المطلبُ الثَّاني: مِن شُروطِ وَلايةِ اللهِ تعالى اتِّباعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] .
عَنِ
الحَسَنِ البَصْريِّ قال: (جَعَلَ اللهُ اتِّباعَ نَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَمًا لحُبِّه وعَذابِ مَن خالَفَه)
[1099] رواه ابن جرير في تفسيره (5/ 325). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (قد بيَّنَ اللهُ فيها أنَّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسولَ فإنَّ الله يُحِبُّه، ومَنِ ادَّعى مَحَبَّةَ الله ولم يَتَّبِعِ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليسَ مِن أولياءِ الله، وإن كانَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظنُّونَ في أنفُسِهم أو في غيرِهم أنَّهم مِن أولياءِ الله، ولا يَكونونَ مِن أولياءِ الله)
[1100] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 12). .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الواسِطةُ بينَ الله وبينَ خَلقِه في تَبليغِ أمرِه ونَهيِه، ووَعدِه ووَعيدِه وحَلالِه وحَرامِه؛ فالحَلالُ ما أحَلَّه اللهُ ورَسولُه، والحَرامُ ما حَرَّمَه اللهُ ورَسولُه، والدِّينُ ما شَرعَه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَنِ اعتَقدَ أنَّ لأحَدٍ مِنَ الأولياءِ طَريقًا إلى الله مِن غيرِ مُتابَعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو مِن أولياءِ
الشَّيطانِ [1101] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) لابن تيمية (ص: 22). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (لا يَكونُ وليًّا للهِ إلَّا من آمَنَ بالرَّسولِ وبِما جاءَ به، واتَّبَعه باطِنًا وظاهرًا، ومَن ادَّعى مَحَبَّةَ اللهِ ووَلايَتَه وهو لم يَتَّبِعْه، فليسَ من أولياءِ اللهِ، بَل من خالَفَه كانَ من أعداءِ اللهِ، وأولياءِ
الشَّيطانِ)
[1102] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 12). .
واليهودُ والنَّصارى ادَّعَوا ولايةَ اللهِ تعالى لهم، فأكذبهم اللهُ عزَّ وجَلَّ.
قال اللهُ تعالى:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أنتم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة: 18] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قال تعالى رادًّا على اليَهودِ والنَّصارى في كَذِبِهم وافتِرائِهم:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أي: نحن مُنتَسِبونَ إلى أنبيائِه، وهم بَنُوه ولَه بهم عِنايةٌ، وهو يُحِبُّنا، ونَقَلوا عَن كِتابِهم أنَّ اللهَ تعالى قال لعَبدِه إسرائيلَ: «أنتَ ابني بِكْري». فحَمَلوا هَذا على غيرِ تَأويلِه، وحَرَّفوه. وقد رَدَّ عليهم غيرُ واحِدٍ مِمَّن أسلمَ من عُقلائِهم، وقالوا: هَذا يُطلَقُ عِندَهم على التَّشريفِ والإكرامِ، كما نَقَلَ النَّصارى عَن كِتابِهم أنَّ عيسى قال لهم: إنِّي ذاهبٌ إلى أبي وأبيكم، يَعني: رَبِّي ورَبِّكم. ومَعلومٌ أنَّهم لم يَدَّعوا لأنفُسِهم من البُنوَّةِ ما ادَّعَوها في عيسى عليه السَّلامُ، وإنَّما أرادوا بذلك مَعَزَّتَهم لديه وحظوَتَهم عِندَه؛ ولِهَذا قالوا: نحن أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤُه، قال اللهُ تعالى رادًّا عليهم:
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: لو كُنتُم كما تَدَّعونَ أبناءَه وأحبَّاءَه، فلِمَ أعَدَّ لكم نارَ جَهنَّمَ على كُفْرِكم وكَذِبِكم وافِتِرائِكم؟)
[1103] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 68). .
وقال الله سُبحانَه:
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 111، 112].
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (كثيرٌ من النَّصارى واليَهودِ يَعتَقِدونَ أنَّهم أولياءُ اللهِ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، ولَكِن يَقولونَ: إنَّما أُرسِلَ إلى غيرِ أهلِ الكِتابِ، وإنَّه لا يَجِبُ علينا اتِّباعُه؛ لأنَّه أَرسَلَ إلينا رُسُلًا قَبلَه... وإنَّما أولياءُ اللهِ الذينَ وصَفَهم اللهُ تعالى بولايَتِه بقَولِه:
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63])
[1104] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 19). بتصرُّفٍ يسير. .
وكانَ مُشرِكو العَربِ يَدَّعونَ أنَّهم أهْلُ اللهِ لسُكناهم مَكَّةَ، ومُجاوَرَتِهم البيتَ، وكانوا يَستَكبِرونَ به على غيرِهم.
قال الله تعالى:
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون:66، 67].
قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى:
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أظهَرُ الأقاويلِ: أنَّ المُرادَ منه الحَرَمُ، ويُقالُ: البيتُ، أي: مُتَعَظِّمينَ بالبيتِ الحَرامِ، وتَعظيمُهم أنَّهم كانوا يَقولونَ: نحن أهْلُ اللهِ وجيرانُ بيتِه، وكانَ سائِرُ العَربِ في خَوفٍ، وهم في أمنٍ، هَذا قَولُ
ابنِ عَبَّاسٍ، ومَجاهِدٍ وجماعةٍ)
[1105] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 482). .
وقال
السَّعديُّ: (
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ قال المُفسِّرونَ: مَعناه: مُستَكبرينَ به، الضَّميرُ يَعودُ إلى البيتِ المَعهودِ عِندَ المُخاطَبينَ، أوِ الحَرَمِ، أيِ: مُتَكبِّرينَ على النَّاسِ بسَبَبِه تَقولونَ: نحن أهلُ الحَرَمِ، فنحن أفضَلُ من غيرِنا وأعلى
سَامِرًا أي: جماعةً يَتَحَدَّثونَ باللَّيلِ حَولَ البيتِ
تَهْجُرُونَ أي: تَقولونَ الكلامَ الهُجْرَ الذي هو القَبيحُ في هَذا القُرآنِ)
[1106] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 555). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنفال: 34].
قال
الشَّوكانيُّ: (هَذا كالرَّدِّ لِما كانوا يَقولونَه من أنَّهم وُلاةُ البيتِ، وأنَّ أمرَه مُفوَّضٌ إليهم، ثُمَّ قال مُبيِّنًا لِمَن له ذلك:
إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقونَ أي: ما أولياؤُه إلَّا من كانَ في عِدادِ المُتَّقينَ للشِّركِ والمَعاصي، ولَكِنَّ أكثَرَهم لا يَعلمونَ ذلك)
[1107] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 349). .
فبيَّنَ سُبحانَه أنَّ المُشرِكينَ ليسوا أولياءَه ولا أولياءَ بيتِه، إنَّما أولياؤُه المُتَّقونَ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (في أصنافِ المُشرِكينَ من مُشركيِ العَرَبِ ومُشرِكيِ الهندِ والتُّركِ واليونانِ وغيرِهم مَن له اجتِهادٌ في العِلمِ والزُّهدِ والعِبادةِ، ولَكِن ليسَ بمُتَّبِعٍ للرُّسُلِ، ولا يُؤمِنُ بما جاؤوا به، ولا يُصَدِّقُهم بما أخبَروا به، ولا يُطيعُهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمُؤمِنينَ ولا أولياءَ للهِ، وهؤلاء تَقتَرِنُ بهم الشَّياطينُ، وتَنزِلُ عليهم، فيُكاشِفونَ النَّاسَ ببَعضِ الأمورِ، ولهم تَصَرُّفاتٌ خارِقةٌ من جِنسِ السِّحرِ، وهم من جِنسِ الكُهَّانِ والسَّحَرةِ الذينَ تَنزِلُ عليهم الشَّياطينُ، قال تعالى:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:221-223] ، وهؤلاء جَميعُهم الذينَ يَنتَسِبونَ إلى المُكاشَفاتِ وخَوارِقِ العاداتِ إذا لم يَكونوا مُتَّبِعينَ للرُّسُلِ فلا بُدَّ أن يَكذِبوا وتكذبُهم شياطينُهم، ولا بُدَّ أن يَكونَ في أعمالِهم ما هو إثمٌ وفُجورٌ، مِثلُ نَوعٍ من الشِّركِ أوِ الظُّلمِ أوِ الفواحِشِ أوِ الغُلُوِّ أوِ البِدَعِ في العِبادةِ؛ ولِهَذا تَنزَّلَت عليهم الشَّياطينُ واقتَرَنتْ بهم، فصاروا من أولياءِ
الشَّيطانِ لا من أولياءِ الرَّحمَنِ، قال اللهُ تعالى:
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] . وذِكرُ الرَّحمَنِ هو الذِّكرُ الذي بَعثَ به رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِثلُ القُرآنِ، فمَن لم يُؤمِنْ بالقُرآنِ ويُصَدِّقْ خَبرَه ويَعتَقِدْ وُجوبَ أَمرِه، فقد أعرَضَ عَنه، فيُقَيَّضُ له
الشَّيطانُ، فيَقتَرِنُ به)
[1108] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 23). .
وعَن
عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ الله عَنه قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِهارًا غيرَ سِرٍّ يَقولُ:
((ألَا إنَّ آلَ أبي -يَعني فُلانًا- ليسوا لي بأولياءَ، إنَّما وليِّي اللهُ وصالِحُ المُؤمِنينَ )) [1109] رواه البخاري (5990)، ومسلم (215) واللَّفظُ له. .
قال عِياضٌ: (دَلَّ الحَديثُ أنَّ الوَلايةَ في الإسلامِ إنَّما هي بالموافَقةِ فيه بخِصالِ الدِّيانةِ وزِمامِ الشَّريعةِ، لا بامتِشاجِ النَّسَبِ، وشِجْنةِ الرَّحِمِ)
[1110] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/ 600). .
وهَذا مُوافِقٌ لقَولِ الله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم: 4] .
قال
البَغَويُّ: (قَولُه:
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ أي: تَتَظاهَرا وتَتَعاوَنا على أذى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ أي: وَلِيُّه وناصِرُه. قَولُه:
وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ رُوِيَ عَنِ
ابنِ مَسعودٍ وأُبَيِّ بنِ كَعبٍ: وصالِحُ المُؤمِنينَ:
أبو بَكرٍ وعُمرُ رَضيَ الله عَنهما، وقال الكلبيُّ: هم المُخْلِصونَ الذينَ ليسوا بمُنافِقينَ. قَولُه:
وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ قال مُقاتِلٌ: بَعدَ الله وجِبريلَ وصالِحِ المُؤمِنينَ ظَهيرٌ، أي: أعوانُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1111] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 121). .
قال
ابن حجر الهيتمي: (فليَحذَرْ كُلُّ عاقِلٍ غايةَ الحَذَرِ من أن يَتَّكِلَ على شَرفِ نَسَبِه وفضيلةِ آبائِه ويُقصِّرَ في العَمَلِ؛ فإنَّ ذلك يُورِثُه غايةَ النَّقصِ والِانحِطاطِ عَن مَعاليهم، ونِهايةَ الحَسرةِ والنَّدامةِ على التَّخَلُّفِ عَن كمالِهم، ومِن ثَمَّ كانَ التَّفاخُرُ بالآباءِ من أخلاقِ الجاهليَّةِ؛ قال تعالى:
فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)
[1112] يُنظر: ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) (ص: 581). .