المَبحَثُ التَّاسِعُ: أنواعُ الحِسابِ
عن
عائِشةَ رَضِيَ الله عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ليس أحَدٌ يُحاسَبُ يَومَ القيامةِ إلَّا هَلَك))، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أليسَ قد قال اللهُ تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7-8] ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّما ذلكِ العَرضُ، وليس أحَدٌ يُناقَشُ الحِسابَ يَومَ القيامةِ إلَّا عُذِّبَ)) [3747] أخرجه البخاري (6537) واللَّفظُ له، ومسلم (2876). .
قال
النَّوَويُّ: (مَعنى
((نُوقِشَ)) استُقصِيَ عليه. قال القاضي: وقَولُه:
((عُذِّبَ)) له مَعنيانِ: أحَدُهما: أنَّ نَفسَ المُناقَشةِ وعَرْضَ الذُّنوبِ والتَّوقيفَ عليها هو التَّعذيبُ؛ لِما فيه من التَّوبيخِ، والثَّاني: أنَّه مُفضٍ إلى العَذابِ بالنَّارِ، ويُؤَيِّدُه قَولُه في الرِّوايةِ الأخرى:
((هَلَك)) مَكانَ:
((عُذِّبَ)) [3748] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 407). هذا كلامُ القاضي. وهذا الثَّاني هو الصَّحيحُ، ومَعناه أنَّ التَّقصيرَ غالِبٌ في العِبادِ، فمَنِ استُقصِيَ عليه ولَم يُسامَحْ هَلَك ودَخلَ النَّارَ، ولَكِنَّ اللهَ تعالى يَعفو ويَغفِرُ ما دونَ الشِّركِ لِمَن يَشاءُ)
[3749] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 208). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((إنَّما ذلكِ العَرضُ)) يَعني: أنَّ الحِسابَ المَذكورَ في الآيةِ إنَّما هو أن تُعرَضَ أعمالُ المُؤمِنِ عليه، ويُوقَفَ عليها تَفصيلًا حَتَّى يَعرِفَ مِنَّةَ اللهِ تعالى عليه في سَترِها عليه في الدُّنيا، وفي عَفْوِه عنها في الآخِرةِ)
[3750] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 158). .
قال
أبو القاسِمِ الأصبَهانيُّ: (قال بَعضُ العُلَماءِ: يُحاسِبُ اللهُ عِبادَه في القيامةِ ويُناقِشُهم. يُحاسِبُ بالعَرضِ من قَضى له بالمَغفِرةِ، ويُناقِشُ بالحِسابِ من قَضى عليه بالعَذابِ)
[3751] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 546). .
فإذَنْ قَسَّمَ اللهُ عِبادَه في الحِسابِ إلى قِسمينِ:القِسمُ الأوَّلُ: مَن يَكونُ حِسابُه يَسيرًا، وهم أهلُ اليَمينِقال اللهُ تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7 - 8] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا بأن يُنظَرَ في أعمالِه، فيُغفَرُ له سَيِّئُها، ويُجازى على حَسَنِها)
[3752] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 236). .
وقال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا أي: هَيِّنًا، وقيلَ في اليَسيرِ: هو أن يَقبَلَ الحَسَناتِ، ويَتَجاوَزَ عن السَّيئاتِ)
[3753] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 188). .
وقال
البَيضاويُّ: (
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا سَهلًا لا يُناقَشُ فيه)
[3754] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/ 297). .
وقال
السَّعديُّ: (
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وهم أهلُ السَّعادةِ.
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وهو العَرضُ اليَسيرُ على الله، فيُقَرِّرُه اللهُ بذُنوبِه، حَتَّى إذا ظَنَّ العَبدُ أنَّه قد هَلَك، قال اللهُ تعالى له: إنِّي قد سَتَرتُها عليك في الدُّنيا، فأنا أستُرُها لَك اليَومَ)
[3755] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 917). .
القِسمُ الثَّاني: مَن يَلقى سوءَ الحِسابِ وهم أهلُ النَّارِقال اللهُ سُبحانَه:
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد: 18] .
قال
البَغَويُّ: (قال
إبراهيمُ النَّخعيُّ: سوءُ الحِسابِ أن يُحاسَبَ الرَّجُلُ بذَنْبِه كُلِّه، لا يُغفَرُ له من شَيءٍ)
[3756] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 15). .
وقال
البَيضاويُّ: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ، وهو المُناقَشةُ فيه بأن يُحاسَبَ الرَّجُلُ بذَنبِه لا يُغفَرُ منه شَيءٌ)
[3757] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/ 185). .
وقال النَّسَفيُّ: (
أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ المُناقَشةُ فيه، في الحَديثِ:
((من نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ)) [3758] أخرجه البخاري (6536) مطولًا من حديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنه. [3759] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/ 151). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (
أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ أي: في الدَّارِ الآخِرةِ، أي: يُناقَشونَ على النَّقيرِ والقِطْميرِ، والجَليلِ والحَقيرِ، ومَن نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ؛ ولِهذا قال:
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)
[3760] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 449). .
وفي السُّنَّةِ دَلالةٌ على أنَّ المُؤمِنينَ في الحِسابِ ثَلاثةُ أصنافٍ:1- صِنفٌ لا يُحاسَبُ، وهؤلاء طائِفةٌ من أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ عنهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعِدَّتُهم سَبعونَ ألفًا مَعَ زيادةٍ عَظيمةٍ يَدخُلونَ الجَنةَ بلا حِسابٍ.
عن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: خَرجَ علينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا فقال:
((عُرِضَتْ عليَّ الأُمَمُ، فجَعَل يَمُرُّ النَّبيُّ مَعَه الرَّجُلُ، والنَّبيُّ مَعَه الرَّجُلانِ، والنَّبيُّ مَعَه الرَّهطُ، والنَّبيُّ ليس مَعَه أحَدٌ، ورَأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأفُقَ، فرَجَوتُ أن يَكونَ أمَّتي، فقيلَ: هذا موسى وقومُه. ثُمَّ قيلَ لي: انظُرْ. فرَأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأفُقَ، فقيلَ لي: انظُر هَكَذا وهَكَذا. فرَأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأفُقَ، فقيلَ: هؤلاء أمَّتُك، ومَعَ هؤلاء سَبعونَ ألفًا يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ)) [3761] أخرجه البخاري (5752) واللَّفظُ له، ومسلم (220). .
وعن أبي أُمامةَ رَضِيَ الله عنه يَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يَقولُ:
((وعَدَني رَبي أن يُدخِلَ الجَنَّةَ من أمَّتي سَبعينَ ألفًا لا حِسابَ عليهم ولا عَذَابَ، من كُلِّ ألفٍ سَبعونَ ألفًا، وثَلاثُ حَثَيَاتٍ من حَثَيَاتِه [3762] قال عياض: (ثلاثُ حَثَياتٍ، ويروى حَفَنات، بفتح الحاء والفاء والثاء، قيل: هو الغَرْفُ ملءَ اليدِ، وقيل: الحَثْيةُ باليدِ الواحِدةِ والحَفنةُ بهما جميعًا). ((مشارق الأنوار)) (1/ 180). ) [3763] أخرجه الترمذي (2437) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4286)، وأحمد (22303). صححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4286)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22303)، وحسنه الوادعي في ((الشفاعة)) (130)، وقوى إسناده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (16/460)، وجوده ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82). وقال الترمذي: حسن غريب. .
قال السَّفارينيُّ: (ثَبَت في عِدَّةِ أخبارٍ عن النَّبيِّ المُختارِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كَرَّ الليلُ على النِّهارِ، أنَّ طائِفةً من هذه الأمَّةِ بلا ارتيابٍ يَدخُلونَ الجَنةَ بغَيرِ حِسابٍ، فيَدخُلونَ جَناتِ النَّعيمِ قَبلَ وضعِ المَوازينِ، وأخذِ الصُّحُفِ بالشِّمالِ واليَمينِ)
[3764] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/177). .
وقال
ابنُ بازٍ: (هذه الحَثَيَاتُ لا يَعلَمُ مِقدارَها إلَّا اللهُ سُبحانَه وتعالى. والجامِعُ في هذا أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ استقامَ على أمرِ اللهِ وعلى تَركِ مَحارِمِ اللهِ ووَقَفَ عِندَ حُدودِ الله، هو داخِلٌ في السَّبعينَ، داخِلٌ في حُكمِهم بأنَّه يَدخُلُ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ ولا عَذَابٍ)
[3765] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 70). .
2- صِنفٌ لا يُناقَشونَ الحِسابَ، وإنَّما تُعرَضُ أعمالُهم ثُمَّ يُتَجاوَزُ لهم عنها.
عن
عائِشةَ رَضِيَ الله عنها كانت لا تَسمَعُ شَيئًا لا تَعرِفُه إلَّا راجَعَت فيه حَتَّى تَعرِفَه، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن حُوسِبَ عُذِّبَ)). قالت
عائِشةُ: فقُلتُ: أوليس يَقولُ اللهُ تعالى:
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟
[الانشقاق: 8] قالت: فقال:
((إنَّما ذلكِ العَرضُ، ولَكِن من نُوقِشَ الحِسابَ يَهلِكْ )) [3766] أخرجه البخاري (103) واللَّفظُ له، ومسلم (2876). .
وعن
عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ الله عنهما قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّ اللهَ يُدْني المُؤمِنَ، فيَضَعُ عليه كنَفَه ويَستُرُه، فيَقولُ: أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا، أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ فيَقولُ: نَعَم أيْ رَبِّ. حَتَّى إذا قَرَّرَه بذُنوبِه، ورَأى في نَفسِه أنَّه هَلَك، قال: سَتَرْتُها عليك في الدُّنيا وأنا أغفِرُها لَك اليَومَ، فيُعطى كِتابَ حَسَناتِه، وأمَّا الكافِرُ والمُنافِقونَ فيَقولُ الأشهادُ: هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] )) [3767] أخرجه البخاري (2441) واللَّفظُ له، ومسلم (2768). .
قال المُهَلَّبُ: (في هذا الحَديثِ عَظيمُ تَفَضُّلِ اللهِ على عِبادِه المُؤمِنينَ وسَتْرِه لذُنوبِهم يَومَ القيامةِ، وأنَّه يَغفِرُ ذُنوبَ من شاءَ منهم بخِلافِ قَولِ من أنفَذَ الوَعيدَ على أهلِ الإيمانِ؛ لأنَّه لَم يَستَثنِ في هذا الحَديثِ عليه السَّلامُ مِمَّن يَضَعُ عليه كنَفَه وسِتْرَه أحَدًا إلَّا الكُفَّارَ والمُنافِقينَ، فإنَّهم الذينَ يُنادى عليهم على رُؤوسِ الأشهادِ باللَّعنةِ لهم)
[3768] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 570). .
وقال القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((حَتَّى يَضَعَ عليه كنَفَه)) أي: سِتْرَه ولُطفَه وإكرامَه، فيُخاطَبُ خِطابَ المُلاطَفةِ، ويُناجيه مَناجاةَ المُصافاةِ والمُحادَثةِ، فيَقولُ: هَل تَعرِفُ؟ فيَقولُ: رَبِّ أعرِفُ، فيَقولُ الله تعالى مُمتَنًّا عليه ومُظهِرًا فَضْلَه لَدَيه: فإنِّي سَتَرتُها عليك في الدُّنيا، أي: لَم أفضَحْك بها فيها، وأنا أغفِرُها لَك اليَومَ)
[3769] يُنظر: ((التذكرة)) (1/ 303). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّه سُبحانَه وتعالى يَضَعُ عليه سِتْرَه؛ بحَيثُ لا يَراه أحَدٌ، ولا يَسمَعُه أحَدٌ، وهذا من فضلِ الله عزَّ وجَلَّ على المُؤمِنِ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا قَرَّرَك بجِناياتِك أمامَ النَّاسِ وإن سمَحَ عنك؛ ففيه شَيءٌ من الفَضيحةِ، لَكِن إذا كان ذلك وحدَك فإنَّ ذلك سَتْرٌ منه عليك)
[3770] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 154). .
وقال أيضًا: (إنَّ المُناقَشةَ مَعناها: أن يُحاسَبَ فيُطالَبَ بهذه النِّعَمِ التي أعطاه اللهُ إيَّاها؛ لأنَّ الحِسابَ الذي فيه المُناقَشةُ مَعناه: أنَّك كما تَأخُذُ تُعطي، ولَكِنَّ حِسابَ اللهِ لعَبدِه المُؤمِنِ يَومَ القيامةِ ليس على هذا الوَجهِ، بَل إنَّه مُجَرَّدُ فضلٍ من الله تعالى إذا قَرَّرَه بذُنوبِه، وأقَرَّ واعتَرفَ قال:
((سَتَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لَك اليَومَ))، وكَلِمةُ نُوقِشَ تَدُلُّ على هذا؛ لأنَّ المُناقَشةَ الأخذُ والرَّدُّ في الشَّيءِ، والبَحثُ على دَقيقِه وجَليلِه، وهذا لا يَكونُ بالنِّسبةِ لله عزَّ وجَلَّ مَعَ عَبدِه المُؤمِنِ، بَل إنَّ اللهَ تعالى يَجعَلُ الحِسابَ للمُؤمِنينَ مَبنيًّا على الفَضلِ والإحسانِ، لا على المُناقَشةِ والأخذِ بالعَدلِ)
[3771] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 37). .
وهذا هو الحِسابُ اليَسيرُ كما تَقَدَّم.
ولَعَلَّ من أمثِلةِ ذلك ما جاءَ عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ تعالى يَقولُ يَومَ القيامةِ: يا ابنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فلَم تَعُدْني. قال: يا رَبِّ، كيفَ أعودُك وأنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ قال: أمَا عَلِمتَ أنَّ عَبدي فُلانًا مَرِضَ فلَم تَعُدْه، أمَا عَلِمتَ أنَّك لَو عُدْتَه لوَجدْتَني عِندَه؟ يا ابنَ آدَمَ، استَطعَمْتُك فلَم تُطعِمْني. قال: يا رَبِّ كيفَ أُطعِمُك وأنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ قال: أمَا عَلِمتَ أنَّه استَطعَمَك عَبدي فُلانٌ فلَم تُطعِمْه؟ أمَا عَلِمتَ أنَّك لَو أطعَمْتَه لوَجَدْتَ ذلك عِندي؟ يا ابنَ آدَم، استَسقيتُك فلَم تَسقِني. قال: يا رَبِّ كيفَ أسقيك وأنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ قال: استَسْقاك عَبدي فُلانٌ فلَم تَسقِه، أمَا عَلِمتَ أنَّك لَو سَقيتَه وجَدتَ ذلك عِندي؟ )) [3772] أخرجه مسلم (2569). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى:
((يا ابنَ آدَمَ، مَرِضْتُ ذفلَم تَعُدْني، واستَطعَمْتُك فلَم تُطعِمْني، واستَسقيتُك فلَم تَسقِني)): تَنزُّلٌ في الخِطابِ، ولُطفٌ في العِتابِ، ومُقتَضاه التَّعريفُ بعَظيمِ فضلِ ذي الجَلالِ، وبِمَقاديرِ ثَوابِ هذه الأعمالِ، ويُستَفادُ منه أنَّ الإحسانَ للعَبيدِ إحسانٌ للسَّادةِ، فيَنبَغي لهم أن يَعرِفوا ذلك، وأن يَقوموا بحَقِّه)
[3773] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 551). .
وقال
المُناويُّ: (
((إنَّ اللهَ تعالى يَقولُ يَومَ القيامةِ: يا ابنَ آدَم)) خِطابَ مُعاتَبةٍ لا مُناقَشةٍ ومُعاقَبةٍ)
[3774] يُنظر: ((فيض القدير)) (2/ 312). .
وقال
الصَّنعانيُّ: (
((إنَّ اللهَ تعالى يَقولُ)) مُعاتِبًا ومُخاطِبًا
((يَومَ القيامةِ: يا ابنَ آدَم)) خِطابٌ لغَيرِ مُعَيَّنٍ بَل لِمَن يَصلُحُ لذلك العِتابِ، وحينَ كان المَوقِفُ مَوقِفَ عَتْبٍ لَم يُشرِّفْه بالإضافةِ إليه تعالى بـ
((يا عَبدي)) [3775] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (3/ 418). .
3- صِنفٌ يُناقَشونَ الحِسابَ ويُسألونَ فيه عن أعمالِهم، فيُحاسَبونَ مُحاسَبةَ مَن توزَنُ حَسَناتُه وسيِّئاتُه. قال عَبدُ العَزيزِ السلمان: (بينَ مُحاسَبةِ المُؤمِنِ والكافِرِ فرقٌ؛ فإنَّ المُؤمِنَ توزَنُ حَسَناتُه وسيِّئاتُه، فمَن رَجَحَت حَسَناتُه بسَيِّئاتِه دَخلَ الجَنَّةَ، ومن خَفَّتْ مَوازينُه بأن رَجَحَت سَيِّئاتُه بحَسَناتِه دَخلَ النَّارَ، وأمَّا من تَساوَتْ حَسَناتُه وسيِّئاتُه فقيلَ: أولَئِك أصحابُ الأعرافِ، وأمَّا الكُفَّارُ فلا يُحاسَبونَ مُحاسَبةَ مَن توزَنُ حَسَناتُه وسيِّئاتُه؛ فإنَّه لا حَسَناتٍ لهم ولَكِنْ تُعَدُّ أعمالُهم فتُحصى فيوقَفونَ عليها ويُقَرَّرونَ بها، قال اللهُ تعالى:
أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ [الرعد: 18] ، وقال:
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] ، وقال:
فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] ، وقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39] )
[3776] يُنظر: ((الكواشف الجلية)) (ص: 576). .
ومن أمثِلةِ هذا الصِّنفِ صاحِبُ البِطاقةِ الذي قال فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ الله سَيُخَلِّصُ رَجُلًا من أمَّتي على رُؤوسِ الخَلائِقِ يَومَ القيامةِ، فيَنشُرُ عليه تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقولُ: أتُنكِرُ مِن هذا شَيئًا؟ أظلَمَك كتَبَتي الحافِظونَ؟ فيَقولُ: لا يا رَبِّ، فيَقولُ: أفلَك عُذرٌ؟ فيَقولُ: لا يا رَبِّ، فيَقولُ: بلى إنَّ لَك عِندَنا حَسَنةً فإنَّه لا ظُلمَ عليك اليَومَ، فتُخرَجُ بطاقةٌ فيها: أشهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، فيَقولُ: احضُرْ وزنَك، فيَقولُ: يا رَبِّ، ما هذه البِطاقةُ مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ؟! فقال: إنَّك لا تُظلَمُ، قال: فتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ والبِطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشَتِ السِّجِلَّاتُ وثَقُلَتِ البِطاقةُ، فلا يَثقُلُ مَعَ اسمِ اللهِ شَيءٌ )) [3777] أخرجه الترمذي (2639) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) من حديثِ عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595) .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: حَدَّثَني رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنَّ اللهَ تَبارك وتعالى إذا كان يَومُ القيامةِ يَنزِلُ إلى العِبادِ ليَقضيَ بينَهم، وكُلُّ أمَّةٍ جاثيةٌ، فأوَّلُ مَن يَدعو به رَجُلٌ جَمعَ القُرآنَ، ورَجُلٌ يَقتَتِلُ في سَبيلِ اللهِ، ورَجُلٌ كثيرُ المالِ، فيَقولُ اللهُ للقارِئِ: ألم أعلِّمْك ما أنزَلتُ على رَسولي؟ قال: بلى يا رَبِّ، قال: فماذا عَمِلْتَ فيما عَلِمتَ؟ قال: كُنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ، فيَقولُ اللهُ له: كذَبْتَ، وتَقولُ له المَلائِكةُ: كذَبْتَ، ويَقولُ اللهُ: بَل أرَدتَ أن يُقالَ: إنَّ فُلانًا قارِئٌ فقد قيلَ ذاك. ويُؤتى بصاحِبِ المالِ فيَقولُ اللهُ له: ألم أُوسِّعْ عليك حَتَّى لَم أدَعْك تَحتاجُ إلى أحَدٍ؟ قال: بلى يا رَبِّ، قال: فماذا عَمِلْتَ فيما آتيتُك؟ قال: كُنتُ أصِلُ الرَّحِمَ وأتَصَدَّقُ، فيَقولُ اللهُ له: كذَبْتَ، وتَقولُ له المَلائِكةُ: كذَبْتَ، ويَقولُ اللهُ تعالى: بَل أرَدتَ أن يُقالَ: فُلانٌ جَوادٌ، فقد قيلَ ذاك. ويُؤتى بالذي قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ، فيَقولُ اللهُ له فيماذا قُتِلْتَ؟ فيَقولُ: أُمِرْتُ بالجِهادِ في سَبيلِك فقاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فيَقولُ اللهُ تعالى له: كذَبْتَ، وتَقولُ له المَلائِكةُ: كذَبْتَ، ويَقولُ اللهُ: بَل أرَدتُ أن يُقالَ: فُلانٌ جَريءٌ، فقد قيلَ ذاك. ثُمَّ ضَربَ رَسولُ اللهِ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ على رُكبَتي، فقال: يا أبا هُريرةَ، أولَئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهمُ النَّارُ يَومَ القيامةِ! )) [3778] أخرجه الترمذي (2382) واللَّفظُ له، وابن حبان (408)، والحاكم (1527). صحَّحه ابن حبان، والقرطبي في ((التفسير)) (13/398)، وابن القيم في ((زاد المعاد)) (3/80). وأصل الحديث في صحيح مسلم (1905). .
وفي رِوايةٍ عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى يَومَ القيامةِ عليه: رَجُلٌ استُشهِدَ، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيك حَتَّى استُشهِدْتُ، فقال: كذَبْتَ، ولَكِنَّك قاتَلتَ لأن يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وَجهِه، حَتَّى ألقيَ في النَّارِ. ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وعَلَّمَه، وقَرَأ القُرآنَ، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تَعَلَّمتُ العِلمَ وعَلَّمْتُه، وقَرَأتُ فيك القُرآنَ، قال: كذَبتَ، ولَكِنَّك تَعَلَّمتَ العِلمَ ليُقالَ عالِمٌ، وقَرَأتَ القُرآنَ ليُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وَجهِه، حَتَّى ألقِيَ في النَّارِ. ورَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كُلِّه، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: ما تَرَكتُ من سَبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقْتُ فيها لَك، قال: كذَبتَ ولَكِنَّك فعَلْتَ ليُقالَ: هو جَوادٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أمِرَ به فسُحِبَ على وَجهِه، ثُمَّ ألقِيَ في النَّارِ )) [3779] أخرجه مسلم (1905). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (تَقَدَّمَ أنَّ الإخلاصَ في الطَّاعاتِ واجِبٌ، وأنَّ الرِّياءَ يُفسِدُها.
وقَولُه:
((إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى عليه يَومَ القيامةِ رَجُلٌ استُشهِدَ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ، ورَجُلٌ أنفَقَ مالَه))؛ هذا يُخالِفُه:
((أوَّلُ ما يُحاسَبُ به العَبدُ المُسلِمُ من عَمَلِه صَلاتُه))، الحَديث، وقَولُه:
((أوَّلُ ما يُقضى فيه بينَ النَّاسِ في الدِّماءِ)). قد يَسبِقُ إلى الوَهمِ أنَّ هذه الأحاديثَ مُتَعارِضةٌ من حَيثُ الأوَّليَّةِ المَذكورةِ في كُلِّ حَديثٍ منها، وليس كذلك؛ فإنَّه إنَّما كان يَلزَمُ ذلك لَو أريدَ بكُلِّ أوَّلٍ منها أنَّه أوَّلُ بالنِّسبةِ إلى كُلِّ ما يُسألُ عنه، ويُقضى فيه، وليس في شَيءٍ من تلك الأحاديثِ ما يَنُصُّ على ذلك، وإنَّما أرادَ -والله أعلَمُ- أنَّ كُلَّ واحِدٍ من تلك الأوليَّاتِ أوَّلُ بالنِّسبةِ إلى التي في بابِه، فأوَّلُ ما يُحاسَبُ به من أركانِ الإسلامِ الصَّلاةُ، وأوَّلُ ما يُحاسَبُ به من المَظالِمِ الدِّماءُ، وأوَّلُ ما يُحاسَبُ به مِمَّا يَنتَشِرُ فيه صِيتُ فاعِلِه تلك الأمورُ. وهذا أوَّلُ ما يُقارِبُه ويُناسِبُه، وهَكَذا تَعتَبِرُ ما يَرِدُ عليك من هذا البابِ، واللهُ تعالى أعلَمُ)
[3780] يُنظر: ((المفهم)) (3/ 746). .
وقال
النَّوَويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الغازي والعالِمِ والجَوادِ وعِقابِهم على فِعلِهم ذلك لغَيرِ اللهِ، وإدخالِهمُ النَّارَ: دَليلٌ على تَغليظِ تَحريمِ الرِّياءِ، وشِدَّةِ عُقوبَتِه، وعلى الحَثِّ على وُجوبِ الإخلاصِ في الأعمالِ، كما قال اللهُ تعالى
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وفيه أنَّ العُموماتِ الوارِدةَ في فضلِ الجِهادِ إنَّما هيَ لِمَن أراد اللهَ تعالى بذلك مُخلِصًا، وكَذلك الثَّناءُ على العُلَماءِ وعلى المُنفِقينَ في وُجوهِ الخَيراتِ كُلُّه مَحمولٌ على من فَعلَ ذلك لله تعالى مُخلِصًا)
[3781] يُنظر: ((شرح مسلم)) (13/ 50). .