المَبحَثُ الثَّامِنُ: مِن خصائِصِ القُرْآنِ الكريمِ هيمنتُه على الكُتُبِ السَّابقةِ
قال اللهُ تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 48] .
أي: وأنزلْناه شاهدًا للكتُبِ الإلهيَّةِ السَّابقةِ بصِدقها، وموافقًا لها، ومطابِقًا لأخبارِها وأصولِ شرائِعِها، وفي وجودِه أيضًا دَلالةٌ على صِدقِها؛ لأنَّها أَخبرتْ بنُزولِ القُرآنِ. وأنزلْناه أمينًا على الكتُبِ الإلهيَّةِ السَّابقةِ، حافظًا لها، مُشتَمِلًا على ما اشتملَتْ عليه الكتُبُ السَّابقَةُ وزيادةٍ، وناسِخًا لها، وحاكمًا عليها كلِّها، فما شهِد له القُرْآنُ منها بالصِّدقِ فهو مقبولٌ، وما شهِد له بالردِّ فهو مردودٌ، قد دخلَه التحريفُ والتبديلُ، وإلَّا فلو كان مِن عِندِ اللهِ تعالى لم يُخالِفْه. وما دام أنَّ هذه هي حالُ القُرْآنِ؛ فاحكُمْ إذنْ -يا محمَّدُ- بينَ أهلِ الكِتاب وغيرِهم بهذا القُرْآنِ العظيمِ في كلِّ ما احتَكموا فيه إليك
[361] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة المائدة)) (ص: 269). .
عن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال في تفسيرِ قَولِه تعالى:
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 4] : (المهيمِنُ: الأمينُ، القُرْآنُ أَمِينٌ على كُلِّ كِتابٍ قَبْلَه)
[362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/488). .
ورُوِيَ عنه أيضًا أنَّه قال: (
وَمُهَيْمِنًا أي: حاكِمًا على ما قَبْلَه من الكُتُبِ)
[363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/488). .
وقال قتادةُ: (
وَمُهَيْمِنًا أي: أمينًا وشاهدًا على الكُتُبِ التي خلت قَبْلَه)
[364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/487). .
وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّه قال: (القُرْآنُ مؤتَمَنٌ على ما قَبْلَه مِنَ الكُتُبِ)
[365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/489). .
وعن ابنِ زيدٍ قال: (مُصَدِّقًا عليه، كُلُّ شَيءٍ أنزله اللهُ من توراةٍ أو إنجيلٍ أو زَبُورٍ فالقُرْآنُ مُصَدِّقٌ على ذلك، وكُلُّ شَيءٍ ذَكَر اللهُ في القُرْآنِ فهو مُصَدِّقٌ عليها وعلى ما حدث عنها أنَّه حقٌّ)
[366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/490). .
قال
ابنُ كثيرٍ: (هذه الأقوالُ كُلُّها متقاربةُ المعنى، فإنَّ اسمَ المُهيمِن يَتضَمَّنُ هذا كُلَّه؛ فهو أمينٌ، وشاهِدٌ، وحاكِمٌ على كُلِّ كِتابٍ قَبْلَه)
[367] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/128). .
وقال
الرازي: (إنما كان القُرْآنُ مُهيمِنًا على الكُتُبِ؛ لأنَّه الكِتابُ الذي لا يصيرُ مَنسوخًا ألبتَّةَ، ولا يتطَرَّقُ إليه التبديلُ والتحريفُ على ما قال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] . وإذا كان كذلك كانت شهادةُ القُرْآنِ على أنَّ التوراةَ والإنجيلَ والزَّبورَ حَقٌّ صِدقٌ: باقيةً أبدًا)
[368] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/371). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (السَّلَفُ كُلُّهم مُتَّفِقون على أنَّ القُرْآنَ هو المهيمِنُ المؤتَمَنُ الشَّاهِدُ على ما بين يديه من الكُتُبِ، ومعلومٌ أنَّ المهيمِنَ على الشَّيءِ أعلى منه مَرتبةً)
[369] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 43). .
وقال أيضًا: (إذا تحاكم اليهودُ والنصارى إلى المُسلِمين لم يجُزْ لهم أن يحكُموا بينهم إلَّا بما أنزل اللهُ في القُرْآنِ)
[370] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (5/508). .
وقال أيضًا عن القُرْآنِ: (إنَّه قرَّر ما في الكُتُبِ المتقَدِّمة من الخبرِ عن اللهِ وعن اليومِ الآخِرِ، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلًا، وبَيَّن الأدِلَّةَ والبراهينَ على ذلك، وقرَّر نبُوَّةَ الأنبياءِ كُلِّهم، ورسالةَ المُرسَلين، وقرَّر الشَّرائعَ الكُلِّيَّةَ التي بُعِثَت بها الرُّسُل كُلُّهم، وجادل المكَذِّبين بالكُتُبِ والرُّسُلِ بأنواع ِالحُجَجِ والبراهينِ، وبَيَّن عقوباتِ اللهِ لهم، ونَصْرَه لأهلِ الكُتُبِ المتَّبِعين لها، وبَيَّن ما حُرِّف منها وبُدِّل، وما فعله أهلُ الكِتابِ في الكُتُبِ المتقَدِّمة، وبَيَّن أيضًا ما كتموه ممَّا أمر اللهُ ببيانِه، وكُلَّ ما جاءت به النُّبُوَّاتُ بأحسَنِ الشَّرائعِ والمناهِجِ التي نزل بها القُرْآنُ؛ فصارت له الهيمنةُ على ما بين يَدَيه من الكُتُبِ من وُجوهٍ مُتعَدِّدةٍ؛ فهو شاهِدٌ بصِدْقِها، وشاهِدٌ بكَذِبِ ما حُرِّف منها، وهو حاكِمٌ بإقرارِ ما أقرَّه اللهُ، ونَسْخِ ما نسخَه، فهو شاهِدٌ في الخبَرِيَّات، حاكِمٌ في الأمرِيَّاتِ)
[371] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/44). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (جعل اللهُ هذا الكِتابَ العظيمَ الذي أنزله آخِرَ الكُتُبِ وخاتِمَها وأشمَلَها وأعظَمَها وأكمَلَها؛ حيث جمع فيه محاسِنَ ما قَبْلَه وزاده من الكمالاتِ ما ليس في غيرِه؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا، وحاكمًا عليها كُلِّها)
[372] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/128). .
وقال أيضًا: (بابُ فَضلِ القُرْآنِ على سائِرِ الكلامِ... قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنتم تُوفُونَ سَبعِينَ أمَّةً، أنتم خَيرُها وأكرَمُها على اللهِ )) [373] أخرجه من طُرُقٍ: الترمذي (3001)، وابن ماجه (4288) باختلافٍ يسيرٍ، وأحمد (20015) واللَّفظُ له، من حَديثِ معاويةَ بنِ حَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/112)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (8/73)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (5/59)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1132)، وحَسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3001)، وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/78): مشهورٌ، وذكر ثبوتَه ابنُ القَيِّمِ في ((مفتاح دار السعادة)) (3/262). . وإنَّما فازوا بهذا ببركةِ الكِتابِ العظيمِ؛ القُرْآنِ الذي شرَّفه اللهُ على كُلِّ كِتابٍ أنزله، وجعله مُهَيمِنًا عليه وناسِخًا له وخاتمًا له؛ لأنَّ كُلَّ الكُتُبِ المتقَدِّمةِ نزلت إلى الأرضِ جملةً واحدةً، وهذا القُرْآنُ نزل مُنجَّمًا بحسَبِ الوقائِعِ؛ لشِدَّةِ الاعتناءِ به وبمن أُنزِل عليه، فكُلُّ مرَّةٍ كنُزولِ كِتابٍ مِن الكُتُبِ المتقَدِّمةِ)
[374] يُنظر: ((فضائل القرآن)) (ص: 173-175). .
وقال
ابنُ باز: (القُرْآنُ هو أفضَلُها وخاتمُها، وهو المهيمِنُ والمصَدِّقُ لها، وهو الذي يجِبُ على جميعِ الأُمَّةِ اتِّباعُه وتحكيمُه مع ما صَحَّت به السُّنَّةُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه بعث رسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولًا إلى جميعِ الثَّقَلينِ، وأنزل عليه هذا القُرْآنَ ليَحكُمَ به بينهم، وجعله شفاءً لِما في الصُّدورِ، وتبيانًا لكُلِّ شَيءٍ وهُدًى ورحمةً للمُؤمِنينَ)
[375] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/20). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (القُرْآنُ العظيمُ الذي أنزله اللهُ على نبيِّه مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبيِّينَ
هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185] فكان
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] ، فنسخ اللهُ به جميعَ الكُتُبِ السَّابقةِ، وتكفَّل بحِفْظِه عن عَبَثِ العابِثينَ، وزَيغِ المحَرِّفين
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ؛ لأنَّه سيبقى حُجَّةً على الخَلقِ أجمعينَ إلى يومِ القيامةِ، أمَّا الكُتُبُ السَّابِقةُ فإنَّها مُؤَقَّتةٌ بأمَدٍ ينتهي بنُزولِ ما يَنسَخُها، ويُبَيِّنُ ما حصل فيها من تحريفٍ وتغييرٍ؛ ولهذا لم تكُنْ معصومةً منه، فقد وقع فيها التحريفُ والزِّيادةُ والنَّقصُ)
[376] يُنظر: ((عقيدة أهل السنة والجماعة)) (ضمن مجموع فتاوى ابن عثيمين) (3/241). .
وفي القُرْآنِ الكريمِ آياتٌ تؤكِّدُ هَيمَنَتَه عليها وتدعو أهلَ الكِتابِ إلى اتِّباعِه، والأخْذِ به، وتُحَذِّرُهم من ضَلالاتِهم وتحريفاتِهم الباطِلةِ.
قال اللهُ تعالى:
يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] .
وبَيَّن أنَّ من مقاصِدِ القُرْآنِ الأُولى أن يُبَيِّنَ لأهلِ الكِتابِ ما اختلفوا فيه.
قال اللهُ سُبحانَه:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: 76-77] .
ولهذا يخضَعُ له كُلُّ مُتمَسِّكٍ بالكُتُبِ المتقَدِّمةِ ممَّن لم ينقَلِبْ على عَقِبَيه.
قال اللهُ تعالى:
الَّذِينَ آتَيْنَاهم الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:52 - 54] .