاقَ، وابنُ جرير، وغيرهما، وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصَّحيح: (فإذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة)، وقد يُطلَق على ما ذكَره ابنُ إسحاق ذلك أيضًا توسعًا، فعلى هذا كانتْ في حضانةِ خالتِها. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/35). ؛ وذلك بعدَ أنْ وقَع الخلافُ فيمَن يَكفُل مريم، فاقْتَرعوا، فكانتْ من نصيبِ زكريَّا عليه السَّلام؛ كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/345)، ((تفسير ابن كثير)) (2/35)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/222). .
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
أي: كلَّما دخَلَ عليها زكريَّا عليه السَّلام مكانَ عِبادتها، وجَد عندها طعامًا تتغذَّى به، بلا كَسبٍ ولا تعبٍ؛ فهي منقطعةٌ للعبادة ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/353)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/432)، ((تفسير ابن عطية)) (1/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128). ، فيتعجَّبُ ويسألُها عن ذلك؛ كما قال تعالى:
قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا
أي: قال زكريَّا لمريم: يا مريمُ، مِن أينَ لك هذا الرِّزق ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/432)، ((تفسير ابن عطية)) (1/427)، ((تفسير ابن كثير)) (2/36)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/237). ذهَب غيرُ واحدٍ من أهل العلم أنَّ معنى أنَّى: مِن أين، ومنهم أبو عُبيدة وابنُ عطية وغيرهم. لكن قال النحَّاس: وهذا فيه تساهُلٌ؛ لأنَّ (أين) سؤال عن المواضع، وأنَّى سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى: من أيِّ المذاهب، ومن أيِّ الجهات لك هذا. ينظر ((تفسير القرطبي)) (4/72). وقال أبو حيَّان: أنَّى، سؤال عن الكيفية، وعن المكانِ وعن الزَّمان، والأظهرُ أنَّه سؤالٌ عن الجهة، فكأنَّه قال: من أيِّ جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عُبَيدة: معناه من أين؟ ولا يَبعُد أنْ يكون سؤالًا عن الكيفية، أي: كيف تهيَّأ وصولُ هذا الرزق إليك؟ ((تفسير أبي حيان)) (1/63). ؟
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: إنَّ هذا الرِّزق مِن عندِ الله؛ فهو الَّذي ساقه إليَّ ورَزَقَنِيه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/358)، ((تفسير ابن عطية)) (1/427)، ((تفسير الماوردي)) (1/388). .
إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
أي: إنَّ اللهَ يُعطي الرِّزقَ مَن يشاء من غيرِ إحصاءٍ ولا حصرٍ ولا عددٍ يُحاسِب عليه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/359)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/237)، وينظر ((المفردات)) للراغب (ص: 233) فقد ذكَر في تفسيرِ قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ ثمانيةَ أوجه. وقد ذهَب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ هذه الجملة إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ من قول الله تعالى بعدَ انتهاء كلام مريم، وذهَب آخرون إلى أنَّها من قول مريم. ينظر ((تفسير ابن عطية)) (1/427)، ((تفسير القرطبي)) (4/72)، ((تفسير الماوردي)) (1/389). .
الفوائد التربوية :
1- قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه إشارةٌ إلى أنَّه اصطفاهم على تمامِ العِلم بهم؛ ترغيبًا في أحوالهم والاقتداءِ بأفعالهم وأقوالِهم يُنظر: ((نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)) (4/348-349). .
2- الحثُّ على طردِ الإعجاب بالنَّفس، وتَرْك الإِدْلالِ على اللهِ بالأعمالِ، وهذا مستفادٌ من قولِ امرأة عِمْران: فَتَقَبَّلْ مِنِّي يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/227). .
3- كلمة وَضَعْتُهَا تُشعِر أنَّ الأمَّ تَتكلَّف الحملَ، وإذا قدَّرنا أنَّ هذا الطِّفلَ الَّذي في بطنِها سيبقَى تِسعةَ شُهور، وهي حاملةٌ له في بطنِها، في أرقِّ ما يكونُ من البدن، قائمةً وقاعدةً، ومستيقظةً ونائمةً، فماذا نَتصوَّر من التَّعب؟! لذا فحقُّ الأمِّ على الأولادِ عظيمٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/227). .
4- اعتذارُ الإنسان عند ربِّه إذا وقَع الأمرُ خلافَ ما أراد يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 128), و((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/228). ؛ كما في قوله تعالى: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.
5- لا يَستوي الذُّكورُ والإناث، لا في الطَّبيعة، ولا في الأخلاقِ، ولا في المعاملةِ، بل ولا في الأحكامِ في بعضِ الأحيان يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/229). ؛ كما في قولِه تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى.
6- بقَدْرِ صلاحِ المربِّي يَكتسبُ مَن يُربِّيه مِن خُلقه وصلاحِه، وفي كفالةِ زكريَّا لمريم فضيلةٌ تَزيدُ من فضائِلها؛ قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/235) ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/231). .
7- أعظمُ الشُّكر لرزقِ الله سبحانه وتعالى معرفةُ العبد بأنَّه مِن الله تعالى، إنَّما يَشكُر رِزقَ الله مَن أخَذه مِن اللهِ سبحانه وتعالى يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/363). .
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- جاء ذكرُ آل إبراهيمَ في قوله: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ؛ قيل لترغيبِ المعترفين باصطفائِهم في الإيمانِ بنُبوَّة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم، واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائِه بواسطةِ كونِه من زُمرتهم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/26). .
2- يُؤخذُ من قول أمِّ مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي جوازُ النَّذرِ في الأمرِ المجهولِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/225). .
3- لَمَّا كان حُسنُ إجابةِ المهتوفِ به الملتجأِ إليه على حسَب إحاطة سَمعِه وعِلمه، علَّلت سؤالَها في التقبُّل بأنْ قصَرَتِ السَّمع والعِلم عليه سبحانه فقالت: إِنَّكَ أَنْتَ أي: وحدَك السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/351). .
4- في قولها: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ جوازُ تَسميةِ الأطفالِ يومَ الولادةِ، وقبلَ اليومِ السَّابع يُنظر: ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (1/425), قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((وُلِد لي الليلةَ ولدٌ سميتُه باسمِ أبي إبراهيم)). البخاري (1303)، ومسلم (2315) واللفظ له. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّه ذهب بأخيه، حين ولدتْه أمُّه، إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فحنَّكه وسمَّاه عبد الله. البخاري (5480)، ومسلم (2144). وقال رجل: يا رسول الله، وُلِد لي ولد، فما أُسمِّيه؟ قال: ((اسم ولدك عبد الرحمن)) البخاري (6186). وينظر ((تفسير ابن كثير)) (2/34). .
5- في قولِه تَعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فيه دلالةٌ على أنَّ للأمِّ تَسميةَ الولدِ إذا لم يَكْرَهِ الأبُ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 129). .
6- مشروعيَّةُ إعاذةِ الإنسانِ أبناءَه بالله عزَّ وجلَّ من الشَّيطان الرَّجيم، ومِن شرِّ الخَلْق؛ كما في قوله تعالى: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/230). .
7- في قوله تعالى: وَذُرِّيَّتَهَا بيانُ جوازِ الدُّعاء للمعدوم, فذُرِّيَّتُها لم تأتِ بعدُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/230). .
8- عبَّر عن التَّربيةِ بالإنباتِ في قوله: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا؛ قيل لبيانِ أنَّ التَّربيةَ فِطريَّةٌ لا شائبةَ فيها يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/240). .
9- تطوُّر الإنسانِ في حياتِه بأمرِ الله, وما الغذاءُ والعنايةُ بالطفل إلَّا سببٌ، والله تعالى هو المسبِّبُ، وهو المكوِّنُ للإنسان، والمُنبت له يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/231). ، كما في قوله تعالى: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا.
10- كلمة كلَّمَا تُفيد التَّكرار, وفي ذلك بيانٌ لحُسن كفَالةِ زكريَّا لها, وأنَّه كان يتفقَّدها عند تقديرِ حاجتِها إلى الطَّعام يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/358- 359). .
11- في قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا... دليلٌ على إثباتِ كراماتِ الأولياءِ الخارقةِ للعادة ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/36)، ((تفسير السعدي)) (ص: 128). .
12- في قوله تعالى: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بيانُ أنَّ الأشياءَ تُضافُ إلى اللهِ وإنْ كان لها سببٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/231). .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34):
- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ذِكرُ آلِ عمرانَ مع اندراجِهم في آل إبراهيمَ من باب ذِكرِ الخاصِّ بعد العامِّ؛ لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بتحقيقِ أمْر عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لكمال رُسوخِ الخِلافِ في شأنِه؛ فإنَّ نِسبةَ الاصطفاءِ إلى الأبِ الأقربِ أدلُّ على تحقُّقه في الآل، وأمَّا اصطفاءُ نفْسه عليه الصَّلاة والسَّلام، فمفهومٌ من اصطفائِهم بطريقِ الأَولويَّة، وعدمُ التَّصريحِ به؛ للإيذانِ بالغِنَى عنه لكمالِ شُهرةِ أمرِه في الخُلَّة، وكونه إمامَ الأنبياء، قُدوةَ الرُّسُلُ عليهم الصَّلاة والسَّلام يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/26). .
2- قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ: فيه إجمالٌ لـ(بعض) هنا؛ لأنَّ المقصودَ بيان شدَّة الاتِّصال بين هذه الذريَّة؛ فـ(مِن) للاتِّصال لا للتبعيض، أي: بين هذه الذُّرية اتصالُ القَرابة؛ فكلُّ بعضٍ فيها هو متَّصل بالبعض الآخَر يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/231). .
- وفيها: براعةُ التخلُّص براعة التخلُّص: تعني امتزاجَ آخِر ما يُقدَّم من البَسط في الكلام بأوَّل ما يُستهلُّ به كلام آخَر، ينتقل المتكلِّم انتقالًا رشيقًا دقيقَ المعنى بحيث لا يشعُر السامع بالانتقال من المعنى الأوَّل إلَّا وقد وقع في الثاني؛ لشدَّة الممازجة والالتئام، كأنَّهما أُفرغَا في قالب واحد، أو توطئة بفصل لفصل يُريد أن يأتي به بعده، وإمَّا بنكتة تشير الى معنى الفصل المستقبل. ويُسمَّى معرفة الفصل من الوصل. وهو من أوجُهِ الإعجاز في القرآن، ويَخفى على غير الحذَّاق من ذوي النَّقد. وهو مبثوثٌ في الكتاب العزيز من أوَّله إلى آخره؛ فقد يُوقَف من الكتاب العزيز على مواضعَ تُظنُّ في الظاهر فُصولًا متنافرة، فإذا أُنعم فيها النَّظرُ خصوصًا مع الدُّربة بهذه الصناعة، ظهَر الجمعُ بينهما، كقوله سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا *الإسراء: 1-2*...). ينظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 433 وما بعدها)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (4/451). ؛ إذ انتقل من تمهيداتِ سببِ السُّورة إلى واسطةٍ بين التَّمهيد والمقصِد؛ فهذا تخلُّصٌ لمحاجَّة وفْد نجران؛ فإنَّه سبحانه وتَعالى وطَّأ بهذه الآية إلى سِياق خبَر ميلادِ المسيح عليه السَّلام، فقد خلُص إلى ذِكر امرأة عمران؛ ليسوقَ قِصَّة حمْلها بمريم، وكفالة زكريَّا لها، وذِكْر ولدِه يحيى، وقصَّة حمْلِ مريم بالمسيح، وما تَخلَّل ذلك مِن آياتٍ باهرات، وعِبَرٍ بالغات، وهذا من محاسنِ البَلاغة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/229)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/495-496). .
2- قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا: فيه مناسبةٌ بديعة؛ إذ التعرُّضُ لوَصفِ الرُّبوبيةِ المنبئةِ عن إفاضةِ ما فيه صلاحُ المربوبِ، مع الإضافةِ إلى ضميرِها، أنسب لإجابة الدُّعاء. وتأكيدُ الجملة بـ(إنَّ)؛ لإبرازِ وفورِ الرَّغبة في مضمونها، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لكمالِ الاعتناءِ به يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/27). .
3- قوله عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ: تعليلٌ؛ لاستدعاءِ القَبول لا من حيثُ إنَّ كونَه تعالى سميعًا لدعائها عليمًا بما في ضميرِها مصحِّحٌ للتقبُّل في الجملة، بل من حيثُ إنَّ عِلمَه تعالى بصحَّة نيَّتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك تفضُّلًا وإحسانًا يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/28). .
- وفيه تأكيدُ الجملة بـ(إن) و(أنت)؛ لعرضِ قُوَّةِ يَقينها بمضمونِها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/28). .
- وفيه قَصرُ صِفتَي السَّمعِ والعلم عليه تعالى؛ لعرْض اختصاصِ دُعائِها به تعالى، وانقطاعِ حَبل رَجائها عمَّا عداه بالكليَّة؛ مُبالغةً في الضَّراعة والابتهال يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/28). .
4- قوله تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ: هو تعليلٌ لِمَا قَبلَه، وتحريكٌ لسلسلةِ الإجابة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/31). .
5- قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى: خبرٌ لا يُقصد به الإخبارُ والإعلام، بل التَّحسُّر والتَّحزُّن والاعتذار؛ فهو بمعنى الإنشاءِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/204), ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/238). .
6- قوله تعالى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ: خبَرٌ فيه تعظيمٌ لموضوعها، ومرادٌ منه لازم الفائدة، والقَصدُ منه إفادتُها دون التَّصريح بما سيكون من شأنِ المولودِ الذي لم تَأبَهْ له بادئَ الأمر، وأنَّ الله أعلمُ بالشيءِ الذي وضعتْ وما علَق من عظائم الأمور، وأنْ يَجعلَه وولدَه آيةً للعالمين، وهي جاهلةٌ بمآلِ أمْرِ هذه المولودة، لا تَعلم منه شيئًا؛ فلذلك تحسَّرتْ يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/356)، ((تفسير الرازي)) (8/204)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/136)، ((تفسير أبي السعود)) (2/28)، ((تفسير القاسمي)) (2/311)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/233)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/499). .
- وعلى قِراءة ضمِّ التاء في (وضعتُ)، وأنَّه من كلامِ أمِّ مريمَ يكون فيه التفاتٌ من الخِطاب إلى الغَيبة؛ إظهارًا لغاية الإجلال؛ إذ لو جرَتْ على مقتضَى قولها: (رب) لقالت: (وأنت أعلم) يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/135)، ((تفسير أبي السعود)) (2/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/233). .
- وفيه مِن تمامِ البلاغة: الاحترازُ عن كلِّ موهِمٍ لأمرِ خطأ، سواءٌ كان في المقال أو في الفِعل، ويُستفاد ذلك من قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ على قِراءة الضَّمِّ؛ فقد يتوهَّم السَّامع من قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى أنَّها أضافتْ إلى اللهِ عِلمًا لم يكُن حاصلًا له يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/228). .
7- قوله: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى بدأتْ بذِكْر الأهمِّ في نفْسِها، وإلَّا فسياقُ قصَّتِها يَقتضي أنْ تقولَ: وليستِ الأنثى كالذَّكر، فتَضعُ حرْفَ النَّفي مع الشَّيءِ الَّذي عندها، وانتفَتْ عنه صِفاتُ الكمالِ للغرضِ المراد يُنظر: ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (1/425). .
7- قوله سبحانه: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ... فيه إطنابٌ، والغرضُ مِن التصريحِ بالتسميَّة التقرُّبُ إلى الله، والازدلافُ إليه بخِدمة بيت المقدس أولًا، ورجاء عِصمتها ثانيًا- فإنَّ مريم في لُغتهم تَعني (العابدة)- وإظهارًا لعزمِها على الوفاءِ بوعْدِها ثالثًا يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/499). .
8- قوله تعالى: وإنِّي سَمَّيْتُهَا وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ: فيه تَكرارُ التأكيد (وإني) للتأكيد؛ لأنَّ حالَ كراهيتها يُؤذِن بأنها ستُعرِض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكَّدت هذا الخبر؛ إظهارًا للرِّضا بما قدَّر الله تعالى؛ ولذلك انتقلتْ إلى الدعاءِ لها الدالِّ على الرِّضا والمحبَّة، وأُكِّدت جملةُ أُعيذها مع أنَّها مستعملةٌ في إنشاء الدُّعاء يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/234). .
9- قوله عزَّ وجلَّ: إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ... إلى قوله: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: تكرَّرت (إنَّ) أربع مرات، وفي الثلاث الأولى كان خبرُها فعلًا ماضيًا (وضعتها- سَمَّيْتُها- نَذَرْتُ)، وفي المرة الرابعة جاءَ الخبرُ بالمضارع، (أُعيذها)، لنُكتة بلاغيَّة، وهي ديمومةُ الاستعاذةِ وتجدُّدها دون انقطاعٍ، بخِلافِ الأخبار السابقة فإنَّها تحقَّقتْ وانقطعت يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/499). .
10- قوله تعالى: فتَقبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ:
- قوله تعالى: فتَقبَّلَهَا جاءتِ الإجابةُ بصِيغة التفعُّل مطابقةً لقولها في الدعاء: فتقبَّلْ؛ للإشعارِ بالتدرُّج والتطوُّر والتكثُّر، كأنه يُشعِر بأنَّها مزيدٌ لها في كلِّ طور تتطوَّر إليه، ولم تكن إجابته (فقبِلها)، فيكون إعطاء واحدًا منقطعًا عن التواصُل والتتابع؛ فلا تزال بركة تحريرها متجدِّدًا لها في نفسها يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/356). .
- وقوله تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا: تفريعٌ على الدُّعاء، مؤذِنٌ بسرعة الإجابة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/235). .
- قال سبحانه وتعالى: بِقَبولٍ حَسَنٍ لم يقُل: (فتقبَّلها ربُّها بتقبُّل)؛ لأنَّ ما كان من بابِ التفعُّل فإنَّه يدلُّ على شدَّةِ اعتناءِ ذلك الفاعلِ بإظهارِ ذلك الفِعل كالتصبُّر والتجلُّد ونحوهما؛ فإنَّهما يُفيدانِ الجدَّ في إظهارِ الصَّبر والجلادة، فكذا هاهنا التقبُّل يُفيد المبالغةَ في إظهارِ القَبول، والعناية العظيمة في تربيتها. فيكون جمَع بين الأمرين: التقبُّل الذي هو الترقِّي في القَبول، والقَبول الذي يَقتضي الرِّضا والإثابة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/205)، ((تفسير القاسمي)) (2/312). .
- والباء في بِقَبُولٍ للتأكيدِ، وأصلُ نظْم الكلام: فتَقبَّلها قَبُولًا حَسنًا، فأُدخِلت الباءُ على المفعول المطلَق؛ ليصيرَ كالآلة للتقبُّل، فكأنَّه شيءٌ ثانٍ، وهذا إظهارٌ للعناية بها في هذا القَبول يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/235). .
11- قوله عزَّ وجلَّ: رِزْقًا جاء بالتنكير؛ لإفادةِ الشُّيوعِ والكثرة، وأنَّه ليس من جِنسٍ واحد، بل من أجناسٍ كثيرة يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/502). .
12- قوله: إنَّ اللهَ يَرْزُقُ... تعليلٌ لكونِه من عند الله يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/30)، ((تفسير القاسمي)) (2/313). ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبر بـ(إنَّ) واسميَّة الجُملةِ.