الفرعُ الرابعُ: خصائِصُ عيسى عليه السَّلامُ
1- اختُصَّ مِن بينِ سائِرِ الخَلقِ بأنَّه وُلِدَ لأمٍّ من غيرِ أبٍ، وإنما نَفَخ
جِبريلُ في مريمَ فحَمَلت بعيسى عليه السَّلامُ. قال اللهُ تعالى:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] .
قال
السَّعْديُّ: (رزقها ولدًا من غيرِ أبٍ، بل نَفَخ فيها
جِبريلُ عليه السَّلامُ، فحمَلَت بإذنِ اللهِ.
وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ؛ حيث حمَلَت به ووضعَتْه من دونِ مَسيسِ أحَدٍ، وحيث تكَلَّم في المهدِ، وبَرَّأها مِمَّا ظَنَّ بها المتَّهِمون، وأخبر عن نفسِه في تلك الحالةِ، وأجرى اللهُ على يديه من الخوارِقِ والمُعْجِزاتِ ما هو معلومٌ؛ فكانت وابنُها آيةً للعالَمِينَ، يُتحدَّثُ بها جيلًا بعد جيلٍ، ويَعتَبِرُ بها المُعتَبِرون)
[563] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 530). .
2- تكَلَّم في المهدِ.
قال اللهُ تعالى:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتاب وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 29- 33] .
قال
السَّعْديُّ: (أشارت لهم إليه، أي: كَلِّموه. وإنما أشارت لذلك؛ لأنها أُمِرَت عند مخاطبةِ النَّاسِ لها أن تقولَ:
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فلمَّا أشارت إليهم بتكليمه، تعَجَّبوا من ذلك وقالوا:
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؛ لأنَّ ذلك لم تجْرِ به عادةٌ، ولا حصل من أحَدٍ في ذلك السِّنِّ.
فحينئذ قال عيسى عليه السَّلامُ، وهو في المهدِ صَبيٌّ:
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا فخاطبهم بوَصْفِه بالعُبُوديَّةِ، وأنَّه ليس فيه صِفَةٌ يَستحِقُّ بها أن يَكونَ إلهًا، أو ابنًا للإلهِ، تعالى اللهُ عن قَولِ النَّصارى المخالِفين لعيسى في قَولِه:
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ومُدَّعون موافَقَتَه...
فهذه مُعْجِزةٌ عظيمةٌ وبُرهانٌ باهِرٌ على أنَّه رسولُ اللهِ، وعَبدُ اللهِ حَقًّا)
[564] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 492). .
3- آتاه اللهُ البَيِّناتِ وأيَّده برُوحِ القُدُسِ.
قال اللهُ تعالى:
تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253] .
وكان من الآياتِ التي آتاها اللهُ عيسى عليه السَّلامُ ما ذكره سُبحانَه في قَولِه:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ [المائدة: 110] .
قال
البغوي: (
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يعني: بالدَّلالاتِ الواضِحاتِ والمُعْجِزاتِ، وهي التي ذكَرْنا، وسُمِّيَت بالبَيِّناتِ؛ لأنها مِمَّا يَعجِزُ عنها سائِرُ الخَلقِ الذين ليسوا بمُرْسَلين
فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا ما هذا،
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: ما جاءهم به مِنَ البَيِّناتِ)
[565] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 101). .
4- رفعه اللهُ عَزَّ وجَلَّ إليه، فهو حَيٌّ في السَّماءِ الثَّانيةِ، كما في أحاديثِ الإسراءِ.
قال اللهُ سُبحانَه تكذيبًا لليَهودِ في دَعواهم قَتْلَه عليه السَّلامُ:
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 157-158] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قال تعالى -وهو أصْدَقُ القائِلين، ورَبُّ العالَمِينَ، المطَّلِعُ على السَّرائِرِ والضَّمائِرِ، الذي يعلَمُ السِّرَّ في السَّمَواتِ والأرضِ، العالمُ بما كان وما يَكونُ، وما لم يَكُنْ لو كان كيف يَكونُ-:
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: رأوا شَبَهَه فظَنُّوه إيَّاه؛ ولهذا قال
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 157، 158] يعني بذلك: من ادَّعى قَتْلَه من اليهودِ، ومن سَلَّمه من جُهَّالِ النَّصارى، كُلُّهم في شَكٍّ من ذلك وحَيرةٍ وضَلالٍ وسُعُرٍ؛ ولهذا قال:
وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أي: وما قتلوه متيقِّنين أنَّه هو، بل شاكِّين متوهِّمين.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)
[566] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 449). .
5- نزولُه عليه السَّلامُ في آخِرِ الزَّمانِ كما دلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ.
قال اللهُ سُبحانَه:
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 159].
قال
البغوي: (قَولُه تعالى:
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أي: وما من أهلِ الكِتابِ إلَّا ليُؤمِنَنَّ بعيسى عليه السَّلامُ، وهو قَولُ أكثَرِ المفَسِّرين وأهلِ العِلْمِ، وقَولُه:
قَبْلَ مَوْتِهِ اختلفوا في هذه الكنايةِ؛ فقال عِكْرِمةُ ومجاهِدٌ والضَّحَّاكُ والسُّدِّي: إنها كنايةٌ عن الكِتابيِّ، ومعناه: وما من أهلِ الكِتابِ أحدٌ إلَّا ليُؤمِنَنَّ بعيسى عليه السَّلامُ قبل مَوتِه، إذا وقع في اليأسِ حينَ لا يَنفَعُه إيمانُه، سواءٌ احترق أو غَرِق، أو تردَّى في بئرٍ أو سَقَط عليه جدارٌ، أو أكلَه سَبُعٌ أو مات فجأةً... وذهب قومٌ إلى أنَّ الهاءَ في
مَوْتِهِ كنايةٌ عن عيسى عليه السَّلامُ، معناه: وإنْ مِن أهلِ الكِتابِ إلَّا ليُؤمِنَنَّ بعيسى قبلَ مَوتِ عيسى عليه السَّلامُ، وذلك عند نزولِه من السَّماءِ في آخِرِ الزَّمانِ، فلا يبقى أحدٌ إلَّا آمن به حتى تكونَ المِلَّةُ واحِدةً؛ مِلَّةُ الإسلامِ.
ورُوِّينا عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُوشِكُ أن يَنزِلَ فيكم عيسى بنُ مَريمَ حَكَمًا عَدْلًا، يَكسِرُ الصَّليبَ، ويَقتُلُ الخِنزيرَ، ويَضَعُ الجِزيةَ، ويَفيضُ المالُ حتى لا يقَبْلَه أحدٌ، ويَهلِكُ في زَمانهِ المِلَلُ كُلُّها إلَّا الإسلامُ، ويُقتَلُ الدَّجَّالُ، فيَمكُثُ في الأرضِ أربعينَ سنةً، ثُمَّ يُتوَفَّى ويُصَلِّي عليه المُسلِمون»، وقال أبو هُرَيرةَ: اقرَؤُوا إنْ شِئتُم:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لِيُؤمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [567] أخرجه البخاري (3448)، ومسلم (155) باختلاف يسير. قبل موتِ عيسى بنِ مَريمَ، ثُمَّ يعيدُها أبو هُرَيرةَ ثلاثَ مَرَّاتٍ.
ورُوِيَ عن عِكرِمةَ: أنَّ الهاءَ في قَولِه
لَيُؤمِنَنَّ بِهِ كنايةٌ عن مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقولُ: لا يموتُ كِتابيٌّ حتى يُؤمِنَ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقيل: هي راجِعةٌ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، يقول: وإنْ مِن أهلِ الكِتابِ إلَّا ليُؤمِنَنَّ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، قبل مَوتِه عند المعاينةِ حين لا يَنفَعُه إيمانُه)
[568] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 719). .
وتواترت الأخبارُ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنُزولِ عيسى عليه السَّلامُ، فقال:
((والذي نفسي بيَدِه لِيُوشِكَنَّ أن يَنزِلَ فيكم ابنُ مَريمَ حَكَمًا مُقْسِطًا )) [569] رواه مُطَوَّلًا البخاري (2222) واللفظ له، ومسلم (155) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا:
((كيف أنتم إذا نزل ابنُ مريمَ فيكم، وإمامُكم منكم؟! )) [570] رواه البخاري (3449)، ومسلم (155) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وأجمعت الأُمَّةُ على نُزولِه عليه السَّلامُ في آخِرِ الزَّمانِ.قال
ابنُ بطة: (نحن الآن ذاكِرون شَرْحَ السُّنَّةِ ووَصْفَها وما هي في نَفْسِها وما الذي إذا تمسَّك به العبدُ ودان اللهَ به سُمِّيَ بها واستحَقَّ الدُّخولَ في جُملةِ أهْلِها، وما إن خالفه أو شيئًا منه، دخل في جملةِ مَن عِبْناه وذكَرْناه وحَذَّرْنا منه من أهلِ البِدَعِ والزَّيغِ، مِمَّا أجمع على شَرْحِنا له أهلُ الإسلامِ وسائِرُ الأُمَّةِ مُذْ بَعَث اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى وَقْتِنا هذا... -إلى أن قال:- ثُمَّ الإيمانُ بأنَّ عيسى بنَ مَريمَ عليه السَّلامُ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، فيَكسِرُ الصَّليبَ وَيقتُلُ الخِنزيرَ، وتكونُ الدَّعوةُ واحِدةً)
[571] يُنظر: ((الشرح والإبانة)) (ص: 191، 241). .
وقال ابنُ عطيَّةَ: (أجمعت الأُمَّةُ على ما تضَمَّنه الحديثُ المتواتِرُ مِن أنَّ عيسى عليه السَّلامُ في السَّماءِ حَيٌّ، وأنَّه يَنزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ)
[572] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/444). .
وقال السَّفَّارينيُّ: (قد أجمعت الأُمَّةُ على نُزولِه، ولم يخالِفْ فيه أحدٌ مِن أهلِ الشَّريعةِ، وإنَّما أنكر ذلك الفلاسِفةُ والملاحِدةُ، وقد انعقد إجماعُ الأُمَّةِ على أنَّه مُتَّبِعٌ لهذه الشَّريعةِ المُحَمَّديَّةِ، وليس بصاحِبِ شَريعةٍ مُستَقِلَّةٍ عند نزولِه من السَّماءِ، وإن كانت النُّبُوَّةُ قائمةً به)
[573] يُنظر: ((البحور الزاخرة في علوم الآخرة)) (2/615). .
وقال
الألُوسيُّ: (لا يقدَحُ في ذلك ما أجمعت الأُمَّةُ عليه واشتهرت فيه الأخبارُ، ولعَلَّها بلغت مبلَغَ التواتُرِ المعنويِّ، ونطق به الكِتابُ على قَولٍ، ووجب الإيمانُ به، وأُكفِرَ مُنكِرُه كالفلاسِفةِ، من نزولِ عيسى عليه السَّلامُ آخِرَ الزَّمانِ)
[574] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/213). .