المَبحَثُ السَّابعُ: من خصائِصِ القُرْآنِ الكريمِ أنَّه آخِرُ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ
قال اللهُ تعالى:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] .
وتواترت الأخبارُ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه لا نبيَّ بَعْدَه
[354] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (1/68). .
وإذا كان مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتمَ النَّبيِّين، فإنَّ القُرْآنَ الذي أُنزِل عليه خاتَمُ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ.
وكونُ القُرْآنِ الكريمِ خاتَمَ الكُتُبِ السَّماويَّةِ، يعني أنَّ القُرْآنَ حُجَّةٌ قائمةٌ على كُلِّ من بلغه من الإنسِ والجِنِّ في كُلِّ زمانٍ وفي كُلِّ مكانٍ، وقد أُمر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببيان ذلك في قَولِه تعالى:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19] .
قال أبو السعود: (أي: لأُنذِرَكم به -يا أهلَ مكَّةَ- وسائِرَ من بلغه من الأَسوَدِ والأحمَرِ، أو مِن الثَّقَلينِ، أو لأُنذِرَكم به -أيُّها الموجودون- ومن سيُوجَدُ إلى يوم القيامةِ، وهو دليلٌ على أنَّ أحكامَ القُرْآنِ تَعُمُّ الموجودين يومَ نُزولِه، ومن سيوجَدُ بَعْدُ إلى يومِ القيامةِ)
[355] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/118). .
ويعني خَتمُ الكُتُبِ بالقُرْآنِ أيضًا كمالَ الدِّينِ؛ قال تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] .
قال
السَّعديُّ: (
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بتمامِ النَّصرِ، وتكميلِ الشَّرائِعِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ؛ الأصولِ والفُروعِ؛ ولهذا كان الكِتابُ والسُّنَّةُ كافِيَينِ كُلَّ الكفايةِ في أحكامِ الدِّينِ؛ أُصولِه وفُروعِه)
[356] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 220). .
وقال
ابنُ عاشور: (إكمالُ الدِّينِ هو إكمالُ البيانِ المرادِ لله تعالى، الذي اقتضت الحِكْمةُ تنجيمَه
[357] قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (القُرآنُ المنَجَّمُ: المنزَّلُ قَدْرًا فقَدْرًا). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 792). ، فكان بعد نُزولِ أحكامِ الاعتقادِ التي لا يَسَعُ المُسلِمين جَهْلُها، وبعد تفاصيلِ أحكامِ قواعِدِ الإسلامِ -التي آخِرُها الحَجُّ- بالقَولِ والفِعلِ، وبعد بيانِ شرائعِ المعاملاتِ وأصولِ النِّظامِ الإسلاميِّ، كان بعد ذلك كُلِّه قد تمَّ البيانُ المرادُ لله تعالى في قَولِه:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، وقَولِه:
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] بحيث صار مجموعُ التشريعِ الحاصِلُ بالقُرْآنِ والسُّنَّةِ كافيًا في هَدْيِ الأُمَّةِ في عبادتِها ومعاملتِها وسياستِها، في سائِرِ عُصورِها، بحسَبِ ما تدعو إليه حاجاتُها؛ فقد كان الدِّينُ وافيًا في كُلِّ وَقتٍ بما يحتاجُه المُسلِمون)
[358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/103). .
وقال اللهُ تعالى:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114] .
قال
الشوكاني: (أي: كيف أطلُبُ حَكَمًا غيرَ اللهِ، وهو الذي أنزل عليكم القُرْآنَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا واضِحًا مستوفيًا لكُلِّ قضيَّةٍ على التفصيلِ)
[359] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 176). .
وقال
السَّعديُّ: (أي: قُلْ يا أيُّها الرَّسولُ
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا أُحاكِمُ إليه، وأتقيَّدُ بأوامِرِه ونواهيه، فإنَّ غيرَ اللهِ محكومٌ عليه لا حاكِمٌ، وكُلٌّ تدبيرٍ وحُكمٍ للمخلوقِ فإنَّه مُشتَمِلٌ على النَّقصِ والعَيبِ والجَورِ، وإنَّما الذي يجِبُ أن يُتَّخَذَ حاكِمًا فهو اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، الذي له الخَلْقُ والأمْرُ
الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا أي: موضَّحًا فيه الحلالُ والحرامُ، والأحكامُ الشَّرعيَّةُ، وأصولُ الدِّينِ وفُروعُه، الذي لا بيانَ فوقَ بيانِه، ولا بُرهانَ أجلى من بُرهانِه، ولا أحسَنَ منه حُكمًا ولا أقومَ قِيلًا؛ لأنَّ أحكامَه مُشتَمِلةٌ على الحِكْمةِ والرَّحمةِ)
[360] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 270). .