الفَرعُ السَّادِسُ: كَفُّ الأعداءِ عنه
قال اللهُ تعالى:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة: 67] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] .
ومن ذلك ما رواه سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حيث قال:
((غزونا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُنَينًا، فولَّى صحابةُ رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا غَشُوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نزل عن البَغلةِ، ثمَّ قبض قبضةً من ترابِ الأرضِ، ثمَّ استقبل به وُجوهَهم، فقال: شاهت الوُجوهُ [983] قال النووي: (أي: قبُحَت. واللهُ أعلَمُ). ((شرح مسلم)) (12/ 122). ، فما خلق اللهُ منهم إنسانًا إلَّا ملأ اللهُ عينيه ترابًا بتلك القبضةِ، فوَلَّوا مُدبِرين، فهزمهم اللهُ، وقسم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غنائِمَهم بين المُسلِمين )) [984] رواه مسلم (1777). .
قال
النووي: (هذا أيضًا فيه مُعْجِزتانِ: خبريَّةٌ وفِعليَّةٌ)
[985] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/ 116). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قالَ أَبُو جَهْلٍ: هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قالَ فقِيلَ: نَعَمْ، فَقالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذلكَ لأَطَأنَّ علَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ، قالَ: فأتَى رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهو يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ علَى رَقَبَتِهِ، قالَ: فَما فَجِئَهُمْ منه إلَّا وَهو يَنْكُصُ علَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بيَدَيْهِ، قالَ: فقِيلَ له: ما لَكَ؟ فَقالَ: إنَّ بَيْنِي وبيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِن نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً. فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا )) [986] رواه مسلم (2797). .
قال عياضٌ: (هذا من جملةِ آياتِه عليه السَّلامُ وعلاماتِ نبُوَّتِه؛ ولهذا الحديثِ أمثلةٌ كثيرةٌ في عِصمَتِه من أبي جَهلٍ وغَيرِه ممن أراد ضُرَّه، وحمايةِ اللهِ له بما ذُكِر، وتلك الأجنِحةُ أجنِحةُ المَلائِكةِ، واللهُ أعلَمُ)
[987] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 329). .
وعن
جَابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، أنَّهُ غَزَا مع رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَفَلَ معهُ، فأدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ في وادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ
[988] العِضاهُ: شجَرٌ عظيمٌ له شَوكٌ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 255). ، فَنَزَلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحْتَ سَمُرَةٍ وعَلَّقَ بهَا سَيْفَهُ، ونِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدْعُونَا، وإذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقالَ: إنَّ هذا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي، وأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وهو في يَدِهِ صَلْتًا
[989] قال ابن حجر: (أي: مجرَّدًا عن غِمْدِه). ((فتح الباري)) (7/427). ، فَقالَ:
((مَن يَمْنَعُكَ مِنِّي؟)) فَقُلتُ: اللَّهُ -ثَلَاثًا- ولَمْ يُعَاقِبْهُ وجَلَسَ
[990] رواه البخاري (2910) واللَّفظُ له، ومسلم (843). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (يُؤخَذُ مِن مراجعةِ الأعرابيِّ له في الكلامِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى منع نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منه، وإلَّا فما أحوَجَه إلى مراجعتِه مع احتياجِه إلى الحظوةِ عند قَومِه بقَتْلِه، وفي قولِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جوابِه: الله، أي: يمنعُني منك، إشارةٌ إلى ذلك؛ ولذلك أعادها الأعرابيُّ فلم يزِدْه على ذلك الجوابِ، وفي ذلك غايةُ التهَكُّمِ به وعدمُ المبالاةِ به أصلًا)
[991] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 427). .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ في آياتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المتعَلِّقةِ بالقُدرةِ والفِعلِ والتأثيرِ: (النوعُ السابعُ في كفايةِ اللهِ له أعداءَه، وعِصمتِه له من النَّاسِ، وهذا فيه آيةٌ لنبُوَّتِه من وُجوهٍ:
منها: أنَّ ذلك تصديقٌ لقَولِه تعالى:
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 94 - 96] ، فهذا إخبارُ اللهِ بأنَّه يكفيه المُشرِكين المُستَهزِئين.
وأخبر أنَّه يكفيه أهلَ الكِتابِ بقَولِه:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 136، 137]، فأخبره اللهُ أنَّه يكفيه هؤلاء الشَّاقِّين له من أهلِ الكِتابِ.
وأخبره أنَّه يَعصِمُه من جميعِ النَّاسِ بقَولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ، فهذا خبرٌ عامٌّ بأنَّ اللهَ يَعصِمُه من جميعِ النَّاسِ.
فكُلٌّ من هذه الأخبارِ الثَّلاثةِ العامَّةِ قد وقع كما أخبر، وفي هذا عِدَّةُ آياتٍ؛ منها: أنَّه كفاه أعداءَه بأنواعٍ عجيبةٍ خارجةٍ عن العادةِ المعروفةِ.
ومنها: أنَّه نصَرَه مع كثرةِ أعدائِه، وقُوَّتِهم، وغَلَبَتِهم، وأنَّه كان وَحْدَه جاهِرًا بمعاداتهم، وسَبِّ آبائهم، وشَتمِ آلهتِهم، وتسفيهِ أحلامِهم، والطَّعنِ في دينِهم، وهذا من الأمورِ الخارقةِ للعادةِ، والمستهزئون كانوا من أعظَمِ ساداتِ قُرَيشٍ، وعُظَماءِ العَرَبِ، وكان أهلُ مكَّةَ أهلُ الحَرَمِ أعزَّ النَّاسِ وأشرَفَهم، يُعَظِّمُهم جميعُ الأُمَمِ.
أما العَرَبُ فكانوا يدينون لهم، وأمَّا غيرُهم من الأممِ فكانوا يُعَظِّمونهم به، لا سيَّما من حينِ ما جرى لأهلِ الفِيلِ ما جرى... وساق قِصصًا كثيرةً ثُمَّ قال:
ويدخُلُ في هذا البابِ ما لم يَزَلِ النَّاسُ يرونه، ويسمعونه من انتقامِ اللهِ ممَّن يَسُبُّه، ويذُمُّ دينَه بأنواعٍ مِن العقوباتِ، وفي ذلك من القِصَصِ الكثيرةِ ما يضيقُ هذا الموضِعُ عن بَسْطِه، وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطولُ وَصفُه من انتقامِ اللهِ ممن يؤذيه، بأنواعٍ مِن العقوباتِ العجيبةِ التي تُبَيِّنُ كلاءةَ اللهِ لعِرْضِه، وقيامَه بنَصْرِه، وتعظيمَه لقَدْرِه، ورَفْعَه لذِكْرِه، وما من طائفةٍ من النَّاسِ إلَّا وعندهم من هذا البابِ ما فيه عِبرةٌ لأُولي الألبابِ، ومن المعروفِ المشهورِ المجَرَّبِ عند عساكِرِ المُسلِمين بالشَّامِ إذا حاصروا بعضَ حُصونِ أهلِ الكِتابِ أنَّه يتعَسَّرُ عليهم فتحُ الحِصْنِ، ويطولُ الحِصارُ إلى أن يَسُبَّ العَدُوُّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحينئذٍ يَستبشِرُ المُسلِمون بفَتحِ الحِصْنِ، وانتقامِ اللهِ مِنَ العَدُوِّ؛ فإنَّه يَكونُ ذلك قريبًا، كما قد جرَّبه المُسلِمون غيرَ مَرَّةٍ؛ تحقيقًا لقَولِه تعالى:
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] .
ولَمَّا مَزَّق كِسرى كِتابَه مَزَّقُ اللهُ مُلْكَ الأكاسِرةِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، ولَمَّا أكرم هِرقَلُ والمُقَوقِسُ كِتابَه بَقِيَ لهم مُلْكُهم)
[992] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (6/ 273-296). .