الْمَبحَثُ الثَّاني والثَّلاثونَ: شُربُ الخَمرِ
عَن
أنسِ بن مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مِن أشراطِ السَّاعةِ)) وذَكَرَ مِنها
((ويُشرَبَ الخَمرُ)) [2183] أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه:
((ويُشرَبَ الخَمْرُ)) هو بضَمِّ الْمُثَناةِ أوَّلُه وفَتحِ الْمُوَحَّدةِ على العَطفِ، والمُرادُ: كثرةُ ذلك واشتِهارُه، وعِندَ الْمُصَنِّفِ في النِّكاحِ من طَريقِ هِشامٍ عَن قَتادةَ:
((ويَكثُرَ شُربُ الخَمرِ)) [2184]يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 178). .
وعَن أبي مالِكٍ الأشعَريِّ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليَشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخَمرَ يُسَمُّونَها بغَيرِ اسمِها، يُعزَفُ على رُؤوسِهم بالمَعازِفِ، يَخسِفُ اللهُ بهم الأرضَ، ويَجعَلُ مِنهم القِرَدةَ والخَنازيرَ )) [2185] أخرجه أبو داود (3688)، وأحمد (22900) مختصرًا، وابن ماجه (4020) واللَّفظُ له صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6758)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/21)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4020)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3688)، وصحَّح إسنادَه ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/392). وقال ابن تيمية في ((بيان الدليل)) (94): إسناده إلى معاوية بن صالح صحيحٌ، وسائر إسناده حسن. .
قال الْمظهريُّ: (قَولُه:
((ليَشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخَمرَ يُسَمُّونَها بغَيرِ اسمِها)) يَعني: يَشرَبونَ الْمُسكِرَ من نَبيذِ التَّمرِ أوِ العِنَبِ أوِ الذُّرَةِ أو غَيرِها، وكُلُّ ذلك حَرامٌ؛ لأنَّها مُسكِرةٌ، ويَقولونَ: ما نَشرَبُه لَيسَ بخَمرٍ؛ لأنَّه لَيسَ مِنَ العِنَبِ، وهم في هذا الكَلامِ كاذِبونٌ؛ لأنَّ كُلَّ ما يُسكِرُ فحُكمُه حُكمُ الخَمرِ في التَّحريمِ)
[2186] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (4/ 539). .
وقال
الْمُناويُّ: (
((ليَشربنَّ أناسٌ من أمَّتي الخَمرَ يُسَمُّونَها بغَيرِ اسمِها ويُضرَبُ على رُؤوسِهم بالمَعازِفِ)) أيِ الدَّفوفِ ونَحوِها،
((والقَيْناتِ)) أيِ الإماءِ الْمُغنِّياتِ
((يَخسِفُ الله بهم الأرضَ ويَجعَلُ مِنهم القِرَدةَ والخَنازيرَ))، وفيه وعيدٌ شَديدٌ على مَن يَتَحَيَّلُ في تَحليلِ ما يُحرَّمُ بتَغييرِ اسمِه، وأنَّ الحُكمُ يَدورُ مَعَ العِلَّةِ في تَحريمِ الخَمرِ، وهيَ الإسكارُ؛ فمَهما وُجِدَ الإسكارُ وُجِدَ التَّحريمُ ولَو لَم يَستَمِرَّ الِاسمُ)
[2187] يُنظر: ((فيض القدير)) (5/ 391). .
وعَن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لتَستَحِلَّنَّ طائِفةٌ من أمَّتي الخَمرَ باسمٍ يُسَمُّونَها إيَّاه)) [2188] أخرجه ابن ماجه (3385)، وأحمد (22709) واللَّفظُ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3385)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22709)، وجوَد إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/54). .
قال
الْمُناويُّ: (
((لتَستَحِلَّنَّ طائِفةٌ من أمَّتي الخَمرَ باسمٍ يُسَمُّونَها إيَّاه)) فيَقولونَ: هذا نَبيذٌ، مَعَ أنَّه مُسكِرٌ وكُلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ؛ لأنَّه يُخامِرُ العَقلَ، وهذا وعيدٌ للقائِلين بحِلِّ النَّبيذِ الْمُسكِرِ)
[2189] يُنظر: ((فيض القدير)) (5/ 262). .
وقال
الصَّنعانيُّ: (
((لتَستَحِلَّنَّ طائِفةٌ من أمَّتي الخَمْرَ)) يَجعَلونَه حَلالًا في زَعمِهم
((باسمٍ يُسَمُّونَها إيَّاه)) بسَبَبِ تَسميَتِها بغَيرِ اسمِها، فيَقلِبونَ الِاسمَ يَستَحِلُّون به الجِسمَ تَحيُّلًا على تَحليلِ ما حَرَّمَ اللهُ، وقَد وقَعَ ذلك)
[2190] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (9/ 29). .
وفَسَّرَ
ابنُ العَرَبيِّ استِحلالَ الخَمرِ بتَفسيرينِ، فقال: (يُحتَمَلُ أن يَكونَ قَولُه:
((يَستَحِلُّونَ الحِرَ)) وما ذُكِرَ مَعَه حَقيقةً يَعتَقِدونَ ذلك حَلالًا. ويُحتَمَلُ أن يَكونَ مَجازًا تَقديرُه يَستَرسِلونَ فيه استِرسالَ العَبدِ في الحَلالِ، كأنَّه حَلالٌ، وقَد سَمِعنا ذلك فيما تَقَدَّمَ، ورَأيناه فيمَن عاصَرْنا)
[2191] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (8/ 41). .
وقَد سُمِّيَت في عَصرِنا بالمَشروباتِ الرُّوحيَّةِ، والكُحول.
ويَبدو من ظاهِرِ الأحاديثِ أنَّها لا تَتَحَدَّثُ عَن مُجَرَّدِ وُقوعِ ذلك واللهُ تعالى أعلمُ، بَل فُشُوِّهِ وانتِشارِه بصورةٍ غَريبةٍ غَيرِ مَعهودةٍ لَدى البَشَرِ. ونَحنُ الآنَ في زَمانٍ قَد صارَت فيه للخُمورِ مَصانِعُ عالَميَّةٌ ضَخمةٌ وكَثيرةٌ، ولِلخُمورِ أصنافٌ كثيرةٌ جِدًّا، هذا مَعَ انتِشارِها في الأماكِنِ العامَّةِ في كثيرٍ مِنَ الدُّوَلِ.
قال الكرمانيُّ: (فإن قُلتَ: شُربُ الخَمرِ كيفَ يَكونُ من عَلاماتِها والحالُ أنَّه واقِعٌ في جَميعِ الأزمانِ، وقَد حَدَّ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعضَ النَّاسِ لشُربِه إيَّاها؟ قُلْتُ: الْمُرادُ أن يُشرَبَ شُرْبًا فاشيًا، أو أن نَفسَ الشُّربِ وحدَه لَيسَ عَلامةً بَلِ العَلامةُ مَجموعُ الأمورِ الْمَذكورةِ يَعني ما ذُكِرَ مَعَ الخَمرِ في الحَديثِ ككَثرةِ الزِّنَا وغَيرِ ذلك مِنَ العَلاماتِ)
[2192] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (2/ 60). .
وقال أيضًا: (
((تُشرَبُ الخَمرُ)) أي ظاهِرًا عَلانيَةً)
[2193] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (20/ 139). .
وقال أيضًا: (أي: شُربًا فاشيًا بلا مُبالاةٍ)
[2194] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (23/ 199). .
وقال السَّفارينيُّ في أقسامِ
أشراطِ السَّاعةِ: («الثَّانيةُ» الأماراتُ الْمُتَوَسِّطةُ، وهيَ الَّتي ظَهَرَت ولَم تَنقَضِ بَل تَزايَدُ وتَكثُرُ، وهيَ كثيرةٌ جِدًّا...
«مِنها»: ما في صَحيحِ
البُخاريِّ وغَيرِه من حَديثِ
أنسٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّه قال: ألَا أحَدِّثُكم بحَديثٍ سَمِعتُه من رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُحَدِّثُكم به أحَدٌ غَيري، سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّ من أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ، ويَكثُرَ الجَهْلُ، ويَكثُرَ الزِّنا، ويَكثُرَ شُربُ الخَمرِ، ويَقِلَّ الرِّجالُ ويَكثُرَ النِّساءُ، حَتَّى يَكونَ لخَمسينَ امرَأةً القَيِّمُ الواحِدُ )) [2195] أخرجه البخاري (5231) واللَّفظُ له، ومسلم (2671). )
[2196] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 68). .
وقال حُمُود التويجريُّ: (وكَذلك الخَمرُ قَد فشا شُربُها وبيعُها وابتياعُها في كثيرٍ مِنَ البِلادِ الَّتي يَنتَسِبُ أهلُها إلى الإسلامِ، فاللهُ الْمُستَعانُ)
[2197] يُنظر: ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) (2/ 95). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (لَقَد صَدقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ أناسًا يَشرَبونَ الخَمرَ ويُسَمُّونَها بغَيرِ اسمِها، يُقالُ: إنَّها تُسَمَّى بالشَّرابِ الرُّوحيِّ، وما أعظَمَ هذا القَولَ وأبطَلَه وأكذَبَه! فكَيفَ يَكونُ هذا الشَّرابُ الْمُزيلُ للعَقلِ الْمُميتُ للقَلبِ الْمُبعِدُ عَنِ الرَّبِّ، كيفَ يَكونُ شَرابًا رُوحيًّا؟ ما هو إلَّا شَرابٌ خَبيثٌ يُفسِدُ العَقلَ ويُفسِدُ الدِّينَ ويُفسِدُ الفِكرَ أيضًا، ولِهذا صاحِبُه الْمُبتَلى به -والعياذُ باللهِ- لا يَقِرُّ لَه قَرارٌ ولا يَهدَأ لَه بالٌ ولا يَنشَرِحُ لَه صَدرٌ حَتَّى يَعودَ إليه مَرَّةً أخرى، فتَجِدُه دائِمًا في همٍّ وقَلَقٍ حَتَّى يَشرَبَ ويُدمِنَ، نَسألُ اللهَ العافيةَ والسَّلامةَ... ولِهذا حَرَّمَه اللهُ على عِبادِه تَحريمًا مُؤَكَّدًا... ولِهذا قال أهلُ العِلمِ: من أنكَرَ تَحريمَ الخَمرِ وهو مِمَّن عاشَ بينَ الْمُسْلِمينَ لا يَخفى عليه تَحريمُه، فإنَّه يُعتَبَرُ مُرتَدًّا كافِرًا بالله عَزَّ وجَلَّ، يُستَتابُ فإن تابَ وأقَرَّ بتَحريمِه فإنَّه يُرفَعُ عَنه القَتْلُ، وإلَّا قُتِلَ كافِرًا مُرتَدًّا والعِياذُ باللهِ، فالمُهِمُّ أنَّ هذا الحَديثَ وقَعَ مِصداقُه؛ فقَد شُرِبتِ الخَمرُ وسُمِّيَت بغَيرِ اسمِها)
[2198] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (11/ 335). .